مى السيد
بين الحين والآخر تتصدر قضايا المهاجرين غير الشرعيين فى فرنسا عناوين الصحف والمجلات والبرامج التليفزيونية، وما أن تهدأ قضية حتى تتصدر قضية أخرى وسائل الإعلام، وتصبح حديث الساعة، بين مختلف الطبقات الفرنسية بداية من عامة الشعب وصولا للسياسيين وأصحاب السلطة فى هذا البلد، الذى حاول بشتى الطرق العثور على حل جذرى لتلك القضية الشائكة، التى يقوم أصحابها إما بارتكاب جرائم، أو الانتحار، أو التعرض للقتل على أيدى عنصريين أو منظمات عدائية.
فلم تكن ملفات أشهر جريمتين خلال الشهرين الماضيين قد طويت بعد، حتى ظهرت على السطح قضية أخرى أكثر إيلاما ووحشية، وبدأت الدوائر السياسية، في محاولة لاستغلال العملية الانتخابية وجذب الأصوات، توجيه الاتهامات لبعضهم البعض، حتى يفوزوا بأغلبية تمكنهم من الوصول للحكم خلال الفترة المقبلة.
خلال الشهرين الماضيين تصدرت عناوين الصحف قصة الشاب ثيو صاحب الـ 18 عاما، والذى تخرج لتوه من الجامعة بعد حصوله على البكالورويس، ويعمل بائعًا لدى إحدى الشركات المتخصصة فى الهواتف المحمولة، الذى لقى حتفه على يد مهاجر سنغالي، وجه إليه طعنة نافذة إلى القلب مباشرة، عندما اختلفا على فاتورة خاصة بالمتهم، الذى تم القبض عليه، واضطرت النيابة العامة لإصدار بيان عقب الضجة التى أحدثتها الجريمة بسبب أن بطلها مهاجر غير شرعى وله سجل إجرامى كبير، ووجهت له لائحة اتهامات أبرزها القتل والشروع فى القتل، وبعد احتجازه لدى الشرطة اعترف بالوقائع معربا عن «عدم ندمه» على أفعاله.
ولم تهدأ تلك الواقعة حتى خرجت على السطح قضية المهاجر الرواندى إيمانويل أباييسينغا الذى توجه إلى مقر الدرك فى بلدة لمورتانيه سور سيفر وأخبرهم أنه قتل الكاهن الكاثوليكى أوليفيه مير فى بلدة سان لوران سور سيفر الواقعة غرب فرنسا، فى منطقة لا فانديه، الذى كان يأويه ويضمن له المسكن والمأكل والمشرب.. وتحولت تلك القضية أيضا، إلى قضية رأى عام، واستغل الجميع القضية لصالحه منهم زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان التى اتهمت الحكومة بالضعف فيما يتعلق بالهجرة، وقالت إنه فى فرنسا «يمكن أن تكون مهاجرًا غير شرعى وتضرم النار فى كاتدرائية، ولا تطرد ثم ترتكب جريمة أخرى مثل قتل كاهن.
ضحايا
ومع مرور الوقت عادت الأمور إلى طبيعتها نسبيًا، وبدأ السياسيون والمواطنون ينشغلون فى قضاياهم وحياتهم، وتراجعت قضية المهاجرين ومشاكلهم إلى آخر عناوين الصحف وشريط الأخبار فى التليفزيون، إلا أن قضية جديدة طفت على السطح، جعلت القضية تتصدر مرة أخرى اهتمامات وسائل الإعلام، ولكن اللافت فيها هو أن المهاجرين هذه المرة هم الضحايا وليس الجناة.
فعلى شريط السكة الحديد بمدينة بايون غرب فرنسا، بالقرب من الحدود الإسبانية، كان أول قطار يجوب المدينة والمدن المجاورة، يستعد للإقلاع قبل بزوغ الفجر، فى الوقت الذى كان فيه أربعة مهاجرين من أصل جزائرى، قد تقطعت بهم السبل، حتى وجدوا فى شريط القطار ملاذًا آمنًا لقضاء بعض أوقات الراحة فى جنح الليل، بعيدًا عن أعين الأمن الفرنسى، الذى كلما كان حاضرا بقوة فى وجه المهاجرين، زادت العقبات وجازف الأشخاص المبعدون للالتفاف عليه، وهو ما وصل إليه هؤلاء المهاجرون الأربعة، الذين لم يجدوا مكانًا للاختباء والنوم بعيدًا عن أعين الشرطة، سوى على شريط السكة الحديد، ظنًا منهم أن قيود الأمن وعيونهم لن تصل إليهم، إلا أن ذلك القرار كان نهاية رحلة الاختباء والتخفى، وحلم الثراء والعيش داخل بجوار المجتمع المتحضر.
مع تحرك القطار مسرعًا نحو محطة سان جان دى لوز، حيث كان المهاجرون الأربعة يفترشون، كان الظلام الدامس كفيلا بعدم رؤيتهم من قبل السائق، لم يدر بخلده، أن يقدم شخص على افتراش القضبان إلا إذا كان مجنونا أو راغبا فى الانتحار، فكان شبه مطمئن للسير آمنا نحو محطته التالية.
إلا أنه ومع اقترابه من المحطة، ومشاهدته للشبان الأربعة، كان الوقت قد فات ولم يستطع كبح جماح قطاره، الذى كان مسرعًا نحو هدفه، ودهس بعجلاته أجساد هؤلاء المهاجرين الشباب الأربعة وأحلامهم، حيث تقطعت أجسادهم أشلاءً على جانبى شريط القضبان، لينتهى بذلك آخر فصول حياتهم، والتى تعتبر جزءًا من سلسلة الهجرة غير الشرعية ورقما فى تلك المعادلة، التى يبدو أنها لن تنتهى فى القريب العاجل.
تصدى للهجرة
علي خلفية تلك الواقعة المأساوية اضطر المدعى العام لمدينة بايون الفرنسية، بإصدار بيان عقب الضجة التى أحدثتها الواقعة، حيث قال أن الإسعاف تمكنت من إنقاذ المهاجر الرابع الذى أصيب بإصابات بالغة، مشيرًا أن الأشخاص الأربعة كانوا مستلقين على السكة على الأرجح طلبًا للراحة.
وأكد المدعى العام جيروم بورييه خلال مؤتمر صحفى أن الجريح جزائرى وإصابته بالغة، لكن «حياته لم تعد فى خطر وخضع لعملية جراحية، ووفقا للنيابة العامة وشركة السكك الحديد، فإن الرجال الأربعة الذين تتراوح أعمارهم بين 21 و40 عامًا، كانوا مستلقين على سكة الحديد بالقرب من محطة سان جان دى لوز حين صدمهم القطار.
وأوضح المدعى العام، أن مكابح الطوارئ لم تتمكن من وقف القطار قبل أن يصدم الرجال الأربعة، لأن المسافة اللازمة لتوقفه عن الحركة هى 310 أمتار فى حين أنهم كانوا على ما يبدو نائمين على السكة، مضيفًا أن آخر قطار كان قد غادر قرابة الساعة 22:30 ليلا، والقطار صاحب الواقعة كان أول قطار ينطلق في ذلك اليوم.
وحول جنسيتهم أكد المدعى العام على أنهم تقريبا جميعا من الجزائر، مشددًا على أن التأكد من جنسياتهم والتحقق من هوياتهم سيستغرق وقتًا بسبب تشويه أجسادهم وعدم وجود أوراق معهم.
وجاء فى تحريات الشرطة أن هؤلاء المهاجرين كانوا يقيمون فى إسبانيا لكن ملفاتهم تشير إلى مخالفات لشروط الإقامة، كما إن السلطات الإسبانية أطلقت إجراءً لترحيل أحدهم وهو أصغرهم سنا وعمره 21 عاما، بينما كان أحد هؤلاء المهاجرين مسجل لدى الشرطة الفرنسية المحلية، ما يعنى أن وصولهم إلى فرنسا ليس حديث العهد.
وتسعى السلطات الفرنسية لمواجهة والتصدى لموجة الهجرة غير الشرعية فى بلادها، خاصة بعد أن أصبح الأمر لم يعد يقتصر على قارة أفريقيا بحسب، بل امتد إلى وجود مهاجرين من آسيا أيضا، الأمر الذى جعل الدولة الفرنسية تواجه الأمر بكل شراسة، إلا أن ذلك لم يمنع المتسللين من إتخاذ أساليب ملتوية للهروب إلى الداخل الفرنسى.
هذا وتشير التقديرات والإحصاءات أنه بين عامى 2018 و2019 توفى 3 مهاجرين فى إقليم أوت ألب بعد عبورهم الحدود، والعام الماضى أوقفت السلطات 78 مهربا فى أوت ألب، مقابل 30 فى 2019، و31 عام 2018 و34 عام 2017 و6 عام 2016.