كتب: عويس الطحاوي
بعد سنوات من الخبرة والتفاني في العمل، أو هكذا يبدو، ضل «ي» طريقه سعيًا لجلب المال، بأي طريقة، حتى أنه استغل سنوات الخبرة تلك وبنى منها أرضية جعلته يسرق دون أن يشك أحد فيه، ودون أن يلفت نظر أي مسئول معه. الأمر كان غريبًا، والمسئولون والموظفون والعمال في مكتب بريد شنرا مركز الفشن بمحافظة بني سويف في حيرة وقلق، مبالغ كبيرة من حسابات المودعين تُسرق بضغطة واحدة دون أن يعرفوا من السارق، والأدهى والأمر أن السارق بينهم، يشاركهم القلق ظاهريًا، ويخفي بينه ونفسه جرائمه المتكررة، في حق عمله وفي حق المودعين الذين استأمنوا المكتب على أموالهم. في السطور التالية سندخل معكم كواليس واقعة جديدة من وقائع سرقات «حاميها حراميها» والتي كان موظف البريد فيها هو اليد الآثمة التي تسرق خلسة من استأمنه على أمواله.
كانت الساعة التاسعة صباحًا في يوم عمل مجهد يتعرض له موظفو مكتب بريد شنرا بـ مركز الفشن جنوب بني سويف حينما تم فتح حساب موُدِع وأخذ أموالا منه دون أن يكون المودع موجودًا في المكتب.
في الحقيقة لم تكن تلك العملية ظاهرة لأي شخص من الموظفين، سوى الموظف الذي تجرأ وفتح بيانات المُودِع وسحب منه الفلوس وأرسلها لنفسه.
وفي الحقيقة أيضًا لم تكن تلك العملية هي العملية الأولى من نوعها، لكن ولأن مثل تلك الأمور لا يتم فحصها سوى بعد كشف العميل أمرها وتقديم شكوى بذلك وإفادته في شكواه بسرقة أموال من حسابه، بعدها يتم مراجعة حسابه وإفادته بتفاصيل تلك العملية التي تعرض لها، وتلك الاشتراطات هي ضرورية ولازمة لحماية حساب العميل.
انتهت العملية الأولى وتمت السرقة بنجاح، وبعد هذه العملية جرى المزيد من السرقات دون أن يلاحظ أحد، حتى وصل حجم تلك المبالغ التي تم سرقتها ما يزيد عن مليون ونصف المليون جنيه، وجرى حصر هذا الرقم بعد كشف تحويلات كثيرة مماثلة من أكثر من حساب مختلف إلى حساب واحد فقط، هو حساب ايب.
اللص
ا وشهرته ي؛ هو موظف بريد يبلغ من العمر ٥٣ عامًا، التحق بالبريد قبل نحو ٢٥ عامًا، وانتقل من مكان لآخر حتى استطاع أن يلتحق بمكتب بريد قريته، شنرا، والتي كان مواليدها وفيها يعيش، بعد استقراره في مكتب البريد بقريته، عرفه الناس بوجهه الحسن، الطيب، الذي لا يرفض خدمة أحد، والذي لا يتأخر على طلب أي شخص.
كانت طلبات الناس - في حدود عمله - مجابة، وكان يتقاضى على خدماته تلك مبلغاً زهيدًا حتى علا شأنه بينهم، وبات كل من يطلب خدمة من مكتب بريد شنرا يذهب إلى ايب في بيته ويعرض عليه طلبه، وهو يتمها دون حتى أن يأتي صاحب الحساب إلى المكتب ودون أن يرهق نفسه عناء المجيء.
كل هذه الخدمات جعلت من ايب يكوّن قاعدة بيانات كبيرة لأهالي قريته، يعرف حساباتهم والمبالغ التي فيها وكيفية فتحها وغلقها لسحب وضخ الأموال وكذلك الأرقام السرية التي ليس من المفترض أن يعرفها سوى صاحب الحساب أو من معه دفتر التوفير الذي فيه كافة البيانات السرية الخاصة بالمُودِع وحده دون غيره.
ونتيجة لهذه المعلومات الجبارة التي جمعها استطاع أيضًا أن يعرف أرقام الحسابات التي لا يأتي أصحابها إلى مكتب البريد بكثرة، والذين يتأخرون في وضع أو سحب الأموال من حساباتهم. وكانوا هؤلاء هم أول الناس الذين تمت سرقتهم.
ومن هنا بدأت سرقاته سرقة تلو سرقة، ومبلغ بعد مبلغ، من أرقام حسابات عدة إلى حسابه، ثم يسحب المال من حسابه ويأخذه معه بعد أن ينهي عمله، وهكذا مكث فترة يذهب إلى بيته وفي جيبه ألوفات مؤلفة يوميًا، يصرفها فيما شاء وكيفما شاء، ويرى الناس عليه علامات الترف واضحة، حتى ظنوا أنه من خدمته لهم قد منّ الله عليه وجعل له من رزقه سعة. لكن لم يكن يظن أحدهم أن الرجل، المستأمن على أموال الناس بحكم وظيفته هو من يسرقها، والعملاء الذين يسرقهم هم أبناء قريته، أهله، ومن أكل معهم وشرب. ومن شاركوه أفراحه وأحزانه.
كشف الجاني
مُودِع من ضمن المُودِعين يقف الآن على شباك في مكتب البريد وأمامه موظف يساعده في ما جاء لأجله، أخرج المُودِع بعض المال من حقيبته وطلب من الموظف إيداع المبلغ في حسابه، وبالفعل تمت العملية واستلم العميل إيصال الإيداع، مكتوب فيه المبلغ المُودَع وإجمالي المبلغ الموجود في الحساب.
هنا استغرب العميل المبلغ الإجمالي بمجرد ما وقعت عيناه عليه، وعليه عاد للتأكد من المبلغ الموجود في دفتر التوفير الخاص به، فوجد أن إجمالي المبلغ الموجود في دفتر التوفير الخاص به أكبر بكثير من المبلغ الإجمالي الموجود في الحساب، وعندما لفت نظر الموظف الذي أمامه لهذا الأمر أخذته الدهشة ولكنه عاد وسأل العميل عن أنه ربما سحب هذا المبلغ من حسابه من قبل، ولكن إجابة العميل جاءت بالنفي، وعليه قام الموظف من مقعده ذاهبًا إلى مديره وأبلغه بحقيقة الأمر.
عاد المدير وحاول أن يهدئ من روع العميل، لكن العميل قد انتابته نوبة غضب كبيرة بعد هذا الخطأ الفادح والسرقة التي تعرض لها، ولم تجد محاولات موظفي البريد في تهدئة الرجل ولا إثنائه عن تحرير محضر حتى يتسنى لهم معرفة حقيقة الأمر ومن المتورط فيه.
كان موظفو البريد في حيرة من أمرهم، وأثناء ما كانوا يبحثون في ملف العميل، جرى الخبر في أرجاء القرية كالنار في الهشيم، وعليه خرج الكثير من الأهالي صوب مكتب البريد في اليوم الثاني يتأكدون من الأموال الموجودة في حساباتهم، وهنا كانت الطامة.
عدد كبير منهم تعرض لما تعرض له العميل السابق، بل أن منهم من تم سحب أموال كثيرة من حسابه، لذلك لم يجد المسؤولون أى وسيلة غير إبلاغ العقيد وليد قرني رئيس مباحث البريد لمنطقة شمال الصعيد بحقيقة الأمر.
بدأ التحقيق في الواقعة ومراجعة كافة حسابات العملاء وفحصها، تم تحديد المبلغ المُختلِس، ومن خلال فحص بيانات السحب والإيداع وجدوا أن تلك الأموال كلها تم تحويلها إلى حساب واحد، وبمراجعة بيانات هذا الحساب وجدوا أنه خاص بأحد الموظفين، هو ايب.
سقوط موظف البريد
حتى قبل إبلاغ مباحث البريد، كان ايب يشارك مع زملائه المشكلة التي تعرضوا لها، ويقترح أفكارًا ويقدم حلولا ويحاول معهم معرفة سر هذه السرقات التي حدثت فجأة، وعلى وجه علامات الدهشة والغرابة كمثل ما على الموظفين من دهشة.
لكن ما أن تم إبلاغ مباحث البريد وبدأت بدورها التحقيق في الواقعة اختفى تمامًا، لم يأت إلى عمله ولم يبيت ليلته في بيته، بل أنه أثناء الليل، خرج من القرية هاربًا دون أن يعلم أحد عنه شيء، حتى أهله.
لاحظ الموجودون ذلك بعد معرفة السارق، ولاحظوا اختفاءه الذي أكد لهم أنه وراء الواقعة تلك وأنه سارق أموال أهل قريته.
على الفور كلف اللواء طارق مشهور مساعد وزير الداخلية مدير أمن بني سويف؛ اللواء أشرف حلمي نائب مدير الأمن، واللواء أسامة جمعة مدير إدارة البحث الجنائي بالمديرية، بتشكيل فريق بحث من إدارة البحث الجنائي برئاسة العميد منصور الدغيدي رئيس المباحث الجنائية، يضم الرائد شريف جمال عمر رئيس مباحث مركز الفشن، ومعاونوه بالاشتراك مع العقيد وليد قرني رئيس مباحث البريد لمنطقة شمال الصعيد، وذلك لسرعة ضبط وإحضار اللص الهارب قبل فراره بالأموال التي اختلسها خارج البلاد.
وبالفعل في سويعات قليلة، استطاع فريق البحث الجنائي تحديد مكان تواجد المتهم الهارب، في إحدى الشقق السكنية بمنطقة حلوان بالقاهرة، وبالتنسيق مع إدارة البحث الجنائي بالقاهرة ومباحث حلوان، تحركت مأمورية أمنية داهمت محل تواجد ايب وتم القبض عليه. وترحيله إلى مديرية أمن بني سويف لمعرفة أماكن اختفاء تلك المبالغ التي استولي عليها تمهيدًا لإحالته إلى نيابة الفشن للتحقيق معه تحت إشراف المستشار مصطفى المتناوى المحامى العام الأول لنيابات بنى سويف، والتي أمرت بحبسه ٤ أيام على ذمة التحقيق مع مراعاة التجديد له في الموعد المحدد.
المجني عليهم
في حديثهم لـ اأخبار الحوادثب قال بعض المجني عليهم؛ أن تلك الواقعة لم يكن أحد يكتشفها لولا أن أحدهما يوم أن ذهب لإيداع أمواله وجد فرق كبير بين المبلغ الموجود في حسابه والمدون على دفتر التوفير الخاص به، وبعد أن علم الكثير من أهالي قرية شنرا الأمر ذهبوا للتحقق من حساباتهم، وبالفعل وجد الكثير منهم سرقات في حساباتهم، حتى أن أحدهما لم يجد في حسابه جنيهًا واحدًا، وآخرون تم سحب أموالا طائلة من حساباتهم.
أما بعد أن عرفوا من وراء عمليات السرقة انتابتهم الدهشة، وقالوا أن سماع خبر سرقة ايب لأموالهم كانت أشد وطأة عليهم من سرقة أموالهم نفسها، أذ أنهم لم يصدقوا أن ابن قريتهم هو ذلك اليد الآثمة التي امتدت ظلمًا وبهتانًا وسرق أبناء قريته.