«العمر لا يحتمل».. مأساة من دفتر معاناة الأهل مع «قانون الرؤية»

العمر لايحتمل
العمر لايحتمل

أخبرها محاميها تليفونياً أنها أخيراً سترى حفيدها، أرسل إليها صورة من حكم الرؤية الصادر لصالحها، لم تتمالك العجوز نفسها، صرخت وسط عملها فى إحدى الجهات القضائية قائلة «الحمد الله، حاشوف مروان»، بعدها قررت الاستئذان والتوجه بسرعة إلى مكتب المحامى للإطلاع على موعد الرؤية لتجهيز نفسها للقاء الذى انتظرته كثيراً. 

لم تعبرعن فرحتها بابتسامة فقط، بل انهمرت الدموع من عينيها، ذكريات مؤلمة حركت هذه الدموع لتسقطها بغزارة، وسط حزن وتعاطف من زملائها فى العمل، الذين يدركون جيداً كم من الوقت انتظرته هذه الجدة لترى ما تبقى لها من الحياة بعد أن مات الزوج والابن الوحيد فى حادث سيارة.

كانت تحلم بهذا اليوم، وذلك بعد أن قررت أرملة ابنها حرمانها من رؤية حفيدها، حيث حاولت معها ودياً، لكن الزوجة رفضت كل المحاولات وصممت على عدم رؤية الجدة لحفيدها لأسباب لا تعلمها هذه السيدة ذات الـ59 عاماً حتى الآن.

وصلت الجدة إلى مكتب المحامى، أخبرها أن الرؤية ستكون ساعتين كل جمعة فى أحد الأندية الاجتماعية بمدينة دمنهور، وأنه اتفق مع شقيق أرملة ابنها على إحضار الحفيد فى يوم الرؤية حتى لا تحدث مشاكل بينها وبين الأم.

أعدت الجدة نفسها جيداً لهذا اللقاء، عام كامل لم تر فيه حفيدها بعد أن فقدت ابنها وزوجها، لذلك كانت حريصة على أن تصطحب معها فى الزيارة كل الصور التى تجمعها بابنها وحفيدها الذى كان عمره وقتها 5 سنوات.

أرادت الجدة، أن يتذكر حفيدها معها ابنها وزوجها، قررت أن تشرح له ذكريات هذه الصور، وتخبره عن كل شىء جمعهما به، لم تكتفِ بذلك بل سارعت إلى متجر ألعاب، واشترت قطاراً كهربائياً، حيث تذكرت حديث ابنها الذى كثيراً ما كان يخبرها عن شغف حفيدها بالقطارات الكهربائية.

جاء يوم الجمعة، حيث الموعد المنتظر، ارتدت الجدة أفضل ما لديها من ثياب، تعطرت وكأنها ذاهبة إلى عرس، حملت بيدها اليمنى مظروفاً به كل الصور التى تجمعها بحفيدها وابنها وزوجها، وفى اليد اليسرى كرتونة تحوى القطار الكهربائى «الهدية» التى اشترتها لحفيدها.

حضرت الجدة مبكراً إلى النادى، جلست على أحد المقاعد فى الطابق الأعلى، بعدها استمعت إلى صوت المذيع فى الإذاعة الداخلية يشير إلى أن مكان الرؤية سيكون فى الطابق السفلى وعلى الجميع التقيد بمدة ساعتين.

أسرعت إلى الطابق المحدد، حجزت الطاولة المواجهة مباشرة إلى باب الدخول، بعد انتظار عشرين دقيقة، رمقت بعينها الحائرة والقلقة والمتلهفة، حفيدها بصحبة والدته وشقيقها يقترب من باب الدخول.

لم تحزن على حضور والدة حفيدها، فقد كانت سعيدة لرؤيته، حيث ارتسمت على وجهها ابتسامة غابت كثيراً عنها، كانت تؤمن من داخلها بأن الجميع يجب أن يشعروا بوحدتها ،وأنه لم يعد لها أحد فى هذه الدنيا سوى هذا الطفل البرىء.

اقترب الجميع منها ، قامت فجأة من مقعدها،وتحركت فى اتجاه حفيدها، تجاهلتها أرملة ابنها، واتجهت إلى موظف النادى لتخبره بحضورها حسبما أخبرها محاميها.

عادت الجدة إلى الطاولة مرة أخرى لكن هذه المرة يتملكها نوع من الحزن والانكسار، انتظرت دقائق حتى فرغ الجميع من تسجيل الحضور، بعدها اصطحب خال حفيدها الطفل متوجهاً صوبها فى الطاولة.

بمجرد أن وصل إلى طاولتها، ألقى التحية عليها ثم جلس بجوارها، واستأذنها فى أن تكون الرؤية ساعة لارتباطها بموعد مع الطبيب لإجراء جلسات علاج لحفيدها، لم ترفض الجدة، اومأت بالموافقة، ثم تحرك الشاب لإحضار الحفيد إلى الطاولة.

غاب الجميع 10 دقائق، شاهدت الجدة من بعيد مفاوضات وأصواتاً غريبة بين الشاب وشقيقته والحفيد للتحرك إلى طاولتها، بعدها شاهدت الحفيد بصحبة الشاب يقتربان منها، عادت الابتسامة والهدوء إليها ثم قامت بفتح مظروف الذكريات وكرتونة الهدايا تمهيداً لتقديمها للحفيد.

بمجرد أن اقترب الحفيد من الطاولة صرخ وأخذ ينادى على والدته، رفض كل المحاولات فى الجلوس مع جدته، أخبرها أنه يكرهها، وأنها ستقتله وتخطفه، ظل يصرخ وينادى على والدته ،حاولت الجدة تهدئته، لكن الحفيد لم يتوقف، أخذ يبتعد عنها ، يخبرها أنه يكرهها ولا يريد أن يعيش معها.

حاول الشاب تهدئة الصغير، أخبره أن جدته أحضرت الهدايا التى يحبها له، وأعطاه كرتونة القطار،لكن الطفل ظل على صراخه، ثم ألقى القطار على الأرض وتهشمت أجزاء منه، وأخذ يردد « أريد ماما ، لا أريد هذه السيدة «.

لم يستطع الشاب التحكم فى الطفل ، استأذن الجدة بأخذه وتهدئته بعيداً ،وتوجه به صوب والدته التى كانت تراقب المشهد من بعيد ،وعندما اقترب منها قفزت من مقعدها ،واحتضنت صغيرها ، و طلبت من شقيقها المغادرة ويكفى ماحدث .

حاول شقيقها اثناءها عن المغادرة ،تواصل مع محاميها الذى أخبره أن ما فعله الصغير هو المطلوب، وأن الجدة لن تحاول تكرار التجربة مرة أخرى .

بالفعل غادرت الأم والحفيد ،وتركا الجدة وسط دموعها وأحزانها ، حققوا مرادهم ،وأوصلا الرسالة إليها بوضوح « انتبهى ، لا يوجد ما يربطك بنا ، كفى كل هذا «.

غادرت الجدة المكان صامتة ، لاتتحدث مع أحد ، تكاد خطواتها تحملها لعبور الشارع المواجه للنادى .

لم تدرك أنه تم التلاعب بها ، كانت تسأل نفسها كثيراً ، لماذا كل هذه الكراهية ، ألا يكفى الحزن الذى أعيشه ، فقدت ابنى وزوجى ، واليوم أفقد حفيدى .

عادت الجدة إلى منزلها ، قررت إخبار محاميها بما حدث ، شرحت له الموقف الذى تعرضت له ، ليقرر بعدها التقدم ببلاغ للنائب العام يتهم الزوجة بزرع الحقد والكراهية فى نفس ابنها اتجاه جدته ، كما قرر إقامة دعوى لإلزام الزوجة بالتعويض عن كل ساعة رؤية تتخلف عن الحضور فيها .

للكراهية عقوبة

اطلعت على قصة هذه الجدة جيداً، التقيت بها فى إحدى الهيئات القضائية، وبعدها التقيت بمحاميها، أتابع حالتها النفسية والصحية بصفة مستمرة، وأدرك أنها تعانى، وأن الموت بالنسبة لها أفضل من الكره الذى تولد فى نفس حفيدها اتجاهها.

أضم صوتى إلى أصوات آلاف الأجداد والآباء والأمهات الذين يتعرضون لمثل هذه المواقف ..

وأصرخ « عاقبوا من يزرع الكراهية فى نفوس أبنائه تجاه أقاربه وأسرته ..

أوجدوا مادة فى القانون تحمل هذا المضمون ، ولا تكتفوا بالعقوبة المالية لأن هناك من يستطيع دفع الملايين ليهين من اتخذه نداً أو عدواً له.