تفاصيل الكشف عن مخطوطات سيلين المفقودة

إجازة الصيف، على الأوساط الأدبيّة الفرنسيّة كأنّها قنبلة
إجازة الصيف، على الأوساط الأدبيّة الفرنسيّة كأنّها قنبلة

فى السابع عشر من يونيو العام ١٩٤٤، وعقب عمليات الإنزال التى قام بها الحلفاء فى نورماندي، يتبدّى تحرير باريس على الأبواب.


ويشرع أفراد المقاومة فى دسّ نعوشٍ مُصغّرة- تهديدات بالقتل- داخل صندوق بريد الروائى والطبيب «لويس- فرديناند ديتوش» الّذى اشتهر باسمه المُستعار «سيلين»، فتُخفى زوجته الرّاقصة «لوسيت المنصور» مسكوكات ذهبيّة داخل بطانة سترته.


ويودِّع الأخير صديقته الممثلة «أرليتي» التى اشتهرت بدورها فى الفيلم الكلاسيكى «أطفال الفردوس» وبأنّ لها عشيقًا ألمانيًّا، وتحمل سكرتيرته عددًا من المخطوطات، لكنّه يُضطر إلى التخلّى عن أغلب مؤلفاته. 

 

ويفرّ الزوجان «ديتوش» بصحبة هرّهما «بيبير» إلى محطة سكك حديد الشرق فى الطريق إلى ألمانيا، ويُقيمان بعض الوقت برفقة رئيس الوزراء المُتعاون مع العدو المُحتل المارشال «فيليب بيتان»، وحكومة فيشى داخل قلعة «زيجمارينجن» [فى ألمانيا]. بعدئذ يُسافر الزوجان إلى الدنمارك حيثُ دفن «سيلين» كنزًا من سبائك الذهب، لكن الدنماركيين يلقون به فى السجن عامين كاملين أثناء النظر فى التماس فرنسى لاسترداده وتسليمه.
 
تُدين فرنسا «سيلين» بجرائم أمنية فى العام ١٩٥١، ثمّ تعفو عنه على أساس أنّه أحد قدامى المحاربين العاجزين من الحرب العالمية الأولى. فيستقر فى بلدة «ميدون» جنوب غرب باريس، ويوقِّع عقدًا حصريًّا مع دار نشر «جاليمار»، ويستأنف ممارسة الطبّ، وتبدأ «لوسيت» فى إعطاء دروس فى الرّقص.
 
لكن حتّى وفاته فى العام ١٩٦١، ما انفكّ «سيلين» يشكو مُرّ الشكوى من نهب شقّته فى حى «مونمارتر» إبّان صيف العام ١٩٤٤، فكتب فى العام ١٩٥٧: «لم يتركوا لى شيئًا. لا منديل، ولا كرسي، ولا مخطوط واحد.» وقد دأب كُتّاب سيرة «سيلين» على تعقّب مخطوطات مؤلفاته لكن من دون طائل، لا سيّما مخطوط روايته «علف المدافع» Cannon Fodder؛ وهى الصِّلة بين روايته «رحلة إلى أخر الليل» (١٩٣٢) و«موت بالتقسيط» (١٩٣٦)، وكلتاهما روايتين تحكيان جانبًا من سيرة «سيلين» الحقيقيّة.

 

لكن بعد ثلاثة أرباع القرن؛ وفى السادس من أغسطس من هذا العام، نشرت صحيفة «اللوموند» الفرنسيّة تقريرًا على ثلاث صفحات حمل عنوان: كنوز «لويس- فرديناند سيلين» المُكتشفة». وهكذا هوت تلك الأنباء؛ فى منتصف إجازة الصيف، على الأوساط الأدبيّة الفرنسيّة كأنّها قنبلة.


 
ستة آلاف صفحة

 

أقرّت مكتبة فرنسا الوطنيّة بصحة حوالى ستة آلاف صفحة مكتوبة بخطّ يدّ «سيلين»، أصاب العفن أغلبها بسبب اختزانها داخل قبو، حيثُ لا تزال الفصول مشبوكة معًا بمشابك الثياب كما اعتاد «سيلين» 
وتشير تقديرات إلى أنّ قيمة ثلاث روايات غير منشورة فى مراحل مُختلفة من الاكتمال؛ وروايات قصيرة؛ وروايات أولى أعيد كتابتها؛ ومراسلات وأوراق شخصيّة، ربّما تصل إلى عشرات الملايين من اليوروهات. 
 لشدّ ما يبدو هذا مصيرًا غير مؤتلف بالنسبة لكاتب لطالما عاش طريدًا منبوذًا؛ بسبب نشره ثلاث كُتيبات عنيفة فى مناهضتها لليهود وهي: «أباطيل لأجل مذبحة» (١٩٣٧)، و«مدارس للجثث» (١٩٣٨) و«فوضى مُدهشة» (١٩٤١).
 
على أنّ بريق روايات «سيلين» التى يُقال أنّها تخلو من الحديث المُناهض لليهود، غطّى على الخزى المتّصل بتلك الكتيبات الثلاثة البغيضة، وصار يُنظر إليه؛ إلى جانب «مارسيل بروست»، باعتباره أحد عملاقى الأدب الفرنسى فى القرن العشرين، فكتب الأكاديمى والنّاقد الأدبى الرّاحل «جورج ستاينر» George Steiner: «كاتبان اثنان فحسب تفضى مؤلفاتهما إلى أسلوب تعبير وحساسيّة السّرد فى القرن العشرين، هما «سيلين» و«بروست»»؛ ففى حين فضح «بروست» عواطف ومشاعر الأرستقراطيين وكبار البرجوازيين الفرنسيين، تعاطف «سيلين» مع السكّان البائسين مِمَن شهدوا معارك الحرب العالمية الأولى وفى المستعمرات الفرنسيّة فى أفريقيا، من عُمّال خطوط التجميع والبغايا ونُزلاء الملاجئ.
 
وكانت الحياة الأكاديميّة تصدّ عن «سيلين» حتّى قرر «فريديريك فيتو» Frédéric Vitoux؛ وكان آنئذ طالب دكتوراه وهو الآن عضو فى الأكاديميّة الفرنسيّة، أن يكتب أطروحته عن الكاتب المنبوذ فى العام ١٩٦٨. وعن ذلك يقول «فيتو»: «لم أتجاوز قطّ الصدمة الناجمة عن قراءة «رحلة إلى أخر الليل» حين كان عمرى سبعة عشر عامًا. فما أندر أن يقرأ المرء كتابًا يُغيّر الطريقة التى يرى بها العالم. كان للكتاب وقع الزلزال فى حياتي، لا سيّما عبارات مثل: «الموت هو حقيقة الحياة»، و: «الحُبّ هو الرمية التى لا تنفد من جعبة كلاب البودِل»»


 
أسلوب عنيف

 

ولخّص «سيلين» قسوة مانهاتن فى كتابه «رحلة إلى أخر الليل» حين كتب: «تزداد لا مبالاة المُدن كلّما اتّسعت رقعتها وعلت مبانيها.»، ويصف «فيتو» نثر «سيلين» بقوله: «لقد صفعنى على وجهي؛ ذلك أنّ هوسه بالموت، وأسلوبه الخشن والعنيف، واستعماله للتعبيرات الدّارجة واللغة العاميّة، إلى جانب معرفته واختياره الدقيق للمفردات، جعلنى أرى العالم من زاوية تراجيديّة لم أشهدها من قبل. 
ولا أخال أنّ ثمّة كاتبًا آخر يحظى بنفس القدرة.» 
وقد أدّى اكتشاف مخطوطات «سيلين» المفقودة إلى نكء جراح الحرب العالمية الثانية، وإثارة الجدل حول علاقة الحياة الشخصيّة للكاتب بنتاجه الأدبي. فحين كرّست إذاعة فرنسا الدوليّة برنامجها الصباحى الرئيس للمخطوطات المستعادة، اتّصل مستمع حانق للتعبير عن اشمئزازه هاتفًا أنّ: «المتعة الفكريّة تأتى فى المرتبة الثانية بالنسبة لي... لقد كان «سيلين» محض قذارة.» 
فازت سيرة «سيلين» التى أصدرها «فيتو» فى العام ١٩٨٨ بثلاث جوائز أدبيّة كُبرى، وقد خصص مئات الصفحات للكتابة عن مُناهضة «سيلين» لليهود، لكنّه يُحاجج قائلًا: «سنخسر أربعة أخماس الأدب الفرنسى لو بدأنا فى مُقاضاة الكُتّاب من زاوية ما إذا كانوا قد خانوا زوجاتهم، أو كانوا كارهين للنساء، أو لصوص أو اقتنوا عبيدًا... فآنئذ لن نتمكّن من تأمّل لوحات «كارافاجيو» لأنّه كان قاتلًا، أو لوحات «جوجان» لأنّه كان يُضاجع قاصرات تاهيتيات.» «عزرا باوند» كتب هو الآخر بعض نصوص مُناهضة لليهود، وكتب الشّاعر «لوى أراجون» قصائد فى مديح ستالين الذى كان مسؤولًا عن بعض أبشع المذابح فى القرن العشرين. يقول «فيتو»: «إنّ مكانة «سيلين» فى فرنسا تُضاهى مكانة «جويس» فى العالم الناطق بالإنجليزيّة؛ فكلاهما مُبدعين حطّما حدود اللغة.»

 

أسطورة قروسطيّة

 

يروى كتاب «رحلة إلى أخر الليل» قصة حياة «سيلين» عقب الحرب العالميّة الأولى، فى حين يعود كتابه «موت بالتقسيط» إلى سنين طفولته ومراهقته البائستين. أمّا أغلب كتابه «علف المدافع»؛ وهو الكتاب الثالث فى الثلاثيّة، ويدور حول تجربة «سيلين» باعتباره جُنديًّا أثناء الحرب العالميّة الأولى، فقد سُرق فى العام ١٩٤٤.
 
وتضم الخبيئة المُستعادة ستمائة صفحة من الرواية «الصِّلة الضائعة»، إلى جانب نصّ عن الحرب يقع فى مائتين وأربعين صفحة، ورواية بعنوان «لندن» من ألف صفحة، وأسطورة قروسطيّة تحمل عنوان «وصية الملك كروجولد»، ومخطوطات روايات سابقة أعاد كتابتها، ومراسلات شخصيّة ومجموعة وثائق استعان بها «سيلين» فى تأليف كُتيباته المناهضة لليهود.
 
وقد اتّهم «سيلين» «أوسكار روزمبلي» Oscar Rosembly؛ وهو كورسيكى متعدد المواهب والمهارات عاش فى حى «مونمارتر»، بسرقة أوراقه. ثمّة نظريات أخرى، لكن أغلب المتخصصين يعتقدون أنّ «روزمبلي»- الذى لم يكن يهوديًّا على عكس ما ظنّه «سيلين»- نهب شقّة «سيلين». وكان الأخير قد وظّف «روزمبلي» باعتباره مُحاسبًا؛ بسبب تصديقه للفكرة النمطية التى مفادها أنّ اليهود ماهرون فى شؤون المال.
 
وكان «روزمبلي» قد زعم عقب تحرير باريس أنّه كان أحد مُقاتلى المُقاومة، على أنّه سُجن بسبب ارتكابه كثير من أعمال السلب والنهب، وقد عاش حياة زاهية ثمّ عاد أخيرًا إلى كورسيكا، حيثُ اشتهر بالاستحمام عاريًا فى فسقيّة القرية، قبل أن يصطحب سرّه معه إلى القبر فى العام ١٩٩٠. 
ثمّ منذُ خمسة عشر عامًا، أعطى شخصٌ ما مخطوطات «سيلين» لـ«جان-بيير تيبودا»؛ وهو مراسل صحافى سابق فى موسكو وناقد مسرحى لصحيفة «ليبراسيون» الفرنسيّة. ويقول «تيبودا»(وهذا اسمه القلمي) أنّ سبب اختياره هو أنّه لن يُشتبه فى تواطؤه مع اليمين المتطرف؛ إذْ كان مثقّفًا يساريًّا يعمل فى صحيفة يساريّة ونجل عضوين من أعضاء المُقاومة. ويواصل «تيبودا» أنّ المُتبرِّع المجهول طلب منه أن يتعهّد له بألا يكشف عن المخطوطات إلا بعد وفاة «لوسيت ديتوش»؛ ذلك أنّه لم يرغب فى أن تحصل الزوجة على مليم واحد من نشر تلك المخطوطات، لكنّ «لوسيت» عاشت ١٠٧ عامًا.


 
سلع منهوبة

 

أمضى «تيبودا» أغلب السنوات الخمس عشرة الماضية فى فهرسة ونسخ مخطوطات «سيلين»، وبعد إنهاء الإغلاق العام الأول بسبب فيروس كورونا فى يونيو من العام ٢٠٢٠، اتّصل بـ«إيمانويل بييرات» وهو مُحام مُتخصص فى قوانين الملكيّة الفكريّة، والتقى «تيبودا» و«بييرات» بالمُنتفعين من وصية «لوسيت ديتوش»، وهم محاميها و«فرانسوا جيبو» (٨٩) عامًا و«فيرونيك شوفين»(٦٩) عامًا؛ وهى طالبة رقص سابقة أصبحت صديقة حميمة لـ«لوسيت» فى سنواتها الأخيرة.
 
لكن فى سبتمبر من العام ٢٠٢٠، رفع الورثة دعوى ضد «تيبودا» لحيازته سلعًا منهوبة، وعقب إنهاء إغلاق كورونا الثانى فى مارس من هذا العام، حمل «بييرات» و«تيبودا» الوثائق داخل ثلاث حقائب ضخمة إلى الإدارة المركزيّة لمكافحة الاتّجار فى السلع الثقافيّة، التى سلّمت المخطوطات إلى «جيبو» و«شوفين» فى يوليو، قبل أن تكشف صحيفة «اللوموند» النقاب عن القصة برمتها.
 
على أنّ نزاعًا قانونيًّا وإعلاميًّا مريرًا لا يزال مستمرًّا؛ إذْ صرّح «جيبو» لصحيفة «ليبراسيون» بقوله: «لن نسحب دعوانا القضائيّة بأى حال؛ ذلك أنّ «تيبودا» قدّم نفسه ومُحاميه باعتبارهما مُحسنين إلى الأدب الفرنسي، فى حين رفضا تسليمنا المخطوطات حتّى استدعتهما الشرطة.» ويُشير الصحافى إلى أنّه لم يطلب مُقابلًا ماليًا قطّ.
 
ويقول المُدّعوون أنّ «تيبودا» حرم العالم من مخطوطات «سيلين» طوال ما يزيد على الخمسة عشر عامًا، وهو يُخفى الآن هوية اللصّ. يقول «جيرمى أسوس» محامى الورثة: «يزعم «تيبودا» أنّ على الصحافى حماية مصادره، لكنّه لا يحمى عملًا صحافيًّا، بل يحمى لصًّا. تُرى هل امتلاك بطاقة صحافى يعنى الاحتفاظ بممتلكات مسروقة مع الإفلات من العقاب؟» 
ويعتزم «أنطوان جاليمار» الاستمرار فى أداء دوره باعتباره ناشرًا حصريًّا لإرث «سيلين» الأدبي، الذى يشغل الآن أربع مُجلدات من كُتب دار «بلياد» Pléiade الرفيعة راقية التجليد. لكن المخطوطات المُكتشفة تعنى أنّ الدار ستضطر إلى إعادة تحريرها وإصدارها فى خمسة أو ستة مُجلدات. 
> نقلًا عن The Irish Times