ليلة احتراق «أوبرا الغلابة» فى الفجالة

ليلة احتراق «أوبرا الغلابة»
ليلة احتراق «أوبرا الغلابة»

يحيى وجدي

حينما ذهبت ظهر يوم الإثنين الماضي إلى مقر جمعية النهضة (جزويت القاهرة) في الفجالة، بعد ليلة مريعة شهدت احتراق مسرح الجمعية المعروف بمسرح ستديو ناصيبيان، لم أكن أتخيل حجم الدمار الذي لحق بالمكان. من باب المسرح المفتوح على شارع المهراني، كان المشهد مأساويا.. أكوام من الفحم، كانت قبل ساعات من الحادث، خشبة المسرح والديكورات والكواليس والمقاعد والمصاطب التي يجلس عليها الجمهور ومكتب مدير المسرح المخرج محمد طلعت، حتى أن كلبا أسود اللون كان يغفو وسط الحطام فلم أميزه حتى تحرك من مكانه!

ما إن دخلت من باب مقر الجمعية المجاور، بدا الأمر مختلفا، فقد توقفت آثار النيران عند الباب الداخلي للمسرح المفتوح على باحة الجمعية ومكتب الاستعلامات، سنتيمترات فعلا تفصل بين المكانين، ولولا الألطاف الخفية، وجهود قوات الحماية المدنية كما حكى لي فريق العمل، لامتدت ألسنة النيران إلى باقي المكاتب، لكن الحرارة الشديدة الناتجة عن الحريق تسببت في انصهار الأجهزة الكهربية في “بوفيه” الجمعية وجهازي تلفزيون وكمبيوتر.

 كان “السخام” الناتج عن الحريق يغطي بعض حوائط الجمعية، وسيراميك الحمامات، لكن شابات وشباب الجزويت كانو يعملون بنشاط في إزالة أثار الحريق، وينقلون الأجهزة إلى غرف أخرى.. الجميع يعمل ويجتهد لكي يعود المقر إلى ما كان عليه قبل هذه الكارثة، ويحمدون الله أن الحريق حدث في يوم الأحد، يوم إجازتهم الأسبوعية فلم تقع خسائر بشرية، فمسرح ستديو ناصيبيان دائما ما يعج بالناس من الفنانين والجمهور في باقي أيام الأسبوع، إما للبروفات أو لتصوير الأفلام، أو لحضور الندوات وغيرها.

المسرح المحترق، ليس فقط أحد أقدم وأبرز المسارح المستقلة، التي لا يزيد عددها في القاهرة عن خمسة مسارح، أغلبها مغلق حاليا، هو أيضا “أوبرا الغلابة” كما وصفه الشاعر والناقد الدكتور وليد الخشاب في رسالة دعم وجهها من كندا لأسرة الجزويت، فقد سبق احتراق مسرح ستديو ناصيبيان بيومين الذكرى الخمسين لاحتراق دار الأوبرا الخديوية في العتبة. كتب الدكتور وليد الخشاب: “حريق مقر جمعية الجزويت الثقافية مأساة شخصية بالنسبة لي. ومؤلم إن الحريق ده حصل تقريبا في الذكرى الخمسين لحريق أوبرا القاهرة القديمة. حريق مسرح ستوديو ناصيبيان/ أو مسرح جمعية النهضة، أو مسرح جمعية الجزويت، أيا كان الاسم اللي تسمع عنه، هو بالضبط حريق أوبرا الفقراء. إن كانت الأوبرا القديمة بتقدم خدماتها الثقافية لصفوة الطبقة الحاكمة، فمسرح جمعية الجزويت بشارع المهراني وكل نشاطاتها كانت بتقدم خدماتها للفقراء ولكل من لا يمانع أن يتفاعل معهم من كافة الطبقات. لكن متأكد إن الجمعية هترجع تشتغل تاني وتقدم خدماتها لكل الناس في مصر على اختلاف طوائفهم وطبقاتهم ومن النهاردة”، رسالة الخشاب كانت واحدة من عشرات الرسائل التي انهالت على أسرة جمعية النهضة أو جزويت القاهرة، دعما وتشجيعا ومواساة فيما حدث، وبعضها كان دعما عمليا، فأثناء تواجدي مع فريق العمل، الأصدقاء الكتاب هشام أصلان وسامح سامي اتصل المنتج جابي خوري مالك شركة أفلام مصر العالمية، ووعد بإرسال شيك بتبرع مالي باسمه وشركته للمساهمة في إعادة بناء المسرح المحترق، استجابة للنداء الذي أطلقته الجمعية على حساباتها على السوشيال ميديا.

 وصف الشاعر وليد الخشاب لمسرح ناصيبيان بـ”أوبرا الغلابة” ليس وصفا بلاغيا أو مبالغة شعرية، فالمكان منذ بداية نشاطه قبل 20 عاما، يحتضن كل الأنشطة الفنية والثقافية، ويقدمها لكل الجمهور على اختلاف فئاته الاجتماعية. هو مسرح لا يهابه البسطاء، وفيه يجدون أنفسهم وعلى خشبته يشاهدون أبطالا منهم، هذا فضلا عن تاريخه القديم، وسأبدأ من هنا.. تاريخ هذا المسرح العظيم.

مسرح الجزويت، هو في الأصل ستديو سينمائي تملكه أسرة ناصيبيان الأرمينية، ويعد ثاني أقدم ستديو تصوير سينمائي في مصر، بعد “ستديو مصر” الذي أسسه طلعت حرب عام 1935. أسسه المصور هرانت ناصيبيان عام 1937، على بُعد خطوات من المستشفى القبطي، وسط حي الفجالة المعروف بنشاطه في المطابع وتجارة الأدوات المكتبية المختلفة، وكان ستديو ناصيبيان يضم معملا لتحميض وطباعة الأفلام وقاعات لتسجيل الصوت والمونتاج، وهذا المعمل هو المكان الذي يشغله حاليا مقر جمعية الجزويت ومكاتبها، وبلاتوه لتصوير المشاهد الداخلية وهو مقر المسرح المحترق. حكى لي المخرج محمد طلعت مدير مسرح الجزويت ومؤسسه أنه حتى عام 2000، كان المكان يضم غرف ملابس الممثلين وبعض الديكورات، وكان يحرسه خفير يسمى “هابيل” وكان ساحة مفتوحة، حينما بدأ طلعت في إقامة المسرح بطلب من الأب وليم سيدهم اليسوعي مؤسس جمعية النهضة المعروفة بجزويت القاهرة.

بعد قيام ثورة يوليو 1952، هاجرت أسرة ناصيبيان من مصر وباعت أملاكها ومن بينها الاستديو، لكن بعض المصادر تشير إلى أنه جرى تأميم الأستديو، واستأجره بعد التأميم الفنان رمسيس نجيب وشركته مقابل جنيه واحد في الشهر، وبعده استأجرته الفنانة نبيلة السيد.

طوال تاريخه، شهد الأستديو تصوير العديد من أشهر أفلام السينما المصرية، وبعضها امتد تصوير مشاهدها للمنازل المحيطة بالستديو في شارع المهراني مثل فيلم “في بيتنا رجل” و”أم العروسة” و”خلي بالك من زوزو” و”معلهش يا زهر” حتى صار الشارع الضيق الذي كانت تحيط بها المطابع والمكتبات (تحولت الآن إلى محلات لبيع الأدوات الصحية) إلى بلاتوه سينمائي مفتوح.

في استوديو ناصيبيان، تم تصوير وانتاج نحو 150 فيلماً، أقدمها فيلم “الدكتور” عام 1939 إخراج نيازي مصطفى، وفيلم “انتصار الشباب” عام 1941 إخراج أحمد بدرخان وبطولة أسمهان وفريد الأطرش، إضافة إلى أفلام “دعاء الكروان”، و”باب الحديد”، و”في بيتنا رجل”، و”المراهقات”، و”الخيط الرفيع”، و”شفيقة ومتولي” و”مولد يا دنيا”، “وكان وكان فيلم “إحنا بتوع الأوتوبيس” إخراج حسين كمال بطولة آخر فيلم صورت مناظره الداخلية في بلاتوه ستوديو ناصيبيان عام 1979.

في بداية التسعينيات اشترت الرهبنة اليسوعية مقر ستديو ناصيبيان، وأضافت جزءا منه لجراج مدرسة العائلة المقدسة إحدى أقدم المدارس وأعرقها في مصر، ويقع مدخلها على شارع بستان المقسي، بجوار المستشفى القبطي، وأصبح “ناصيبيان” هو خلفية المدرسة، حتى بادر الأب وليم سيدهم اليسوعي، بتأسيس جمعية النهضة جيزويت القاهرة، في عام 1998، وأصبح مبنى معمل الطبع والتحميض مقرا للجمعية، وباتفاق مع الرهبنة اليسوعية، تم ضم جزءا من مساحة ستديو ناصيبيان سابقا كمسرح للجمعية، بطول 22 مترا وعرض 9 أمتار، تمثل مساحة المسرح حتى احتراقه.

مع بداية عام 2000 تواصل الأب وليم مع المخرج المسرحي محمد طلعت، وطلب منه تحويل هذه المساحة إلى مسرح خاص للجزويت، ولفقر الإمكانيات في البداية أقام طلعت خيمة على هذه المساحة، وأقيمت بها فعاليات فنية وثقافية في شهر رمضان في ذلك العام، وكانت هذه الفعاليات الرمضانية  تأسيسا حقيقيا وعنوانا عمليا معبرا عن نشاط جمعية جزويت القاهرة، التي تتوجه للجميع بالفن والثقافة دون النظر لدين أو طبقة اجتماعية، ومن تلك الفعاليات قبل ما يزيد عن 20 عاما، بدأت رحلة مسرح جزويت القاهرة أو مسرح ستديو ناصيبيان التاريخي، ليصبح أهم مؤسسة ثقافية مستقلة في القاهرة، مفتوحة للجميع بأقل التكاليف.

أما جمعية النهضة العلمية والثقافية “جزويت القاهرة” فقد أسسها الأب وليم سيدهم اليسوعي ويرأس مجلس إدارتها، ويشغل منصب المدير التنفيذي لها الكاتب الصحفي سامح سامي، وتنطلق الجمعية، كما تعرف نفسها، من دور ثقافة الصـــورة في تنمية الإنسـان على مختلف الأصعدة، وتربط بين الإبداع وإظهار الطاقات الكامنة في الإنسان المصري، وتستهدف في رؤيتها العمل مع الأطفال والشباب كي يكون لهم عقل مستنير، وتحثهم على الإبداع والابتكار والنظرة النقدية وتغيير الواقع إلى الأفضل، كما تعمل مع شبكة واسعة من المهتمين لتحقيق رسالة الجمعية عبر العمل الجماعى الابتكارى الحر، وتضم الجمعية أربع مدارس، هي: مدرسة السينما بالقاهرة والصعيد، مدرسة المسرح الاجتماعي “ناس”، مدرسة الرسوم المتحركة، ومدرسة العلوم الإنسانية، فضلا عن أنشطة أخرى متعددة منها مجلة الفيلم، الورش الحرة، نادي سينما الجزويت، ومساحات جمعية النهضة، ومسرح ستديو ناصيبيان.

 على هذا المسرح، وخلال السنوات التي تلت تأسيسه، قدمت كل الفرق المسرحية والغنائية المستقلة التي نعرفها عروضها، فرق “وسط البلد”، و”الورشة”، و”ميريت”، وفتحي سلامة، و”جمعية الصعيد”، وجورج كازازيان.. غنت رباب حاكم، وقدم سيد رجب، ودعاء حمزة وغيرهم عروض حكي، ويوم الأربعاء الأخير من كل شهر يستضيف المسرح “صالون الجزويت الثقافي” الذي يقدمه الكاتب هشام أصلان، وفيه استضاف العديد من ألمع الفنانين والكتاب، استضاف المخرج الكبير داود عبد السيد، والفنان هاني شنودة، والموسيقار راجح داود، والدكتور محمد أبو الغار، والشاعر الغنائي د. مدحت العدل، ويوم الأربعاء الماضي قبل الحريق بعدة أيام استضاف الصالون الكاتب الكبير محمد سلماوي، وعلى المسرح يتم تصوير برنامج “سبرتاية” وهو برنامج حواري فني يعرض على يوتيوب، وتقام بروفات الفرق المسرحية المستقلة، ومحاضرات مدرسة سينما الجزويت، ويتم تصوير العديد من الأفلام المستقلة، آخرها قبيل الحريق بساعات تصوير فيلم “باك ستيدج” للمخرج مصطفى الدالي، واستضافنا نفس المسرح لإقامة تأبين الكاتبة الصحفية الراحلة دينا جميل، كما أقيم احتفال بالذكرى السنوية لرحيل المخرج الكبير محسن حلمي وغنى فيها الفنان علي الحجار.

قال لي المخرج محمد طلعت مدير مسرح الجزويت، إن الخسائر المادية المبدئية تصل إلى ثلاثة ملايين جنيه، والأفدح أن هناك اتفاقات كان مقررا أن تنفذ خلال شهري نوفمبر وديسمبر، وبدء موسم جديد لعمل المسرح مع العام الجديد 2022، أبرزها الدعوة لإعادة إحياء عروض المسرح المستقل.

ما حدث لمسرح ستديو ناصيبيان، خسارة فادحة للفن في مصر، خسارة يجب تداركها بالبدء فورا في إعادة بناء المكان، وهذا يحتاج إلى جهود الجميع.. الدولة ممثلة في وزارة الثقافة، والمجتمع المدني ممثلا في كل رجال الأعمال ولا أريد أن أسمي أحدا.. الجميع مدعو لمشاركة شباب الجزويت في ملحمة إعادة بناء المسرح، وكتابة تاريخ جديد لهذا المسرح والمؤسسة الثقافية والفنية، يضاف إلى تاريخها الممتد، ويحول قطع الفحم إلى نور يضيء خشبة مسرح الجزويت من جديد.