زلزال أكتوبر.. على الجانب الآخر

محمد بركات
محمد بركات

 قبل زلزال أكتوبر بعدة أيام، قال وزير الخارجية الأمريكى «هنرى كيسنجر» للدكتور «الزيات» وزير خارجية مصر: «لا أحد يستطيع مساعدتكم وأنتم مهزومون لا تستطيعون مساعدة أنفسكم».

 فى مثل هذه الأيام منذ ثمانية وأربعين عاماً، وفى نفس الشهر أكتوبر منذ عام 1973، كانت الدنيا غير الدنيا ،..، وكان العالم غير العالم ،..، كانت نيران الحرب ودماء الشهداء تكتب تاريخاً جديداً للمنطقة، وتسطر بحروف من نور على وهج المعارك المشتعلة على الضفة الشرقية للقناة، قصة من أروع قصص البطولة لجيش مصر الباسل، الذى هب لتحرير الأرض واسترداد الكرامة بعد أن تجاوز النكسة وقهر الهزيمة.


ولكل الشباب والأبناء الذين لم يعاصروا هذه الأيام المجيدة، نقول إنها لم تكن حربا عادية، بل كانت بمثابة الزلزال الذى هز المنطقة والعالم، وأحدث متغيرات جسيمة فى الشرق الأوسط والمنطقة العربية وما بعدها، وفرض على الجميع والقوى العظمى بالذات إعادة النظر فى أوضاع المنطقة وسياساتها تجاهها.


وللأبناء من الشباب أقول، إن الدلالة العظمى والمعنى الأكبر فى نصر أكتوبر، هو قدرة الإنسان المصرى على تحدى المستحيل وكسر قواعد ومسلمات، كانت تؤكد عجزه عن الحركة بعد الهزيمة القاسية والمباغتة التى ألمت به عام 1967 ،..، والتى جعلت الجميع يتوقعون استسلامه الكامل لقدره ومصيره، وحاجته لعقدين أو ثلاثة عقود من الزمن يلعق فيها جراحه ويلملم أشلاءه، ويجمع ذاته، كى يستطيع النهوض مرة أخرى.


ولكن هذا الشعب وذلك الإنسان المصرى فاجأ الكل ونهض من كبوته فى بضع سنين، لم تزد ولم تتجاوز الست، ليواجه عدوه ويصارعه وينتصر عليه، ويحطم أسطورة الجيش الذى لا يقهر ويحرر أرضه بعد ملحمة رائعة من القتال البطولى، سجل خلالها تاريخا مجيدا للعسكرية المصرية.


إلى الشباب


من هنا فإن القول بأن الإنسان المصرى ـ جنديا وضابطا وقائدا ـ كان هو المفارقة والمفاجأة الحقيقية لحرب أكتوبر، هو القول الصحيح، وهو عين الصواب وكبد الحقيقة، باعتراف وشهادة الكل.. الأعداء منهم قبل الأصدقاء.


ولو تابعنا ما دار وما جرى قبل وأثناء وبعد ملحمة العبور والنصر، لوجدنا كل الدلائل تشير إلى ذلك وتؤكده ،..، وسأذكر ذلك ليكون أمام الشباب والأبناء صورة لما جرى وما كان ،..، ففى إسرائيل وقبل الحرب بشهور قلائل، كانت جولدا مائير رئيسة الوزراء فى ذلك الوقت، وموشى ديان وزير دفاعها يتوقعان وينتظران رنين الهاتف بمكالمة من مصر «كما قالوا» تعلن الاستسلام المصرى وطلب الصلح بأى شروط وبأى ثمن ،..، وهذا ما ذكراه فى مذكرات كل منهما.


وحتى عندما وردت إليهما معلومات استخبارية قبل الحرب بأيام قليلة، ثم قبلها بعدة ساعات قليلة، تشير الى أن المصريين يقومون باستعدادات وتحركات غريبة، على طول الضفة الغربية للقناة، وأن هذه التحركات غير العادية قد تكون مقدمة لتحرك عسكرى، استبعد كل منهما ومعهما رئيس الأركان لجيش إسرائيل أى قدرة للمصريين على القتال، والحرب، وأكدوا أن كل تلك الأشياء رسالة موجهة للداخل المصرى، وأن الرئيس السادات يفعل ذلك كثيرا، وأن حركاته موجهة للاستهلاك المحلى وامتصاص غضب الشارع المصرى والشباب بالذات الناقم عليه لعجزه عن الحرب وإزالة آثار النكسة.
وقاحة كيسنجر


كان هذا هو الحال فى إسرائيل صباح يوم الحرب ومساء اليوم السابق عليها ،..، ورغم وصول معلومات استخباراتية تؤكد لهم أن هناك قرارا مصريا قد اتخذ بالحرب ،..، إلا أنهم لم يصدقوا ذلك.


وعلى الجانب الآخر من العالم حيث الولايات المتحدة الأمريكية راعى إسرائيل الأول وحليفتها القوى، لم تكن الصورة المصرية تختلف كثيرا عما هى لدى الإسرائيليين، فقد كان هناك انطباع كامل بعدم قدرة المصريين على الحركة، بل كانوا متأكدين أن المصريين قد ماتوا بالفعل بعد 1967، أو أنهم فى غيبوبة وعلى شفا الموت نتيجة الهزيمة أو النكسة، هذا بالإضافة إلى ما هم فيه من ظروف اقتصادية خانقة وصعبة ومؤلمة.


وقد وضح ذلك بصورة جلية عندما ذهب وزير الخارجية المصرى فى ذلك الوقت، الدكتور محمد حسن الزيات، بتكليف من الرئيس السادات لمقابلة هنرى كيسنجر وزير الخارجية الأمريكية، على هامش اجتماعات الأمم المتحدة فى نيويورك، قبل المعركة بعدة أيام فقط ،..، وطلب منه أن تقوم أمريكا بحث إسرائيل على الانسحاب من الأراضى المصرية والعربية التى تحتلها، وذلك لإعادة الاستقرار والسلام إلى المنطقة.


فإذا بكيسنجر يلقن وزير الخارجية المصرى درسا قاسيا، ويقول له فى وقاحة غير دبلوماسية، ما معناه، «كيف تطلبون ذلك وأنتم مهزومون، وتحولتم إلى ما يشبه الجثة غير القادرة على الحركة».. ثم يضيف «لا أحد يستطيع أن يساعدكم طالما أنكم لا تساعدون أنفسكم».
قنبلة ذرية


وعلى الناحية الأخرى من العالم حيث الاتحاد السوفيتى الصديق الوحيد للعرب ومصر فى هذا الوقت، فقد كانت الصورة لا تختلف كثيرا ،..، حيث كان لدى القادة السوفيت الثلاثة «بريجينيف وبوجورنى وكوسيجن» اقتناع شبه كامل، بأن مصر تحتاج إلى عشرات السنين حتى تستطيع أن تقوم وتنهض مرة أخرى بعد هزيمة 1967.


وكان السوفيت مقتنعين أنه لا مجال ولا إمكانية لحرب أخرى فى الشرق الأوسط، ولا قدرة لمصر على الحرب أو حتى التفكير فى عبور قناة السويس وتدمير خط بارليف، الذى قال عنه وزير دفاعهم فى ذلك الوقت «إنه يحتاج إلى قنبلة ذرية كى يمكن لمصر تدميره وإزالته».


وفى ذلك كان واضحا أن الجميع قد نسوا أو تجاهلوا، أن قوة الإرادة لدى الإنسان المصرى، وقوة إيمانه بحقه وإيمانه بقدرة الله وعونه، قبل ذلك ومن بعده، تفوق بكثير قوة القنابل الذرية وتتفوق عليها، إذا ما صح العمل وصلح السعى، ورافقهما التخطيط الجيد والتدريب الشاق والجاد والإصرار على النصر وتحقيق الهدف.


ولكن كانت هذه هى أفكار وتصورات الأعداء والأصدقاء عن مصر قبل الحرب بعدة أيام ،..، ولنا أن نتصور قدر المفاجأة والدهشة التى أصابت الجميع يوم السادس من أكتوبر مع بداية العبور وانطلاق النسور والأبطال المصريين لتحقيق النصر العظيم.


انهيار إسرائيلى


فى البداية لم تصدق إسرائيل ما تراه يحدث أمامها فى سيناء وعلى طول الجبهة، الممتدة إلى أكثر من 180 كيلومتراً، هى طول المسافة من بورسعيد شمالاً وحتى السويس جنوبا، فقد كانت ترى ما يحدث هولاً عظيماً يصعب عليهم تصديقه، حيث عشرات الآلاف من الجنود المصريين يعبرون القناة، ويحطمون خط بارليف المنيع ويدمرون المواقع الإسرائيلية الحصينة على الضفة الشرقية للقناة، ويندفعون كالطوفان المدمر يزيلون كل أثر لإسرائيل وجيشها على خط القناة ،...، وكانت الصدمة مذهلة وهم يشاهدون طائراتهم الذراع الطولى لجيشهم، تتساقط أمام حائط الصواريخ المصرية، وفى مواجهة الطائرات المصرية.


كان الزلزال عنيفاً وكانت الصدمة قوية وقاسية، وكانت الحقيقة مرة بالنسبة لإسرائيل، فقد عبر المصريون القناة وحطموا خط بارليف وأسقط أسطورة الجيش الذى قالوا عنه إنه لا يقهر ،..، ولا يستطيع أحد أن يوقف المصريين الآن، بعد هذا الذى تم وذلك الذى جرى وفاق كل تصور.


وانهار «موشى ديان» عندما تأكد من حقيقة ما يجرى وواقع ما يحدث ،..، وقبل انهيار «ديان» وزير الدفاع، كان انهيار الجنرال «جونين» قائد الجبهة الجنوبية الإسرائيلية فى سيناء، وفقد القدرة على التحرك وفقد أيضا القدرة على السيطرة على نفسه أو التماسك، وهو يرى دمار قواته وهزيمة جيشه فى سيناء، وحاول الدفع بلواءات وأرتال من الدبابات للقضاء على المصريين فى بداية العبور لإنقاذ خط بارليف، ولكن الدمار كان نصيبهم.


وبعد انهيار «ديان» و»جونين».. انهارت أيضا «جولدا مائير» رئيسة الوزراء، وهى تتلقى نتائج القتال، التى كانت بالنسبة لها كلها نتائج سوداء ونذير شؤم.. وجاء اليوم التالى يحمل أخبارا وحقائق أشد سوادا، حيث تم تدمير المئات من الدبابات الإسرائيلية، وسقطت دفاعات جيشهم فى سيناء ،..، وأصبحت الهزيمة واقعا.


صراخ مائير


وعبر مسافات طويلة وعلى الجانب الآخر من المحيط الأطلنطى، حيث الولايات المتحدة الحليف والصديق لإسرائيل، كان المشهد مثيرا للانتباه ومدعاة للدهشة والجدل.. ففى البداية لم يصدق الأمريكان، وعلى رأسهم «هنرى كيسنجر» وزير الخارجية العتيد ما يحدث على الجبهة المصرية مع إسرائيل.


وكانت المفاجأة صعبة التصديق، عندما أكدت المعلومات المتوالية بعد ذلك، من المخابرات الأمريكية ومن إسرائيل بعدها، أن المصريين عبروا القناة ويدمرون القوات الإسرائيلية ويحققون بالفعل انتصارات كثيرة ومؤكدة.


وبعدها بيومين فقط، أى فى اليوم الرابع للحرب، جاءه صوت «جولدا مائير» عبر الهاتف من إسرائيل منهارة تماما وتصرخ وتطلب من «كيسنجر» إبلاغ الرئيس الأمريكى «نيكسون» فورا حاجة إسرائيل للمساعدة العاجلة، وتقول «إن الطريق أصبح مفتوحا إلى تل أبيب، وأن أحدا لا يستطيع وقف المصريين».


وبالفعل أبلغ «كيسنجر» الرئيس الأمريكى «نيكسون» ما قالته «جولدا مائير»، وتم فتح مخازن السلاح الأمريكى فورا لمساعدة إسرائيل، وطبقا لتعليمات الرئيس الأمريكى العاجلة، تم فتح مخازن السلاح الأمريكى فى القواعد الأمريكية، بأوروبا والشرق الأوسط لمساعدة إسرائيل، ومدها بكل ما تحتاجه من الدبابات والطائرات الحربية والعربات المجنزرة والمدافع والصواريخ، وغيرها، وغيرها من أنواع الأسلحة والذخيرة، اللازمة لإنقاذها من السقوط والضياع.
وفى ذات الوقت طلب الرئيس الأمريكى نيكسون الاتصال بالسوفيت، والعمل فورا فى مجلس الأمن لإصدار قرار بوقف القتال.


وهكذا اختلفت الصورة وتغيرت الأوضاع فى مصر وإسرائيل والمنطقة والشرق الأوسط كله، نتيجة الزلزال الذى تفجر على أيدى المصريين، وانتصارهم الساحق والمباغت فى ملحمة العبور والنصر، التى حررت الأرض واستردت الكرامة وهزمت الجيش الذى لا يقهر.