كثير من الأدب

حلم المعجم التاريخى للعربية

علاء عبد الهادي
علاء عبد الهادي

فى عام 1932 أصدر الملك فؤاء مرسوما ملكيا بإنشاء مجمع اللغة العربية، وكان من بين الأهداف الكثيرة النبيلة التى استهدفت إنشاءه، أن يتولى المجمع  الوليد إنجاز المعجم التاريخى للغة العربية، حيث أن كل لغات العالم الحية مثل الفرنسية والإنجليزية والسويديّة والألمانيّة وغيرها لديها معجمها التاريخى، باستثناء العربية، ولكن ظلّ المشروع العربى لإنجاز المعجم التاريخى يترنّحُ بين نَقصِ التّخطيط وضعف الإمكانيات لعقود طويلة بدأت عندما، أسند إنجاز هذا المعجم إلى المستشرق الألمانى «فيشر أوجست» ولكن اندلاع الحرب العالمية الثانية أحبطت المشروع وقضت عليه، ثم تكررت المحاولة على يد اتحاد المجامع العربية عندما تربع على عرشه العميد د. طه حسين، ولكن المشروع أيضا تعثر، ثم كانت هناك محاولة ثالثة جاءت هذه المرة من تونس التى أنشأت مؤسسة لتحقيق هذا الغرض، وللمرة الثالثة تعثر المشروع، وكأنه محكوم على هذا الحلم ألا يخرج إلى النور حتى كان العام 2016 عندما التقى رؤساء المجامع العربية فى الشارقة فى لقائهم الدورى، وتجدد الحديث، عن الحلم الذى بقى حلما دون تنفيذ لما يقرب من تسعة عقود، كانت المشكلة تتعلق بإمكانيات مادية ضخمة يكاد يصعب تدبيرها، وإدارة علمية تتابع المشروع الذى يحتاج إلى جهد قرابة 300 عالم وباحث ... فمن يتصدى لهذه المسئولية ؟ ! 
وجاء الحل هذه المرة من الشارقة التى تجد فى تبنى الثقافة والمثقفين وخدمة اللغة العربية رسالة وأمانة تسعى إلى تحقيقها بكل السبل، وأعلن وقتها حاكم الشارقة بصفته رئيس مجمع اللغة العربية فى الشارقة تبنى الشارقة للمشروع، وتم إنشاء اتحاد المجامع العربية العلمية فى القاهرة وانطلق جيش من الباحثين والعلماء والمفكرين على مستوى عالمنا العربىلانجاز المشروع، وفى باريس 2020 أعلن عن صدور الأجزاء الثمانية الأولى من هذا المعجم، وخلال افتتاح معرض الشارقة الدولى للكتاب فى دورته ال40 التى بدأت منذ أيام أعلن الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمى إطلاق سبعةَ عشرَ جُزءًا للأحرف الخمسةِ الأولى من العربية، وهو المشروع الكبير الذى يرعاه بنفسه، ويؤرّخُ المعجم للمرة الأولى لمفردات لغة الضاد وتحولات استخدامها عبر 17 قرناً ماضية.. ليس هذا فحسب بل أطلق الموقع الإلكترونى لهذا المعجم .
معاجم كثيرة صدرت مثل معجم (العَيْن)، ومُرورًا بـ (جَمْهرة اللغة)، و(معجم المقاييس)، و(القاموس المحيط)، و(لسان العرب)، و(تاجِ العروس)، وغيرها من أمّهات المعاجم والقواميس العربيّة، ولكن، ورغم أهميتها، كانت اللغة العربية دائما كانت بحاجة إلى معجم كبير متخصص يتتبع تطور مفردات اللغة العربية ويُؤرّخُ لجميع جذورِها وألفاظِها.. وبقى العمل العلمى فى تلك المعاجم السابقة، على روعته وأهميته بل وعظمته، كان ينقصه شيء كبير، حتى يكتمل البنيان يتمثل فى المجم التاريخى للغة العربية الذى تصدت لتنفيذه الشارقة، حبا وكرامة بالتعاون مع المجامع العلمية العربية.
عندما تتصفح هذا المعجم سوف تكتشف الكلمات التى كانت رائجةً فى هذا العصر أو ذاك، والعبارات التى اعتاد الناس استعمالَها فى كلامهم اليومى، وفى كتاباتهم الخاصة والوظيفيّة وحتى فى إبداعاتهم الأدبيّة.
وحسب المعلومات الرسمية المتاحة لهذا الإنجاز العلمى فمجلدات المعجم الأولى تغطى الأحرف الخمسة الأولى: الهمزة، والباء، والتاء، والثاء، والجيم، حيث تقدّم تاريخ المفردات فى السياق الذى وردت فيه فى عصر ما قبل الإسلام، على ألسنة الشعراء الجاهليين، مرورًا بالعصر الإسلامى، وتتبع اللّفظ فى النص القرآنى، والحديث النّبويّ الشريف، مرورًا بالشعر الأموى، فالعباسى إلى العصر الحديث، وترصد حركة الألفاظ.
ويستند المعجم فى إنجازه على قاعدة بيانات تم جمعها وأتمتتها ووضع منهجيات وأنظمة الرجوع إليها خلال الأعوام الأربعة الماضية لتضم اليوم قرابة 20 ألف كتاب ومصدر ووثيقة تاريخيّة خاصة باللغة العربية، منها نقوش وآثار يعود تاريخها إلى القرن الثالث قبل الإسلام.
كما يختص المعجم بتتبع تاريخ الكلمة من حيث جذرها، ويبحث عن جميع الألفاظ المشتقّة منها وتقلّباتها الصوتيّة، ويقوم بتتبّع تاريخ الكلمة الواحدة ورصد المستعمل الأوّل لها منذ الجاهليّة إلى العصر الحديث مركّزا على الاستعمال الحى للغة، أى أنّه يختلف عن سائر المعاجم السابقة بأنّه يستشهد بالنصوص الحيّة قرآناً وحديثًا وشعرًا وخطبًا ورسائل وغيرها.
إلى جانب ذلك، يعرض المعجم تاريخ نشأة العلوم والفنون؛ إذ يبحث فى علوم اللسان العربى عن جميع العلوم التى نشأت تحت ظل البحوث اللغوية قديمًا وحديثًا من نحوٍ وصرفٍ وفقه لغة ولسانيات وصوتيات وعلوم البلاغة والعروض وغيرها، ويتوقف عند المصطلحات التى ولدت ونشأت فى رحاب هذه العلوم.كما يقدّم مقارنات بين الألفاظ فى اللغة العربية وبين ما انحدر منها فى اللغة العبرية والأكّادية والسّريانية والحبشية وغيرها.
ومن الآن يستطيع أى باحث أن يدخل عليه ويبحث عن الكلماتِ والنُّصوصِ التى يريدُ، وهذا من التسهيلات التى ينبغى الاستفادة منها، كما تم تخصيص تطبيقًا إلكترونيّا للمعجم التاريخيّ بحيث يكونُ فى مُتناولِ أصحابِ الهواتفِ الذّكيّةِ واللّوحاتِ الرّقميّة
هل هذا المشروع اكتمل، وهل هناك مخاوف من استمراره مستقبلا؟ 
الإجابة على لسان حاكم الشارقة نفسه عندما قال: «أَعِدُكم أنّنا فى الأعوام القليلة القادمة سننتهى بتوفيق الله تعالى من هذا المشروع العظيم فى عشرات المجلّدات».