عاطف محمد عبد المجيد
تستهل الكاتبة والروائية زينب عفيفى روايتها«معكِ تكتمل صورتى » قائلة: لا نعرف قيمة اللحظة إلا حينما ترحل، ولأننا لا نثق فى الذاكرة، فقد كانت الصورة، الصور التى تعكس حالة العالم من فوضى وإرهاب وتدمير للمدن وقتل أرواح بريئة هى البطلة هنا، وهنا تنقلنا عفيفى من الواقع إلى الخيال، وكأنها تقول إنهما مكملان لبعضهما، أو إن ما نعجز أن نعيشه فى الواقع نحاول، متواطئين مع أنفسنا، أن نعيشه فى الخيال. فالصور، كما فى الرواية، تمنحنا حياة موازية لحياتنا التى تمر بسرعة البرق، وتبقى الصور هى الحياة الهاربة التى لم نعشها.
الرواية التى نقرأ فيها أن أجمل ما فى الصدف أنها تمنحنا لقاءات عابرة دافئة دون تحمّل أعباء صداقات جديدة، تقع فى مائة وتسعين صفحة ومشهدها الأول يصور لحظة وقوع قلب فاطمة / البطلة تحت قدميها حال إقلاع الطائرة إلى باريس، تريد أن تقول إن كلًّا منا يبحث عن الشخص الذى ستكتمل صورته معه، وبدونه فلن تكتمل، صانعة من الصورة هنا بطلًا للرواية، مؤكدة أن الصور هى السجل الثابت للتاريخ دون تزييف، خاصة وأن المنتصرين يعملون على تزييف التاريخ حسب أهوائهم.
كذلك الصور تشفينا من اشتياقنا وتجعلنا نستعيد حياة مضت ولن تعود إلا باسترجاعنا للصورة والنظر إليها كما تقول الرواية. أما فاتيما، النصف المكمل لصورة فاطمة، فرغم غيابها الجسدي، إلا أن روحها دائمًا ما تحضر مع فاطمة، تحفزها وتنصحها وتبث فيها روح المقاومة والصمود أمام أوجاع الحياة ومتاعب فقدها.
غربة مكتملة
عفيفى، فى الرواية التى تأخذ قارئها إلى العاصمة الفرنسية باريس وتعرّفه إلى معالمها كأنه زارها بالفعل، تقول إن هناك فرقًا بين أن نرضى بما نحن فيه، وبين أن نوقف نمو طموحاتنا وأحلامنا، تبحث فاطمة عما يسعدها ناقلًا إياها من عالمها المؤلم، بعد فقد توأمتها فاتيما، إلى عالم تتوق إليه، قد تجد فيه ما يريحها من كل العناء الذى عايشته: قررتْ أن ترى الجمال وكل ما هو مبهج، تلتقط الصور التى تمحو من ذاكرتها الوجع والحنين. البطلة هنا تعانى من الوحدة، مدركة أنها لن تجد من يفهم أحاسيسها، وأنها غائصة فى غربة مكتملة الأركان، ولهذا فهى تبحث عن حياة بديلة فى الصور كى تدفن فيها حياتها الواقعية التى ترفض تفاصيلها القائمة.
«معكِ تكتمل صورتى» التى تدعونا إلى معرفة العالم من خلال قلوبنا حتى نتعرف إلى ذاتنا الحقيقية، تريد أن تقول كذلك إننا حينما نفشل فى إقامة علاقة مريحة ومتبادلة مع آخر مثلنا، فإننا نلجأ إلى التعامل مع الآلة كحل بديل، فلربما وجدنا لدى الآلة ما يواسينا وينسينا ما نحن فيه: وعندما وصلت بها رحلتها فى التوحد إلى حافة حادة على قمة اليأس، كان لابد لها من هزيمة هذه الحالة والائتناس بالناس والتقاط الصور.
الرواية تطرح هنا عدة أسئلة أيضًا: أين هو الحب الحقيقى فى هذا العالم المجنون؟ وماذا يفعل بنا الحب؟ وهل اللهفة تقتل اللقاء؟ ولماذا تأتى الأمنيات متأخرة؟ وهل يمكن للخيال والأسماء المتشابهة أن تصنع وهمًا أم أن الواقع يأخذنا إلى خيال يرنو إلى حلم غائر بدواخلنا نريده بقوة ولا نجده فى حياتنا؟ وهل يستطيع الإنسان أن يتكيف مع الأشياء والأماكن الجديدة دون أن يفقد جزءًا منه؟ وماذا لو اختفت الصور من حياتنا، كيف نتذكر ملامحنا الماضية؟ وهل للصور فعل الحبوب المهدئة أحيانًا؟
كما تريد أن تبين مفعول الفرحة والسعادة على الإنسان الذى تحاصره الأحزان من كل جانب: عندما أفرح أتحول لطفلة تبوح بكل أسرارها لبائع الحلوى.
البطلة هنا تتمنى لو كانت عاشت قصة حب حقيقية، مظهرة معاناتها من بُعد من تحبهم عنها: الحب يا بائع الأقفال لا يصلح للتخليد، إنه وجد ليعيش ويتنفس وينبض فى الأرواح والأجساد. فى وحدتها وغربتها تبحث فاطمة عمن تبوح له لكن: البوح ليس أمرًا سهلًا كما يعتقد البعض، وإن كان متعة وراحة مع الغرباء لأنهم لا يعرفون تفاصيل الحكاية.
الرقص مع الحب
الرواية التى تريد أن تقول أيضًا إن الحياة تراهن علينا حين تضع أمامنا اختيارات مصيرية ولا نملك غير قبول واقعنا وتنغرس فى حلوقنا تلك الغصة بالافتقاد لما نريده ولا نحصل عليه، تتعرض للجانب السياسى مصورة حال الفقراء واللاجئين، والمظاهرات والثورات التى قامت فى بعض الدول العربية، متحدثة عما فعلته داعش فى سوريا، وأمريكا فى العراق، والنزاعات السياسية فى ليبيا.
«معك تكتمل صورتى» التى تقول لنا إن البعض يعشق القيام بدور القديس الذى لا يرتكب الخطيئة، بدور المعلم الناصخ، بدور الملاك الذى لا يريد أن يغضب أحد منه، كما تقول إن البعض يصر دائمًا أنه على صواب وأن من سواه على خطأ دائم، تقول كذلك إن الحب كثيرًا ما يقتل صاحبه، وإن باريس مدينة لا تتذوق غير طعم الحب، وتدعو، الرواية، إلى الرقص مع الحب وعدم تركه ينتظر، حتى لا يفلت من بين أيدينا ولا يعود مرة أخرى.
كلنا غرباء
الرواية التى ترى، على لسان إحدى شخصياتها، أن الزواج مشروع فاشل يقيد الحرية ويقلل من نجاح وطموح المرأة، ترى أن الأيام قد لا تكون كلها جميلة، لكن هناك دومًا شيئًا جميلًا فى كل يوم نعيشه، نرى أيضًا أن السفر حلم حقيقى يشفى الجروح كاللاجئين الباحثين عن وطن، ويمنحنا فرصة أخرى للحياة، وإنه لا توجد أحلام على الأرض، الأحلام مكانها السماء، وحين نحاول لمس السماء تزداد ابتعادًا ويزداد اشتياقنا وعذابنا، وإن الحزن لا يقتل أحدًا، لكنه يجعلنا نشعر بالخواء فى كل شيء. معك تكتمل صورتى تدعو إلى الفرح بالإنجازات وعدم التقليل من قدراتنا، مؤكدة أنه رغم الغربة عن الأوطان إلا أنها تبقى دائمًا فى داخلنا، كما تدعو إلى الهجرة من الأماكن التى تضيق بنا ونشعر فيها بالاختناق.
آخر ما تريد أن تقوله الرواية، بعد أن تنتقد الخوف الذى يمنعنا من فعل ما نريد، هو أننا كلنا غرباء فى عالم غريب، وآخر ما أريد أن أقوله هنا إنه رغم بساطة الحكى والسرد وسلاستهما، إلا أن الرواية تحمل فى أعماقها فلسفة حياتية تشى بثقافة الكاتبة الواسعة، وجلاء رؤيتها للعالم من حولها.