حكاية سياسية

تحالفات الظل.. خطوات متسارعة على وقع فراغ محتمل

طارق عبيد
طارق عبيد

في العام 2009 وقبل شهور معدودة من الذكرى الخامسة والستون لإنزال الحلفاء على شواطىء النورماندي في الحرب العالمية الثانية، عقد الناتو أحد اهم مؤتمراته في مدينة ستراسبورج الفرنسية..خرج الحلف من الحرب الباردة منتصرا، سقط الاتحاد السوفيتي وتفككت جغرافيته، لكن لم تكن للحلف استراتيجية واضحة لادارة فوضى سقوط الاتحاد السوفيتي من الناحية الجيوسياسة. تراجعت اهمية الحلف قليلا فكان لابد من استدراك اميريكي يحافظ على الزخم داخل الحلف بما يضمن استمرار تبعية اوروبا امنيا كجزء من استراتيجية االهيمنة الامنية الامريكية.

 

ظهرت التناقضات داخل الحلف في افغانستان والعراق، من يتحمل التكلفة الامنية و المالية للانتشار العسكري وما هو دور الحلف في ادارة هذة الصراعات في ظل التماهي القسري لسياسة اوروبا الامنية  مع الاهداف الامريكية.لكن الملف الاخطر كان الارث السوفيتي وما هي الطريقة المثلى لملىء الفراغ الناتج عن غياب السوفيت. تيار اوروبي يرى ضرورة استيعاب روسيا الجديدة واعتبارها جزء من اوروبا، ورؤية امريكية ترى ان روسيا خطر مستديم ويجب تقليص مناطق نفوذها القديم وحصارها داخل حدودها.

 

-استراتيجية التفكيك والتمدد:

 

مع بداية تسعينات القرن الماضي اعتمدت الاستراتيجية الامريكية على سياسة مزدوجة في ملئ الفراغ السوفياتي؛ تمدد خشن يعتمد على التدخل العسكري المباشر كما حدث في حرب البوسنة ولاحقا في افغانستان والعراق ثم تدخل ناعم تحت راية التحول الديمقراطي كما حدث في بولندا بدعم الزعيم العمالي ليخ فاوليسا وهو المناهض للمد الشيوعي وصنيعة المخابرات الامريكية والتي انتهت بتحويل بولندا لاحدى النقاط المتقدمة للدرع الامريكية الصاروخية.

استمرت هذة السياسة في حصار وتفكيك جغرافيا الروس والسيطرة على مناطق انتاج الطاقة وطرق امدادها من بحر قزوين والخليج الى جورجيا و اوكرانيا . بدأت الاستراتيجية تؤتي اوكلها في جورجيا بسقوط ادوارد شيفرنادزة رئيس جورجيا واخر وزير خارجية في عهد الاتحاد السوفياتي  لصالح ميخائيل ساكاشفيلي رجل الغرب وصنيعتهم، سقوط شيفرنادزة كان بمثابة الاعلان عن عصر الثورات الملونة، اعلن ساكاشفيلي الحرب على روسيا بحجة استعادة اقليم اوسيتيا الجنوبية في عملية استنزاف مدروسة سيتم تطبيقها لاحقا في اوكرانيا واصبح القرار الجورجي مرهون بالسياسة الامريكية، وفي اوكرانيا اندلعت الثورة البرتقالية على فيكتور يانكوفيتش حليف روسيا ورجلها لصالح يوششينكو حليف امريكا الذي اعلن مناهضة كل ما يمت للعصر السوفيتي. وضعت امريكا اقدامها في البحر الاسود معقل الاسطول الروسي واكتملت دائرة جورجيا/اوكرانيا/بولندا.

 

   -غيوم الربيع العربي :

بالعودة لقمة  الناتو في ستراسبورج التي شهدت عودة فرنسا لهياكل الحلف القيادية بعد سنوات طويلة من الغياب والتي كان لانتخاب ساركوزي دور بارز فيها وهو ما لاقى قبول امريكي واسع  يتامشى مع سعيها لتوحيد جهود الحلف استعدادا لتسونامي قادم بدأت تتجمع غيومه في الافق القريب. حاولت امريكا طمانة اوروبا واظهرت ما يبدو انه تفهم لمخاوفها من حرب محتملة مع روسيا  قد تدفع هي ثمنها بصفتها مسرح العمليات الاقرب او فقدانها مصدر رئيسي من مصادر امدادها بالطاقة اذا توقف الغاز الروسي  المار لها عبر اوكرانيا. كان التفهم الامريكي محاولة لحشد قوة الحلف في مواجهة فوضى خريف عربي تمتد رقعته من جنوب المتوسط في تونس وصولا إلى المنامة على الخليج العربي ، تمت هندسته والاعداد له منذ سنوات وحان وقت اطلاقه.

 

اوكل الحلف لفرنسا وتركيا و امريكا وبشكل اقل لالمانيا وايطاليا حرية الحركة العسكرية على مسرح العمليات الجديد ولكل منهم اطماعه ، وظلت الولايات المتحدة في الخلفية تنسق المواقف وتؤمن التمويل والغطاء السياسي لعمليات الحلف المحتملة.ومن خارج الحلف تم اختيار قطر التي جرى اعداها منذ منتصف التسعينات لتكون رأس حربة في سياسة امريكا فيما يتعلق بالشرق الاوسط ، كان لهذا الاختيار اسباب عديدة اهمها تبنيها مشروع تفكيك الدول العربية الكبرى بما يضمن لها  السيطرة والتمدد دون خوف او ردع من اي قوة اقليمية تقليدية وبخاصة مصر والسعودية ،السبب الثاني كان امتلاكها قوة اعلامية ومالية كبيرة مكنتها من اختراق النخبة في كافة ارجاء الوطن العربي و خاصة جماعات الاسلام السياسي.

 

انطلق الربيع العربي وحصدت موجته الانفجارية الاولى ثلاثة دول عربية هي سوريا واليمن وليبيا وادخلتها في اتون حرب اهلية قضت على الاخضر واليابس، اما مصر وتونس والبحرين فكانت الموجة اقل حدة واستطاعت ان تمتصها بمساعدة اقليمية من الحلفاء التقليديين في الخليج.

 

-نهاية عصر الأحلاف التقليدية لصالح تحالفات الظل:

 

خلف الربيع العربي فوضى عارمة في الاقليم وخرج كل طرف ليقيم ارباحة وخسائره بعد ان هدأ غبار المعارك.

اوروبا وجدت نفسها خاسرة من تبعيتها للقرار الامريكي، اضطربت امدادات الطاقة لديها وتعرضت حدودها لموجات هجرة غير شرعية واصبحت محاطة بواقع جيوساسي رخو يشكل عبئ كبير على امنها الجماعي.

تركيا خسرت مشروعها الاقليمي بعد سقوط الاخوان المسلمين وانكشاف اطماعها في المنطقة وتحولت الى عبئ استراتيجي على الجميع فلا هي كسبت تمدد اقليمي في المحيط العربي و لا استطاعت تبني خطاب اوروبا الامني والجيوساسي فسقطت بوصلتها في حقل مغناطسي و لم تنل رضا الغرب و لا قبول الشرق,

الخليج خرج هو الاخر خاسرا،تفكك البيت الخليجي من الداخل بعد ان تباينت الرؤى و تصاعد التنافس في مشاريع اقليمية متناقضة فانهارت منظومة الامن الجماعي والتي ظلت متماسكة منذ حرب الخليج الثانية.

مصر ربما هي اكثر المستفيدين من فوضى الربيع العربي، استطاعت ان تلملم هذه الفوضى سريعا وتخلصت من اخطر خصومها وهو الاسلام السياسي ورعاته ، كما انها استثمرت تناقض المشروعات الاقليمية في تعزيز تواجدها الاقليمي مرة اخرى محمية بقوة عسكرية متنامية  وتمدد اقليمي في فريقيا وجنوب المتوسط.

اما امريكا فقدت قررت الانسحاب الجزئي من المنطقة لتتفرغ لمعركتها الرئيسية مع الصين وتركت الجميع يعيد ترتيب اوراقه ويبحث عن تحالفات شرقا وغربا تعوض الفراغ الذي خلفه انسحابها.

 

هذا الواقع الجديد دفع الجميع لتجاوز خطايا الربيع العربي فلم يعد يحتمل احد مزيد من الخسائر اوالاستمرار في معارك استنزاف فاكل مثخن بجراح فوضى الربيع العربي والاستمرار يعني حالة من الانتحار الجماعي. الا ان هذا الواقع خلق حالة غير مسبوقة في العلاقات الدولية تشبه الرمال المتحركة، فحليف الامس هو خصم محتمل اليوم وخصم الامس هو حليف محتمل غدا مع قدر مخيف من التقاطعات التي اصبحت تشبة المتاهة استعصت على المحللين السياسين واصبح التنبؤ بحركة الدول وتوجهاتها امر مستحيل. سقطت التحالفات التقليدية  وغاب الثقل السياسي وربما الديني لبعض الدول او تضائل، تراجع مفهوم الامن القومي الجماعي الهش والذي اثبتت التجربة فشله لصالح الامن الفردي او الثنائي للدول فزادت حدة التناقضات وغاب التنسيق فاختلت الرؤى وظهرت وجوه جديدة تبشر بمشهد اقليمي مغاير وتحالفات جديدة  تجمع بين تناقض مشروع السلام الابراهيمي والخلافة في اسطنبول وتدوس باحذيتها الثقيلة تراب المعارك في الفشقة وعلى تخوم السد الاثيوبي، وتقرب بين انقرة والقاهرة فوق حقول غاز المتوسط وتصيغ تحالفات جديدة في طرابلس  وبن غازي تحضر في خلفيتها باريس المثقلة بهموم اوروبا و واقعها الامنى المضطرب.

 

الشاهد انه لفهم التناقضات التي بدأت تظهر على الساحة لابد ان ندرك ان تحالفات الظل هي شكل ومستقبل العلاقات الاقليمية و الدولية وان تبدل المواقف او ربما ضبابيتها سوف تكون هي الحاكم في علاقات الدول ببعضها و اننا مجبرين على قبول هذا التناقض، فربما نتفق جزئيا في ملف ونختلف في جزئية اخرى، وان تطابق المواقف اصبح من الماضي فلا مجال للاستغراب ولا مكان للصدمات.

 

وليبقى الدرس الاعظم من كل هذة التحولات ان بناء قوتنا الذاتية وتنميتها هي مسألة حياة او موت والحفاظ على الكتلة الصلبة لم يعد رفاهية فهي السند اذا غاب الحليف و هي المدد اذا غاب الصديق..ومصر دائما وابدا من وراء القصد.