ولا تزال كلمات السعدني الجميل ترن في أذني .. عندما كان يقول لاصدقائه لولا أم أكرم لتبعثرت حياتي كما تبعثرت أوراقي..

كانت أمي هي الجندي المجهول الذي يعمل في صمت ويضحي دون دعاية ولا إعلان ويتألم والابتسامة تعلو شفتيه ومنذ أن تفتحت عيني علي الحياة لم أضبط أمي في حالة سعادة ولم تعرف الراحة إليها سبيلا وقفت إلي جانب الولد الشقي وحاولت بجهد الرجال الاشداء أن تضبط إيقاع الاسرة السعدية وأن تنظم الامور داخلها وتحملت المرض الذي أصاب شقيقتي الكبري الغالية هالة في وقت كان السعدني الكبير يتجول في معتقلات ناصر في بداية الستينيات ولا يعرف له أحد مكانا علي وجه الدقة في هذه الايام تولت أمي مهمة علاج هالة ورعايتي وأيضا البحث في السجون والاقسام عن شريك رحلة الحياة وبعد ١٨ شهرا من الاعتقال خرج الولد الشقي ليبحثا معا عن مكان تحت الشمس للعائلة وما هي إلا سنوات قليلة حتي جاء رئيس جديد وهو الرئيس أنور السادات فإذا بالسعدني الموعود بأن يفتتح كل رئيس عهده بسجن السعدني يتعرض له المخبرون ورجال المباحث حتي ألقوا القبض عليه بتهمة الخيانة العظمي والتي هي عبارة عن قلب نظام الحكم في العام ١٩٧١ وغاب السعدني خلف الاسوار عامين كاملين لتتحول الأم إلي أم وأب معا ولكن في هذا الوقت كنا خمسة من الاشقاء هالة وأمل وهبة وحنان وشخصي الضعيف وفوق رأس أمي انهالت مسئوليات جسام فقد تحولت أيضا إلي المعلم والمدرس والمؤدب ولكن السيدة الأصيلة المضحية المحبة للسعدني قررت من اليوم الأول للقبض عليه أن تنام علي الارض بلا أي حاجز بينها وبين الارض وعندما سألناها السبب.. قالت أبوكم بينام علي الارض وسوف أشاركه هذا الحال حتي يأذن الله بخروجه من السجن وفي هذا العام حققت أمي ما يشبه المعجزة عندما عبرنا أنا وهالج مانعا دراسيا بدا شديد التعقيد مستحيلا عبوره ولكن بفضل جلد أمي وصبرها علينا وضربها لنا أحيانا ومجاملتها أحيانا أخري نجحنا بعون من الله وبفضل أمي وعندما ذهبنا لزيارة السعدني في السجن أمسك بشهادة النجاح في الابتدائية وهو غير مصدق لما حدث وقال. طيب أنا ح أفضل هنا أحسن.. أهي العيال فلحت أهي.. وبعد عامين كاملين وفوقهما يوم خرج السعدني من سجنه يصدمه قرار السادات بمنعه من الكتابة فاتجه إلي خارج مصر في رحلة المنفي التي دامت عشر سنوات وبقينا في القاهرة حتي حققت أمي معنا المعجزة الأكبر والثانية لها بعبور الشهادة الاعدادية ثم اتجهنا إلي السعدني في رحلة لم الشمل التي لم يكتب لها النجاح علي الاطلاق بسبب أحوال العالم العربي السعيدة.. ولكن مجيء حسني مبارك علي رأس السلطة كان هو نقطة الانقلاب في مأساة الاسرة وكتب لهذه المصائب والمنافي والتشرد لعشر سنوات أن تتوقف وهو أمر سوف نحمله في أعناقنا للرئيس مبارك أيا كان خلافنا معه فقد شعرنا جميعا بالأمان ويكفي أن السعدني أباح لأمي رحمهما الله ونحن في العراق.. أنه يخشي أن يموت وهو خارج مصر ويدفن بعيدا عن ترابها منذ ذلك اليوم لم تكف رفيقة رحلة الشقاء والضنا عن البكاء.. ويا سبحان الله لم تكتف هذه السيدة العظيمة بأداء مهمتها علي الوجه الأكمل بل أنها لعبت مع أحفادها أولاد هالة وهبة وأنا في نفس الدور فتولت ربايتهم ورعايتهم دون ان تكلف أحدا عناء هذه المشقة المستحيلة وكانت رحلة الحياة وما صادفته من أحزان أن تكسر الأم والأب ولكن كل المحن مرت بسلام حتي جاءت فاجعة موت هبة شقيقتنا التي تأتي الرابعة في ترتيب الولادة.. بعد رحيل هبة رحمها الله استسلم المقاتل العنيد السعدني الكبير والحق أقول أنه لم يستسلم بقدر ما فتح الأبواب للأمراض لعلها تنهي مرارة المأساة التي خلفها فراق هبة ولكن كان علي أمي أن تموت كل لحظة وفي نفس الوقت تقاوم من أجل صغار هبة وتربيتهم ورعايتهم وكانوا لا يزالون أطفالا صغارا.. ولا تزال كلمات السعدني الجميل ترن في أذني .. عندما كان يقول لاصدقائه لولا أم أكرم لتبعثرت حياتي كما تبعثرت أوراقي..
فقد كانت أمي أحد أسباب بهجة الحياة حتي وهي مريضة وغير قادرة علي الحركة كانت النظرة من عينيها تسعد قلوبنا وتبهجها..
ذهبت أمي إلي رحاب الله وحملت معها في نعشها كل البهجة والمتعة والحنان وكل معاني التضحية والوفاء أسأل المولي عز وجل أن يرحمك رحمة واسعة بقدر ما كنت رحيمة بنا وبكل من اقترب من شخصك الذي يندر يا أمي أن يتكرر.