كنوز| ثورة أكتوبر

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

رُدت الروح بعد معاناة طعم الموت ست سنوات، رأيتُ المصرى خلالها يسير فى الأسواق مرتديًا قناع الذل، يثرثر ولا يتكلم، يقطب بلا كبرياء، يضحك بلا سرور، يتعامل مع المكان وهو غريب، ويساير الزمان بلا مستقبل، من حوله عرب متقاربون وقلوبهم شتى، وأصدقاء من العالم يعطفون عليه بإشفاق لا يخلو من زراية، وعدونا يعربد، يأسرنا فى السماء، يتحدانا فى الأرض، ضربة فى سوريا، لطمة فى لبنان.

وأسأل النفس الحزينة ما العمل، ما المصير؟ القتال منا يُقال محال، والاستسلام محال، والاستنزاف لا يتوقف، ثم رُدت الروح بعد معاناة الموت ست سنوات، روح مصر تنطلق بلا توقع، تتجسد فى الجنود، بعد أن تجسدت فى قلب ابن من أبر أبنائها، اتخذ قراره ووجه ضربته، ووقعت المعجزة، انتقل الجيش من الغرب إلى الشرق، ذهل الأصدقاء والأعداء، استرد المواطن كبرياءه، سارت مصر من عصر إلى عصر، ومن عهد إلى عهد، ومن موت إلى خلود.

أيها الزعيم.. لقد وفرت السلاح، ولعلمك بأن الإنسان لا يحارب بالسلاح وحده، سلّحت شعبك قبل ذلك بالقانون والديمقراطية والحوار الحر، فإلى الأمام، ومهما تكن العواقب فقد رُدت إلينا الروح والعصر والمستقبل، إنها ثورة وليست معركة فحسب، المعركة صراع بشرى ينتهى بالنصر أو بغيره، أما الثورة فوثبة روحية تمتد فى المكان والزمان حتى تتحقق حضارة، وهى ثورة لأنها لم تكن مجرد تدبير محكم وتنفيذ متقن، ولكنها رمز لثورة الإنسان على نفسه وتجاوزه لواقعه وتحديه لمخاوفه ومواجهته لأشد قوى الشر عنفًا وتسلطًا.


6 أكتوبر ثورة فتحت لنا الطريق بلا نهاية، وليس العبور إلا أول قفزة فى تيار تحدياته، وليس النصر إلا أول نصرعلى عقبة من عقباته، وهو طريق يصادف الماضى فيه النجاح والفشل، والنصر والهزيمة، والتقدم والتقهقر، ولكن كل أولئك مواقع وعلامات، نمر بها ونتعلم منها، ولا نتوقف عن التقدم أبدًا، ثورة 6 أكتوبر، ثورة تحرير مصر الحديثة، ثورة الإرداة والعقل والروح، والدرس المستخلص هو الدور الذى لعبه الإيمان فى الصراع، الإيمان روح الأمة، تستيقظ وتنام، تأكل وتشرب، تجتهد وتجاهد، تتحدى وتقاتل، تخاصم وتهادن، باسم الله، بمناجاة الله، وفى سبيل الله، لذلك فإن مسئوليتها حيال هذا الإيمان خطيرة باعتباره جزءًا لا يتجزأ من شخصيتها، عليها أن تدعمه وتقيمه على أسس راسخة مضيئة، وتنقيه من الخرافات، وتصونه من الانحرافات، وتسمو به إلى الدرجات العليا من الصفاء والنقاء، الإيمان رسالتها الذاتية فى وطنها الذى كان أول وطن يُدعى فيه إلى عبادة الواحد الأحد منذ عهد إخناتون، وطنها الذى كان بعد ذلك مهد الرسالات السماوية، وميدان جهاد الأنبياء والمرسلين. فرسالتها هى رسالة الحب والإخاء لجميع عباد الله، لا نفرق فى ذلك بين أغلبية وأقلية، ولا تعيش فيها الأقلية بفضل حماية الأغلبية وتسامحها ولكن بصفتهم أعضاء متساوين فى الحقوق والواجبات فى وطن مقدس واحد، وحّد أهله حب الأرض والشوق إلى ذى الجلال، جميعهم مواطنون مؤمنون من درجة واحدة، لا تمييز بينهم إلا بالكفاءة والخلق.


والدرس المستخلص أيضا هو الانتفاع الذكى من العلم على جميع المستويات، القيادة السياسية تعمل بتخطيط منهجى دقيق وحكيم، غزت به حصونًا منيعة كانت تقف حتى الأمس القريب مع العدو، وألفت بين قلوب عربية شتتها نزاع هوائى واهى الأساس فتحقق بذلك إنجاز هام مهّد الأرض لمعركة مصير القيادة العسكرية كما ثبت من انتصاراتها، وكما شهد به الأعداء قبل الأصدقاء من قوة تكتيكاتها، آية على الكفاءة العسكرية العملية التى أهّلتها لمعركة عصرية معقدة، والجنود لم يهجموا ويصمدوا بقوة الإرادة والروح وحدها ولكن باستيعاب للأسلحة الحديثة، لا نجاح فى حرب أو سلم فى هذا العصر بغير العلم، إنه الباب الذى لا دخول إلى العصر إلا من خلاله.
«الآداب» البيروتية 1973