مايك فيليبس - ترجمة: عبد الرحيم يوسف
الهجران والتخلى هما الموضوعان اللذان يتخللان هذه الرواية، ويربطان قصصها بالحب المأساوى والتاريخ والسياسة فى ساحل شرق أفريقيا. الراوى هو رشيد؛ أصغر أبناء معلم بمدرسة فى جزيرة زنجبار خلال الأعوام التى شهدت التحول من الاستعمار إلى الاستقلال السياسي. لكن العلاقة الكولونيالية مع بريطانيا علاقة ظلية تقريبا فى مسار السرد. وبدلًا من ذلك، فإن الثقافة السواحلية والإسلامية، بجذورها العربية، هى التى تشكل خلفية الرواية وتهيمن على حياة الشخصيات.
يحكى رشيد حكايتيْ حب مأساوي. تجرى القصة الأولى فى مطلع القرن عندما يتعثر الرحالة والمستشرق الإنجليزى مارتن بيرس، ذات صباح باكر من عام 1899، خارجا من الصحراء إلى حدود بلدة صغيرة فى كينيا الواقعة تحت الاستعمار، بمحاذاة الساحل الأفريقى الشرقى شمال مومباسا. يسقط أمام حسن علي؛ وهو صاحب محل من أهل البلدة. يأخذه حسن على إلى بيته ويبدأ فى رعايته ليستعيد عافيته. سرعان ما يصل ضابط المنطقة الإنجليزى ويتهم حسن على بسرقة الرحالة المعدم وبخطفه. يعذب الشعور بالذنب بيرس تجاه الطريقة التى عومل بها مضيفوه، وعند شفائه يزور حسن على كى يقدم اعتذاره. وعندما يقابل ريحانة، ابنة صاحب المحل، يقع فى الحب من أول نظرة.
كان والد حسن على تاجرا هنديا استقر فى مومباسا وتزوج من امرأة محلية، لكن العائلة الآن جزء من أقلية مستعربة، هى ميراث سلطنة الرقيق والاستعباد. تتسبب العلاقة بين بيرس وريحانة فى فضيحة تجبر الفتاة على الرحيل.
فى السرد، يتحدى رشيد تردده نفسه فى أن يكرر «كليشيه المعجزات» ويحكى القصة بأسلوب يذكرنا عن قصد بالأصول الثقافية لساحل التوابل، أرض ألف ليلة وليلة، مرددا أصداء الجن والرؤى والرحلات المفاجئة والاختفاءات والإيقاعات المستبدة للمحيط الهندى المحيط بكل شيء. يبدأ حسن على باعتقاد أن بيرس شبح شرير، وتجرى متابعة التلميح فى محادثة مع أحد القرويين: «لقد أدهشتنا يا شيخ مزونجوس (جوَّال بالسواحلية)... لو كنتَ قد تكلمتَ عندما عثرنا عليك منذ بضعة أيام، وأنت تبدو كالجثة، وتحدثت إلينا بالعربية، وتحدثت هكذا فى تلك الساعة الخطرة، أعتقد أننا كنا سنحسبك خادما للكائن الجهنمي.»
بعد نصف قرن، وفى أواخر الخمسينات من القرن العشرين، يشب أمين ورشيد وأختهما فريدة فى زنجبار ما قبل الاستقلال، متلقين لتعليم كولونيالى تقليدي. سيحظى أمين بتدريب كى يكون معلما مثل والدهم. يستعد رشيد للذهاب إلى أوكسفورد أو كمبريدج، وفريدة هى مدبرة منزل الأسرة وحائكة الثياب لشابات البلدة. إحدى زبوناتها هى جميلة، حفيدة مارتن بيرس وريحانة. يقع أمين وجميلة فى الحب، لكن جميلة لديها سمعة مشبوهة كامرأة مطلقة نامت جدتها مع شخص جوَّال. فى روح ثقافة والديه، لا يوجد مجال لأن يتزوج أمين من جميلة، وعندما يكتشفا العلاقة يجبراه على هجرها.
«هل تعرف من تكون؟ هل تعرف أى نوع من الناس هم؟ كانت جدتها شوتارا (هجين بالسواحلية)، ابنة خطيئة لرجل هندي، ابنة زنا. وعندما كبرت وبلغت مبلغ النساء، كانت عشيقة لرجل إنجليزى طوال سنوات عديدة، وقبل هذا منحها جوَّال آخر طفلة خطيئة أيضا، ابنة زنا أيضا. كانت هذه هى حياتها، عيشة قذرة مع رجال أوروبيين... هم عائلة غنية لذا لا يبالون بما يظنه أى شخص. لطالما فعلوا ما أرادوا. هذه المرأة التى تقول إنك تحبها، هى مثل جدتها؛ تعيش حياة أسرار وخطيئة. لقد تزوجت وطُلقت بالفعل. لا أحد يعرف من أين تجيء وإلى أين تذهب، أو من تذهب لتراه. إنهم ليسوا أناسا من نوعيتنا».
لا أحد منهم يفهم كيف ستتغير الحياة فجأة وبشكل تام بعد الاستقلال والثورة التى ستليها. على أى حال، كل العلاقات التى ستتبع الوصول المفاجئ لبيرس محكوم عليها بالهلاك، ضحايا لزمانها ومكانها. العلاقة الوحيدة المتحققة هى علاقة فريدة، لكنها تتأجل طويلا وتتناثر العقبات فى سبيلها. على مستوى آخر، تعجّل كُتُب رشيد هجرانه النهائى لثقافته كلها. «قال إن المكان يخنقه: العبودية الاجتماعية، التدين القروسطي، الأكاذيب التاريخية».
على الجهة الأخرى، فإن العنصر الأقل إرضاء والأقل تبصرا فى الكتاب هو سرد رشيد للطريقة التى وصل بها إلى هجر ثقافة الساحل من أجل عالم المزونجو (الجوَّال). فى حياته الجديدة، تحدث ثورة الجزيرة فى الكواليس، متشظية عبر الرسائل والمقالات الإخبارية. فى سرديته تغدو استعارة للتحولات المدمرة التى تختفى فيها خلفيته، لكننا لا نحظى من الحكى إلا بالقليل مما يمكن أن يضيء العلاقات بين ثقافة الأقلية التى ينتمى إليها والفوضى التى تحل محلها.
أغلب أجزاء رواية الهجران مكتوبة بطريقة جميلة وممتعة مقارنة بأى شيء قرأته مؤخرا، فى استدعاء نوستالجى عذب لطفولة كولونيالية وثقافة إسلامية تلاشت، حددتها أساليبها الفكرية والعرفية، واحتوت طبقات من تقويم أعيادها واحتفالاتها الدينية. وفى نفس الوقت تتوازى كل فضائلها وتتوازن مع أوجه القسوة الصغيرة لمجتمع صغير حميم. إن رسم قرنح لتعقيدات المجتمع هو عمل مايسترو.
نشر فى الجارديان بتاريخ 21 مايو 2005