كنوز الأميرة

حدث فى مصر عام 1955 .. 46 قاتلا يقضون «ويك إند» خارج أسوار السجن!

خرج السجناء بلا حراسة ليشهدوا الحياة التى سيعودون إليها بعد شهور
خرج السجناء بلا حراسة ليشهدوا الحياة التى سيعودون إليها بعد شهور

قراءة: أحمد الجمَّال

تطبِّق وزارة الداخلية أعلى معايير حقوق الإنسان داخل السجون المصرية، ويتناغم ذلك التوجه مع الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان التى أطلقها الرئيس عبدالفتاح السيسى فى 11 سبتمبر الماضي، وتعد بمثابة خريطة طريق جادة ترسِّخ مبادئ تأسيس الجمهورية الجديدة وتحقق أهداف رؤية مصر 2030.

وهذا النهج الذى تسير عليه وزارة الداخلية بقيادة الوزير الحالى اللواء محمود توفيق ليس جديداً، بل متجذر فى مبادئها الثابتة، وقبل 66 عاماً نشرت المجلة تقريراً بعنوان (آخرساعة تشهد اويك إندب للمساجين بدون حراس)، وكانت لفتة إنسانية عظيمة أن يُسمح بإجازة لـ46 قاتلاً خارج أسوار السجن.. الحكاية نعيد نشرها فى السطور التالية:

46 قاتلاً خرجوا فى هذا الأسبوع من السجن ليقوموا برحلة فى المدينة التى عاشوا بعيدين عنها عشر سنوات كاملة.. تصوَّر نفسك مسجوناً لمدة عشر سنوات، وجاءك مدير السجن يقول: ااستعد.. ستخرج اليوم فى رحلة لمدة 12 ساعة بلا حراسة، بلا بندقية واحدة تهددك، بلا أوامرب. هل كنت تفكر فى الهرب؟

إن واحداً من المسجونين الذين خرجوا هذا الأسبوع ليزوروا مديرية التحرير، لم يفكر فى الهرب. كلهم خرجوا وعادوا إلى السجن.

ويقول الصاغ محمود خليل مدير سجن الجيزة: القد تركنا لهم حريتهم خارج السجن لأول مرة.. تركناهم يخرجون بلا حراسة، وكنا نعرف أن واحداً منهم لن يهرب ولن يحاول الهرب.. وقبل الخروج بساعة واحدة، جمعتهم كلهم أمامى.. قلت لهم: (إنكم ستخرجون بلا حراسة.. ونحن نريد أن تشهدوا بعيونكم الحياة التى ستخرجون إليها بعد قضاء مدة العقوبة فى السجن). وقلت لهم إننى لن أطلب منهم شيئاً سوى أن يثبتوا لنا أن المعاملة الجديدة التى نعاملهم بها فى السجن هى وحدها التى تصلح النفوس التى انحرفت.. وخرجوا وعادواب.

كنت أعمى!

إن المسجون محمد إبراهيم، الذى أمضى عشر سنوات فى السجن لأنه قتل شخصاً بسبب أنه صفع أحد أفراد أسرته على وجهه.. هذا المسجون يقول: 

ـ لقد تغيَّر كل شيء أمام عينى فى القاهرة.. أحسست ساعتها، وأنا أشاهد شوارع القاهرة، أننى كنت أعمي، وأن النور عاد إلى عينى.

الناس يروحون ويجيئون فى حرية كاملة، ولم يكن يهمنى شيء من كل المشاهد التى شاهدتها، سوى حرية الناس.. حريتهم فى السير، وحريتهم فى الركوب وحريتهم فى الجرى، وحريتهم فى الكلام، وحريتهم فى العمل.

وأعترف أن الفرصة كانت سانحة أمامى للهرب، عندما وصلنا إلى مديرية التحرير، ونزلنا من عرباتنا، وبعد الغداء مضى زملائى المسجونون يلعبون مع الضبّاط والجنود االفولى بولب.. فجأة وجدت نفسى وحدى، وبدأت أسأل نفسى: هل أهرب؟ الصحراء أمامى ممتدة واسعة.. لم تكن هناك حراسة.. لم يكن هناك واحد يتبعنى ببصره، ومع ذلك لم أهرب.

لم أهرب لأننى فكرت فى صور الحرية التى شهدتها فى شوارع القاهرة. أبداً لن أتمتع بهذه الحرية عندما أهرب.. لن تهدأ نفسى والبوليس يبحث عنى.. ولم أعد أتمنى شيئاً أكثر من أن أعود إلى السجن وأمضى فيه الشهور الباقية لى، ثم أخرج منه حراً.. حراً كبقية الناس.. مثل ملايين البشر الذين شهدتهم فى شوارع القاهرة وعدت إلى السجن.

أضواء النيون

أما المسجون أحمد الصافورى الذى ثأر لقتل والده وقتل شخصاً وحُكم عليه بالسجن لمدة عشر سنوات، فيقول: لم يدر بخلدى أن ألجأ إلى الهرب.. إلى أين أذهب؟!.. إن ورائى أسرة، والذين يهربون هم أولئك الذين لا أهل لهم.. لقد انحرفنا عن الجادة مرة، ولن نعود.

إن أحمد الصافورى لم يعجبه فى شوارع القاهرة شيء مثل أضواء االنيونب التى شهدها تلمع فى الشوارع أثناء عودته فى الليل إلى السجن، فلم يكن قد شهد هذه الأضواء عندما دخل السجن، كانت شيئاً غريباً بالنسبة إليه.

والمسجون أحمد عمر جودة، المحكوم عليه بالسجن 15 سنة، عاد إلى السجن بعد رحلته إلى مديرية التحرير يحسب الأيام الباقية له على الخروج.. بعد 97 يوماً سوف يخرج من السجن.. إنه لم يفكر فى الهرب لأنه لا يعرف إلى أين يهرب.

كانت القاهرة أمام عينيه مدينة ضخمة كبيرة يتيه فيها، والشيء الذى لفت نظره، هو تلك العمارات الضخمة الكبيرة التى ملأت شوارع القاهرة.

أنا ابنك

أما حمزة على الشربينى فيروى قصة عجيبة.. قبل أن يخرج من السجن كان يائساً من كل شيء.. كان يائساً من الحياة.. كان يائساً من الأمل.. وكان يفكر فى الشىء الذى سوف يقوم به عندما يفتحون له أبواب السجون.

وعندما عاد من رحلته لم ينم طول الليل.. أصبح يفكر فى الحياة التى لم يشهدها منذ خمس عشرة سنة.. الناس.. السيارات.. الأرض الواسعة.. الجنة.

وفى اليوم التالى، عرف لأول مرة أن له ابناً.. كان قد دخل السجن ولم يعرف شيئاً عن الحياة.. لم يعرف أن زوجته وضعت ولداً.. وزاره ابنه فى هذا الأسبوع لأول مرة دخل إليه شاب اأطولب منه يقول له: اأنا ابنكب.

وبكى حمزة.. تحسس جسم الشاب الطويل، وعاد يسأله من جديد: أنت ابنى؟

وعاد الشاب يقول: نعم أنا ابنك وأنت أبى!

إن حمزة لم يعد يذوق طعم النوم فى السجن، وكل ما يقوم به الآن، هو إحصاء الأيام الباقية له فى السجن، وهو يقول:

ـ سوف أخرج من السجن يوم 14 جمادى الآخرة، الموافق 27 يناير، الموافق 18 طوبة.

وغير هؤلاء.. عشرات المسجونين.. كلهم اقتلة.. كلهم مجرمون.. 

لقد خرجوا فى إجازة خارج السجن.. ولم يفكر واحد منهم فى الهروب.. هل تعرفون لماذا؟ لأننا لم نعد نعاملهم بقسوة.. لأننا لم نعد نضربهم بالسياط.. لأننا لم نعد نقول لهم: ممنوع.. ممنوع.. ممنوع.

ممنوع التدخين، ممنوع اللعب، ممنوع الراحة، ممنوع الشكوى، ممنوع القراءة، فكل شيء أصبح مباحاً، حتى الخروج من السجن أصبح مباحاً.