يوميات الأخبار

ليلى .. أكثر من مأساة

د. محمد أبوالفضل بدران
د. محمد أبوالفضل بدران

تسلل الشيطان إلى نفس المتهم ففكر مليّا وبعد هدوء وروية عقد العزم وبيّت  النية على الخلاص من أبنائه

ليلة كاملة قضيتُها لم أذق فيها طعم النوم بعد أن علمت هذه المأساة ، كنت أتخيل أن مأساة أوديب لسوفوكليس هى المأساة الكاملة كما رآها أرسطو لكن ما سمعته عن مأساة ليلى التى جاءت إحدى الجامعات من مكان بعيد تعادل مأساة أوديب فهى فتاة راضية بقدرها ؛ فعندما كانت فى السابعة عشر من عمرها قرَّر أبوها تزويجها من رجل يكبرها بأضعاف سنّها فرفضت وأصرّ الأب الصعيدى الديكتاتور فى كل تصرفاته على إتمام هذه الزيجة فقد وافق وأعطى كلمة وانتهى الأمر، حاولت ليلى إقناع أبيها أن الزواج قَبول وأنها ترفضه فردّ عليها "فى هذه الحالة سأُطَلِّق أمَّك بالثلاثة" حاولت وحاولت دون جدوى، حدد الأب موعدا للزفاف دون استشارتها، وافقت الأم خوفا منه واشترط الأب ألا يحضر ابنُه زفاف أخته لآن الابن طالب كلية الحقوق أراد أن يطبِّق ما يتعلمه عن حقوق المرأة والقوانين وحاول أن يقنع أباه أن من حقها أن تختار زوجها ولكن الوالد صمّمَ، ولذا قرر الأب ألا يحضر الابن زفاف أخته، لكن الشاب لم يستطع أن يتخلى عن أخته فى ليلة زفافها فحضر وعندما رآه الأب استشاط غضبا وخرج وصعد على "الكوشة" ونادى على زوجته لتصعد وقال لها: الولد حضر وكسّر كلامى.. أنتِ طالق، وتسمع الفتاة تطليق أمها ليلة عرسها.

ليلة الدُّخلة
ذهبَت الفتاة مع زوجها لبيتها ورفضت أن يمسها زوجها لمدة شهرين فاشتكى لأبيها الذى طلب منه ضربها فبدأ مسلسل الضرب والتعذيب ولكن دون جدوى وحتى لاتُتّهم فى شرفها قبِلت "الدُّخلة البلدي" وهى جريمة بكل المقاييس ولا يقبلها شرع ولا عقل ولم أصدق أنها تحدث فى بلادنا، ولكنها بكل أسف تحدث- وما تخيلتُ يوما أنها ما تزال فى عصرنا - إذ دخلتْ عليها أمُّ زوجها وأمُّها وأختها وفضَّت أمُّه غشاء بكارتها بإصبعها، وأطلق أبوها الرصاص ابتهاجا وفرحا. وبعد الضرب ورفضها المستمر طردها زوجها خارج البيت لتستلف عباءة من جارتها وأخذت سيارة إلى بيت أبيها الذى استقبلها بحَبْسها فى حجرة لمدة أسبوع كانت أختها الصغرى تملأ كوب ماء وتُدخل لها خرطوما صغيرا لتشفط رشفات ماء تعينها على الحياة، وعندما سمع أخوها بذلك حاول الابن إنقاذ حياة أخته فثار الأب، ثم خرج عائدا ببندقية آلية ليفرغ ست طلقات فى صدر ابنه الذى ارتمى لتحضنه ليلى ويموت بين يديها، وتملأ دماؤه وجهها وملابسها ويشرع الأب فى قتل الابن الثانى لكنه لاذ بالهرب، وبعد تشريح الجثمان يُدفن الابن وسلّم الأب نفسه للشرطة ليُحكَم عليه بالسجن المؤبد.. وما يزال فى سجنه؛ كيف كانت نظرات النساء لها فى الجنازة "بِتْ مات بسببها راجلْ" كم تألمت كثيرا لهذه المأساة التى لحقت بكل أفراد الأسرة ولاسيما هذه الفتاة المسكينة التى فقدت أخاها مقتولا على يد أبيها الذى طلَّق أمها ليلة زفافها.. لقد كان الأب يعمل بإحدى المصالح الحكومية لكنه بعد الحكم عليه فُصل نهائيا فلا معاش لهذه الأسرة ولا دخل يفى بمتطلبات هذه الأسرة المنكوبة التى رهنَت بيتها للبنك الذى يطالبهم بأربعين ألف جنيه ولا يمتلكون منه جنيها، فهل تشرع الدكتورة مايا مرسى رئيس المجلس القومى للمرأة فى إعانة هذه الأسرة والبحث عن عمل لهذه الفتاة ورعايتها وأمها وأخيها الصغير بحيث توفر لهم دخلا يقتاتون منه بعد أن فقدوا كل شيء.
مأساة ليلى ذكّرتنى بالجليلة بنت مرة التى قَتَل أخوها جساسُ زوجَها كُلَيبا وطردتْها أخت كليب من جنازته فأنشدت تقول:
يَا ابْنَةَ الأَقْوَامِ إِنْ شِئْتِ فَلا.. تَعْجَلِى بِاللَّوْمِ حَتَّى تَسْأَلِي
فَإِذَا أَنْتِ تَبَيَّنْتِ الَّذِي.. يُوجِبُ اللَّوْمَ فَلُومِى واعْذُلِي
فِعْلُ جَسَّاسٍ عَلَى وَجْدِى بِهِ.. قَاطِعٌ ظَهْرِى وَمُدْنٍ أَجَلِي
يَا قَتِيلاً قَوَّضَ الدَّهْرُ بِهِ .. سَقْفَ بَيْتَيَّ جَمِيعًا مِنْ عَلِ
هَدَمَ البَيْتَ الَّذِى اسْتَحْدَثْتُهُ ..  وَانْثَنَى فِى هَدْمِ بَيْتِى الأَوَّلِ
يَا نِسَائِى دُونَكُنَّ اليَوْمَ قَدْ .. خَصَّنِى الدَّهْرُ بِرُزْءٍ مُعْضِلِ
خَصَّنِى قَتْلُ كُلَيْبٍ بِلَظًى .. مِنْ وَرَائِى وَلَظًى مُسْتَقْبِلِي
يَشْتَفِى المُدْرِكُ بِالثَّأْرِ وَفِى .. دَرَكِى ثَأْرِيَ ثُكْلُ المُثْكِلِ
لَيْتَهُ كَانَ دَمِى فَاحْتَلَبُوا.. بَدَلاً مِنْهُ دَمًا مِنْ أَكْحَلِي
إِنَّنِى قَاتِلَةٌ مَقْتُولَةٌ..  وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَرْتَاحَ لِي
لقد ظللتُ ليلة كاملة لم أذق طعم النوم بعد أن سمعت هذه المأساة ورحت أتساءل: كيف شعور الأب الآن وهو قابع فى سجنه الأبدي؟ ما دور الجامعات والمثقفين ورجال الدين فى تنوير العقول وتبصير المجتمع؟    

بلاغة الحُكم ووَقْعُه
رُحتُ أطالع بعض أوراق الحُكم الذى صاغه قضاة بلغاء أكفاء ينبغى أن يُدَرَّس فى كليات الحقوق بلاغة وفصاحة واستدلالا وإقناعا (بعد حذف أسماء الجانى والمجنى عليه من الحُكم) قالت المحكمة برئاسة المستشار سامح عبدالغنى وعضوية المستشارين حسام هاشم ووائل إسماعيل:
"تسلل الشيطان إلى نفس المتهم ففكر مليّا وبعد هدوء وروية عقد العزم وبيّت  النية على الخلاص من أبنائه المجنى عليهما وقرر قتلهما وأخذ يتأهب لذلك فأعد العدة بأن جهز سلاحاً نارياً (بندقية آلية) والذخيرة الحية اللازمة لها وراح يتربص قدوم المجنى عليهما إلى المنزل وكمن داخل دورة المياه الكائنة بداخل المسكن منتظرًا قدوم المجنى عليهما.
وفى أعقاب ذلك كان كل من المجنى عليهما خارج المسكن وعادا سوياً وعندما دلفا إلى داخل المسكن تناهى إلى سمعهما صوت غريب داخل دورة المياه فاتجه المجنى عليه الأول/ .... نحوها لاستبيان الأمر، وعندما قام بفتح بابها فوجئ بوالده المتهم يحمل سلاحاً نارياً (بندقية آلية) خارجاً من دورة المياه ويشهرها فى وجهه وآنذاك طلب منه شقيقه المجنى عليه الثانى/ .... الهروب، ولكنه- المجنى عليه الأول/ تجمد فى مكانه فبدا وكأنه تمثال يخاف على نفسه من مَعاول الهدم، فلم يدر بخلده ولم يخطر بباله بأن والده سوف يقوم بقتله اعتقد أن الأمر لا يعدو أن يكون تخيلا داهمت مخيلته إلا أن الوحش الآدمى قام بإطلاق وابل من الأعيرة النارية فى اتجاه ابنه بلا رحمة متخلياً عن كل الأحاسيس ومشاعر الأبوة فسقط المجنى عليه الأول على الأرض وقد تفتت عظامه وتناثر لحمه وتَثَقَّب جسده وسالت دماؤه وتناثرت فى كل مكان ولم يتركه إلا جثة هامدة وآنذاك لاذ المجنى عليه الثانى بالفرار خارج المسكن، وعندما أبصر المتهم ابنه المجنى عليه الأول ملقى على الأرض فى بركة من الدماء لاذ بالفرار خارج المسكن فأبصر شقيقه ملقى على الأرض والدماء تسيل منه فحاولا اسعافه بنقله للمشفى إلا أن القدر كان أسرع منه فأخذ ينظر إليه والدموع تنهمر منه فقد قُتل شقيقه الذى كان يسير بجواره منذ بضع لحظات، ...

قرَّرتِ المحكمة
"استقر فى يقين المحكمة واطمأن إليه ضميرها وارتاح لها وجدانها ورسخ فى عقيدتها مستخلصة من مطالعة سائر أوراقها وما تم فيها من تحقيقات وما دار بشأنها بجلسة المحاكمة تلخص فى أن من أعظم نِعم الله علينا نعمة البنين ولا يعرف عظم هذه النعمة إلا من حُرم منها، وهذه النعمة ما هى إلا أمانة ومسئولية سنُسال عنها يوم القيامة، فالأبناء زينة الحياة الدنيا وزهرتها، يخففون عن آبائهم متاعب الحياة وهمومها، وجُودهم فى البيت كالأزهار فى الحدائق، يضعون عليها البهجة والسرور، وتقر العين لرؤيتهم، وتبتهج النفس بمحادثتهم، فهم بسمة الأمل، وأريج النفس، وهم أكبادنا التى تمشى على الأرض، ولكن بين الحين والآخر تمرّ علينا أحداث تكسر فى القلوب همسات الرحمة، وتصيبنا بشيء من لحظات اليأس الدنيوى من شدة قسوتها وانعدام تعلق أصحابها بأى معتقد أو مبدأ أو دين، فجرائم القتل موجودة منذ وجود البشرية، ولكن ما أعظمه من جرم أن تنزع الرحمة من قلوب الآباء تجاه أبنائهم فيبيدونهم قتلا، دون الشعور بأى ذنب أو تأنيب ضمير أو لوم الذات أو تعنيفها، إنها حقا جريمة بشعة تدمى القلوب وتثير المخاوف وتهز المجتمع بأكمله، تاركة علامات استغراب عن كيفية إقدام أب على قتل ابنه، وإذا علمنا أن قتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا، علمنا خطورة وفظاعة القتل، إلا أن المتهم استباح لنفسه قتل ابنه المجنى عليه الأول والشروع فى قتل ابنه المجنى عليه الثانى بسبب وجود خلافات أسرية بينه وبينهما.... لقد ذرقت الشوارع والمبانى دموعها أسفاً ومُلئت المنطقة فزعا ورعبا من صوت الأعيرة النارية، جريمة كالبركان الملتهب تنضح إثما وتنشر شرا وتمطر ألماً وحزناً... حكمت المحكمة حضوريا بمعاقبة.. بالسجن المؤبد عما أسند إليه ومصادرة السلاح النارى والذخائر المضبوطتين".
رُفعت الجلسة، ولكن الألم ما يزال عميقا فانقذوا ليلى وأخاها وأمها أيها المجتمع.

نِيل أخبار الأدب
من أجمل ما كُتب عن النيل كتابة بها روح فى هذا العدد الممتاز من صحيفة أخبار الأدب التى أنشأها الأديب جمال الغيطانى ويترأسها الآن الإعلامى الأستاذ علاء عبدالهادى ومعه فريق عمل من الأدباء والنقاد والفنانين محمد شعير وإسلام الشيخ وياسر عبدالحافظ ومنصورة عزالدين وسيد عبدالنبى ومحمد مختار وأحمد سعيد، هذه الكتيبة المثقفة التى تعمل ليلًا نهارًا حتى تأتى أخبار الأدب طازجة المعانى والأفكار والآداب والفنون، وقد جاء ملف النيل رائعا حيث كتب الهادى على راضى عن النيل الخالد بينما أفاض الروائى أحمد ابوخنيجر فى كتابة نص حب عن "حابى اللى نازل م السما" وكتب الشاعر فتحى عبدالسميع بجمال لغته عن "قرموط النيل: الخنزير الجليل والأسطورة الخرساء" وقد تحاور هشام أصلان مع النهر.. أول كل الأشياء، وحكى عمر على الجقومى "قصتى مع النيل" وكتب عثمان الشيخ عن بابور الخواجة ومنجل جدّي" وقد سرد الأستاذ علاء عبدالهادى فصلا من سيرته الذاتية وحكاياه مع النيل فى سرد مدهش وقد تعرّض صغيرا للغرق كما تعرضتُ أنا وكدتُ أن أغرق لولا انتباه أخى الأكبر فقد التقطنى فى اللحظة الأخيرة ولله الحمد.
كتابات جديدة جميلة من نصوص سردية إضافة إلى كتابات الأستاذة منى نور وحوار أحمد وائل مع تامر فتحى وكتابة محمود الورادنى ومنى عبدالكريم وبسمة ناجى وترجمة عمرو عاطف رمضان لأشعار ناعوى شهاب ناى وترجمة رفيدة جمال لنيل جايمان وإيماءة قلب هدى توفيق ونصوص نقدية بقلم محمد سليم شوشة.. إنه عدد يستحق القراءة والتأمل.. شكرا كتيبة أخبار الأدب.

فى النهايات تتجلى البدايات
قال الحلاج:
مُزِجَت روحُكَ فى روحى كَما.. تُمزَجُ الخَمرَةُ بِالماءِ الزُلالِ
فَإِذا مَسَّكَ شَيءٌ مَسَّني.. فَإِذا أَنتَ أَنا فى كُلِّ حالِ