صراع باريس وموسكو على الوجود العسكرى فى مالي

قوات فرنسية فى مالى
قوات فرنسية فى مالى

كتبت/ مروى حسن حسين

مجدداً وبعد التغلغل الروسي عبر مرتزقة الفاجنر فى جمهورية أفريقيا الوسطى وسط غضب فرنسي، بدأت روسيا تزيد من نفوذها فى مالى بالتحالف مع المجلس العسكرى الحالي، الذى وجه لباريس، التى تعتبر أفريقيا السمراء ملعبها الخلفى منذ عقود طويلة، ضربة قاضية بعد تحالفه مع روسيا.

تراجُع النفوذ الفرنسي فى مالى لصالح روسيا، ليس وليد اليوم، بل سبقته مظاهرات صاخبة فى باماكو حتى قبل انقلاب أغسطس 2020، تطالب باريس بالرحيل، وتدعو لاستبدالها بالتعاون مع روسيا.

فالأجواء مهيأة أمام موسكو شعبياً ورسمياً للتواجد عسكريا عبر شركة فاجنر، خاصة أن باماكو كان يربطها تعاون عسكرى متين مع الاتحاد السوفيتي عقب استقلالها عن فرنسا عام 1960.

لم تتأخر باريس فى إبداء قلقها من تعاون انقلابيى مالى مع فاجنر، وهددت بسحب قواتها بشكل سريع من البلاد. حيث يتواجد 5100 عسكرى فرنسي في الساحل، وقررت باريس فى يونيو الماضي، إنهاء عملية برخان العسكرية، وتقليص عدد جنودها إلى النصف.

كما ان مشاركة فاجنر فى العمليات العسكرية ضد التنظيمات المسلحة فى مالى لا يتفق مع عمل شركاء مالى الساحليين والدوليين، ما يهدد بإمكانية سحب مجموعة الخمسة (تشاد والنيجر وبوركينا فاسو وموريتانيا علاوة على مالي) لقواتها من البلاد، بالإضافة إلى القوات الخاصة الأوروبية ممثلة فى عملية «تاكوبا». كما لوحت ألمانيا هى الأخرى بسحب قواتها من مالي، والبالغة 1500 عسكرى .

وشدد رئيس دبلوماسية الاتحاد الأوروبى على أنه فى حال استعانت باماكو بخدمات المجموعة الروسية، فإن «هذا الأمر من شأنه أن يؤثر جدياً على العلاقة بين الاتحاد الأوروبى ومالي».

وبذلك ينضم الاتحاد الأوروبى إلى فرنسا وألمانيا فى تحذير مالى من مغبة التعاون مع مجموعة الأمن الروسية الخاصة.

وجددت وزيرة الدفاع الفرنسية فلورانس بارلي، تحذيرها بعد لقاء مع نظيرها المالى ساديو كامارا خلال زيارة إلى باماكو، و«شددت على أنه فى وقت لم يسبق أن حشدت الأسرة الدولية مثل هذه الأعداد لمكافحة الإرهاب (فى الساحل)، فإن خيارا كهذا سيكون خيار العزلة».

هذه الضغوط الدولية والتى قد تنضم إليها تشاد، من شأنها إما تقويض الاتفاق المالي مع فاجنر، أو سحب سريع للقوات الفرنسية وقوات تاكوبا الأوروبية وأيضا الوحدات التشادية من البلاد، لإحداث فراغ أمنى من الصعب على السلطات العسكرية المالية ملؤه، حتى ولو توصلت إلى اتفاق مع فاجنر. وهو ما قد تستغله الجماعات الإرهابية الموالية للقاعدة أو داعش فى مضاعفة عملياتها ضد القوات الحكومية هناك.

يرى البعض ان لدى روسيا خطة محكمة لزيادة نفوذها فى أفريقيا، وخاصة مناطق النفوذ الفرنسي. فقد أخذ التحرك الروسى أبعاداً دبلوماسية وعسكرية وأمنية، حتى إعلامية، وهو يقوم على استغلال أخطاء الفرنسيين وتحريك مشاعر عدوانية تجاه فرنسا، عبر إحياء ذكريات حقبة الاستعمار. فى حين يرى آخرون أن الفرنسيين لن يخسروا معركة النفوذ فى هذه المنطقة بسهولة.

يرى بعض المحللين، أن إدارة ماكرون فى موقف حرج ومأزق حقيقي، فباريس مقبلة على انتخابات رئاسية فى غضون عام، وهو ما يحد من الخيارات أمام ماكرون، كما تعرضت السياسات الفرنسية فى الساحل لضربة قوية بعد مقتل الرئيس التشادى إدريس ديبي، وما أعقبه من انقلاب عسكري وأوضاع غير مستقرة، فى بلد كانت تراهن عليه فرنسا فى حربها على الإرهاب. وخروج تشاد من المشهد وضع الفرنسيين فى ورطة، لأن مالى وبوركينا فاسو والنيجر ليست دولاً قادرة على أن تكون حليفة فى الحرب على الإرهاب. وأكبر مشكلة واجهت الفرنسيين منذ تدخلهم العسكرى أن مالى لا تملك جيشاً ولا سلطة سياسية ثابتة تتمتع بالشرعية.

وهكذا أصبح المستقبل غامضاً أمام مشروع مجموعة دول الساحل الخمس، الذى أسس برعاية فرنسية عام 2014. و ما يعقد الأمور أكثر لفرنسا. ظهورالتيار المعادى لفرنسا، وتغلغله فى الشارع المالي. وهو ما يفسره البعض بأنه موقف نابع من اعتقاد الماليين بأن فرنسا موالية لحركات الطوارق فى الشمال، التى تطالب بالانفصال.

فى المقابل، هناك وجهة نظر مختلفة، لا تعتقد أن مغادرة فرنسا ستنهى الإرهاب، حتى مجيء روسيا لن ينهيه. لأن الأزمة أعمق من ذلك، ويجب إدراك أنه فى مجال التعاون العسكرى لا شيء مجانى فروسيا التى ترتفع المطالب بدخولها إلى مالي، تدخّلت فى سوريا لمنع سقوط نظام بشار الأسد، تدخلت عبر شركات أمنية خاصة، ولم تطلق رصاصة ولا صاروخا إلا وهناك فاتورة ستدفع مقابله، لأنهم لا يعطون بالمجان..

روسيا مختلفة عن بقية القوى العظمى الحاضرة فى أفريقيا، فهى لا تبحث عن الثروات أو المواد الأولية، بل تبحث عن سوق لبيع الأسلحة، ومالى تمثل واحدة من أكبر هذه الأسواق فى أفريقيا. وهذا ما يعنى أن توطين الإرهاب فى مالى ومنطقة الساحل، يخدم روسيا أكثر من القضاء عليه. و بفضل روسيا والصين لم يتمكن مجلس الأمن الدولى من اتخاذ أى قرار ضد انقلابيى مالي،. ورغم الدعوات المتزايدة بضرورة انسحاب فرنسا ودخول روسيا لمالي، يرفض البعض ذلك السيناريو، مفضلين أن يكون هناك مخرج يوافق عليه الجميع،. من خلال التعايش بين باريس وموسكو فى مالي، ضمن إطار تحالف دولى لمحاربة الإرهاب. فالأراضى المالية شاسعة، الفرنسيون والأوروبيون يتمركزون فى الشمال والشرق، ويمكن لروسيا أن تتدخل عسكرياً فى الجنوب أو الغرب..

ما يخشاه الماليون هو العودة دوماً إلى المربع الأول. فخلال أقل من 10 سنوات مرّ على البلد 4 رؤساء، و3 انقلابات عسكرية، واقتراعان رئاسيان. وفى كل مرة، عادت الأمور أسوأ مما كانت عليه، ورغم الاصوات التى تدعو لإعادة تأسيس الدولة وفق عقد اجتماعى جديد. إلا أن القرار سينتظر حسم الصراع بين «الديك الفرنسي» و«الدب الروسي» و«التنين الصيني» فى صحراء مالي.