.. مشهد 1 عام 1980
شوارع واسعة اكتست بلون السمرة ، غمرتها آشعة الشمس النضرة نهارآ، وتزينت بمصابيح الطيبة ورائحة الأكل المعد في الأفران الطينية ليلآ . تراصت فيها المباني الحجرية والطينية على الجانبين،وجرت حولها ترعة تحتضنها وترويها بالحب والخير والتلقائية والجمال . تلك الترعة التي نبتت من تحت كوبري النقطة الثابتة ودارت حول القرية في مدارات حنان عجيبة حتى التقت برافد النهر في المدينة . وعلى شاطئ الترعة يجتمع السمار ليلاً .
هنا تدور حلقات السمر حول راكية النار تحت أشجار الجميز والصفصاف .. تلفح فيها الرجال بالحكمة وتشبع نهم المجتمعين بحكاوى كثيرة عن الرضا والستر و الخير واحترام الكبير وتوقير الشيوخ والعجائز . وهناك تسرى الحكايا عن الأرض والعرض وفروسية أبو زيد الهلالي وقصة ناعسة وأيوب وحديث الصييت في المولد . وعلى مقربة من هذه الحلقة استبق مجموعة من فتيان القرية الأبواب نحو الجرن ومضيفة القرية حيث يجري سباق العدو يتعالى فيه صوت الضحك النابع من القلوب الخضراء الطرية التي لا تعرف للخبث مكان .
يكفيك أن تكون ضيفآ لأحد أبناء القرية حتى تجد أن كل البيوت .. بيتك .. وكل الناس أهلك وكل فتيانها إخوانك .. عضدك وسندك .. الحياة هناك سلسة طيبة بسيطه لا معنى فيها للتعقيدات ولا للكبر أو التكبر.. ولا وجود فيها للفظة تخدش الحياء أو حركة لناشز عن مدار الأخلاق . اتفق الجميع حول معنى واحد وهو حب الخير والأهل والوطن
عين الحياة .. مشهد 2 عام 2020
شوارع ضيقة متعرجة اكتست بلون كالح امتد بفعل السنين . غابت عنها حلقات السمر واستبدلت بدوائر متقاطعه من جحافل التوكتوك . اختفى الكبار خلف شاشات التليفزيون واستبدلوا احاديثهم وضحكاتهم وحكاويهم القديمة بوسائل السوشيال ميديا الحديثه . اخذ كل منهم مكانه في احد أركان البيت وجلس يتابع الفيسبوك ويشاهد المواد المسجلة عليه . غاب عن المشهد القديم الفتيه وأطفال القرية اللذين ضجوا بهذه الأصوات المنبعثة من كائن التوكتوك ومفردات أغانيه عن ( الأخصام ) اختفت سيرة أبو زيد الهلالي وناعسه وأيوب وحكاوى الصبر والخير والجمال . وصعدت إلى السطح مشاحنات وعراك وخلافات نجوم التيكتوك واليوتيوب ..
بين المشهدين .. وقفت متعجبآ .. سألت نفسي . إلى أي القريتين أنتمي ؟ بداخلى ما زال يحيا ذلك الطفل المحب للخير والجمال وأخلاق القرية البسيطه . وبعقلي يتصارع المشهدان بين واقع يحتاج الكثير من العمل وماض جميل ولى واندثر .
