توقف قلبه بعد أن جمعوا له ثمن زراعة قلب جديد..حقيقة المصرييـن في قرية «الخير بدمياط»

الضحية سليمان فريد
الضحية سليمان فريد

كتب: حبيبة جمال 

روعة الإنسان ليست بما يملك، بل بما يمنح من حب وخير وتسامح وتكافل للآخرين.  
في لافتة جميلة تعبر عن المعدن الطيب والأصيل للمصريين، ضرب أهالي قرية الزعاترة، بمحافظة دمياط أروع الأمثلة في الترابط وعمل الخير، حيث تكاتف أهالي القرية من أجل جمع تبرعات لشاب كان يحتاج لزراعة قلب.. الصغير والكبير تبرع بكل ما يمكن أن يتبرع به، وبينما كان يواصل الأهالي جمع التبرعات لتوفير تكاليف العملية التي تقدر بأربعة ملايين جنيه، كان للقدر رأي آخر، حيث توقف قلب الشاب عن النبض.. نعم مات الشاب لكن ما فعله أبناء القرية سيظل راسخًا في الأذهان، ومحفورًا بحروف من النور.. «أخبار الحوادث» توجهت الى القرية لننقل للجميع الصورة الجميلة التي رسمها أبناؤها.. وإليكم التفاصيل.

الساعة التاسعة صباحا، كان موعد تحركنا من أمام الجريدة، وخلال الطريق كنا نفكر في تلك القرية التي ضربت أروع الأمثلة في التكاتف والحب والخير، ولكن لماذا سميت بقرية الزعاترة؟!، أثناء بحثنا عن سبب الاسم، وجدنا أن هناك حكايات كثيرة، كان من ضمنها؛ أن هذه القرية كان يُزرع بها أشجار الزعتر، وعندما يشعر الإنسان بالحزن يتجه نحو تلك الأشجار ليشتم رائحتها الجميلة، وعندما يسأله أحد أين كنت، يجيب "كنت عند زعتر"، من هنا أطلقوا عليها زعاترة، قرية مساحتها كيلو متر مربع، تابعة لمركز الزرقا، يعيش فيها ٢١ ألف نسمة، قطعنا ١٥٧ كيلو مترًا من القاهرة وصولا لها، وهناك كان ينتظرنا عمدة القرية، الحاج حسن زكي النادي، بوجهه البشوش، وهيبته المعهودة، تولى منصب العمودية منذ عشرين عاما؛ فهو أب لأبناء القرية، وكبيرهم الذي يلجأون إليه في كل مشكلة، ويخرجون من عنده في حالة من الرضا والسعادة، جلسنا داخل دواره وبدأ يشرح لنا حالة الشاب الذي كان سببًا في أن نأتي هنا لعمل هذا التقرير.
الشاب سلمان فريد، في الصف الثاني الثانوي، هو الابن الأكبر لوالده، كان يعيش حياة طبيعية جدا، وفي غمضة عين انقلبت حياة أسرته رأسا على عقب، فمنذ سبعة أشهر بدأ الشاب الصغير يشعر بألم في قلبه، أسرع به والده للأطباء للاطمئنان على حالته، وجاءت نتيجة التشخيص حزينة؛ أنه يعاني من ضعف في عضلة القلب، سبعة أشهر والأب يبحث عن علاج لنجله، حتى تمكن من الوصول للدكتور مجدي يعقوب بأسوان، والذي شخص الحالة ايضًا؛ بأنها ضعف شديد في عضلة القلب ويحتاج إلى زراعة قلب جديد، وهي عملية لا تتم داخل مصر، ولابد من سفره للخارج لإجرائها.


الأب رجل بسيط، عامل باليومية، يكسب قوته يومًا بيوم، ولكن بمجرد ما عرفت القرية بحالة الابن، تشكلت لجنة من خيرة شباب القرية وعلى رأسهم العمدة، ظلوا يفكرون كيف يساعدون ابن قريتهم، فهداهم تفكيرهم لجمع تبرعات ثمن العملية، نعم وبكل فخر وقفت القرية كلها على قلب رجل واحد، فريق بدأ يسأل ويبحث أكثر عن العملية وأين ستتم وما هي تكلفتها؟، فوقع الاختيار أن تتم في دولة الهند، حيث تعتبر هي أقل دولة من حيث التكاليف، فالجراحة الدقيقة ستتكلف أربعة ملايين جنيه، فبدأت على الفور اللجنة في جمع التبرعات، وخلال ثلاثة أيام، جمعوا أكثر من ربع المبلغ، حيث تبرعت السيدات بمشغولاتهن الذهبية، والرجال بأموالهم، حتى الصغار تبرعوا بأموالهم وهي عبارة عن جنيهات فضة التي كانوا يحتفظون بها في حصالاتهم الصغيرة، حتى أبناء القرية الذين يعملون بالخارج، مجرد ما عرفوا بالقصة بدأوا يرسلون الأموال لهم، في صورة جميلة ترسخت في الأذهان، وأثناء الاستمرار في جمع التبرعات، شاء القدر أن يتوقف نبض الشاب سلمان، ويموت في الحال، لتعم حالة من الحزن الشديد على القرية والقرى المجاورة، وقبل أن يدفن الشاب، وقف والده وقال أنه لن يأخذ أي مبلغ من تلك الأموال، رغم أنه في أمس الحاجة إليها، لكن عزة نفسه منعته من التصرف فيها، ليجتمع أبناء القرية مرة أخرى مع عمدتهم ويفكرون كيف يتصرفون في هذه الأموال، حتى توصلوا إلى عمل مستوصف خيري لعلاج أبناء القرية والقرى المجاورة التي لم تتأخر في مساندتهم ومساعدتهم بالمال.

مستوصف خيري

الحقيقة أن كل شيء كان يسير بسلاسة ويسر، فالمبنى موجود بالفعل، وهو مبنى مكون من أربعة طوابق، كان قد بناه الدكتور ماهر عرام، وهو من أبناء القرية، الذي مازال اسمه محفورًا في ذاكرة كل منهم، حيث أنه بنى مسجدًا وبنى هذا المبنى، لكنه توفى قبل أن يفتتحه، وظل مهجورًا حتى تلك اللحظة، وبمجرد أن علم الورثة بقصة سلمان، قرروا أن يتبرعوا بالمبنى لعمل المستوصف، وكانت الخطة هي عمل مستوصف طبي متكامل وبداخله مركز سلمان فريد لعلاج وتشخيص أمراض القلب، بالفعل بدأوا يجهزون المبنى، فتبرع أحدهم بأنه سوف يتكفل بفرشه بالكامل، وآخر بسيارة إسعاف مجهزة، لتكون في خدمة القرية والقرى المجاورة. كانت هذه هي القصة الكاملة للشاب سلمان، الذى وقف أهالي قريته على قلب رجل واحد، ليضربوا أروع الأمثلة في الشهامة والأصالة، حتى بعدما مات قرروا تخليد اسمه بعمل المركز الطبي.

 

"تحويشة عمري"

أثناء تواجدنا في منزل العمدة، بدأ يتوافد علينا أبناء القرية الذين كانوا مسئولين عن جمع التبرعات، جلسوا يتذكرون مشهد جمع الأموال، وحالة المتبرعين، فهناك طفلة تجلس على كرسي متحرك، أتى بها والدها من قريته لتتبرع بأموالها الخاصة، وسيدة عجوز أرسلت حفيدها لهم أثناء مرورهم في القرية، وعندما دخلوا منزلها طلبت منهم أن يأخذون قرطها، لأنها لا تمتلك غيره. 
سيدة أخرى كانت تحتفظ بمبلغ من المال، فكانت تريد أن ترحل خفيفة دون أن يتحمل أحد أي تكاليف في رحيلها، ذلك الرحيل الذي استعدت له بوضع كل قرش تمتلكه تحت وسادتها، لكنها ما إن سمعت بحكاية سلمان، قررت أن ترفع وسادتها وتأخذ كل "تحويشة عمرها"، وتذهب طواعية إلى بيت العمدة، وفي اللحظة التي ووضعت فيها أموالها على الطاولة سألها أحدهم؛ "جبتِ الفلوس دي منين يا حاجة"، فأجابت دون تفكير؛ "والله يابني دي الفلوس اللي قدرت أحوشها عشان خرجتي وعشان مش عايزه حد يدفع حاجة في فلوس جنازتي، لكن سلمان أولى، وأنا ربنا يتولاني، أهل الخير كتير. 
وهذه عروس شابة، لم يمر أسبوع على خطبتها، حتى قررت أن تتبرع بدبلتها، وزوجة لا تمتلك أي أموال في بيتها سوى جوال من الأرز تأكل منه، قررت أن تتبرع به.. وغيرها من الأمثلة الجميلة التي يجب أن نقف عندها ونفتخر بها.

 

"جوز بط وشيكارة رز"

تحركنا لقرية الشرمساح، وهي قرية مجاورة  لقرية الزعاترة، بل تشعر أنك مازلت داخل القرية ولم تخرج منها، قابلنا علية، سيدة في منتصف الأربعينيات من العمر، متزوجة ولديها من الأبناء ثلاثة، منذ عام ونصف أصيب زوجها بجلطة في الأحبال الصوتية كانت سببا في فقدان النطق، ونتيجة مرضه، قررت علية أن تخرج للعمل لتساعده في مصاريف البيت؛ فهم أسرة بسيطة جدا، لدرجة أنهم مازالوا يبنون لهما بيتا ليعيشوا فيه، وبمجرد أن رأتهم علية يجمعون الأموال، فكرت قليلا كيف تساعد وهي لا تمتلك شيئا، لكن طيبتها التي رأيناها في كلامها ووجهها جعلها تسألهم: "أنا لا أمتلك مالا، ممكن أتبرع بـ رز"؟، فكان الرد "نعم ينفع"، ابتسامة جميلة ارتسمت على وجهها، حمستها أكثر بالتبرع، وسألت مرة أخرى، "وعندي كمان بط ووز"، فكان الرد "اللي تقدري بيه يا ست علية"، وبالفعل لم تتأخر علية من التبرع، لدرجة أنها كانت تود أن تتبرع حتى بمواد البناء. 
جلست معها لأفهم منها لماذا تبرعت وهي في حاجة لمن يأخذ بيدها، فقالت بنبرة صوت كلها صدق ورضا: "لو كان معايا أكتر كنت اتبرعت، أنا تخيلت نفسي مكان أهل سلمان، وأن حد من أولادي مريض، أكيد وقتها كنت هتمنى أن كل الناس تقف معايا وتساعدني، خاصة وأنا ظروفي صعبة، فالحمد لله دائما وأبدا على نعمه". 

 

مريم.. اتبرعت بحصالتها

طفلة أعطاها الله من البراءة ما أعطاها، عرفت وهي في سنها الصغيرة كيف أن الصدقة تغير حياة الإنسان للأفضل، دائما ما كانت تقرأ لها والدتها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم "داووا مرضاكم بالصدقة"، فأخذت الحديث مثالا لها في كل شيء، وأثناء جمع التبرعات للشاب، وجدت والداها يخرجون الأموال، فحدثت نفسها قائلة؛ "لو أنني تبرعت لسوف يكافئني الله ويشفيني، وأمشي على رجلي التي لم أسير عليها منذ ولادتي"، دخلت غرفتها تبعثر في محتوياتها لعلها تجد ما تتبرع به، فلم تجد إلا "حصالتها"، ذلك الصندوق الخشبي الصغير الذي يحتوي على بضع جنيهات كانت تتدخرها من مصروفها، وبدون تردد تبرعت به كاملا، آملة من وراء تصرفها هذا أن يمن الله عليها بالشفاء وتسير على قدميها". 


إنها مريم إسماعيل، طفلة جميلة، لم يتعد عمرها السبع سنوات، ولدت وهي تعاني من شلل في قدميها، كانت تكبر يوما بعد يوم وحلمها بأن تسير علي قدميها يكبر معها، اقتربنا منها وهي تجلس على الكرسي المتحرك، سألتها ما الذي دفعها للتبرع؟، فقالت وهي مبتسمة: "عشان ربنا يشفيني وأقدر أمشي على رجلي"، ابتسامتها الجميلة لم تغادر ذهننا حتى الآن، اقتربنا من والدتها لتخبرنا أكثر عن حالة مريم، فقالت: "مريم منذ ولادتها وهي لا تتحرك، تحتاج حاليا لعملية تصحيح مثانة، لأنها تعاني من تضخم في الكليتين، وبعدها عملية، فهي حاليا تتعالج بجلسات علاج طبيعي". 
أما عن تبرعها، قالت: "مريم أول ما شافتني أنا وأخواتها نساهم في التبرع، أسرعت لغرفتها لتتبرع بحصالتها، أملا في الشفاء، أمنية حياتي أن أراها تسير على قدميها وتلعب مع أقرانها، حلمي الآن هو أن أجد من يتبرع لها بسيارة متحركة تساعدني في التحرك بها أثناء العلاج". 

قصة بطل

كانت هناك نماذج أخرى مشرفة من سيدات وشباب القرية والقرى المجاورة، لكنهم رفضوا التصوير معنا وكان السبب وجيهًا عمل الخير ليس في حاجة للاستعراض به، وقبل أن نغادر القرية الجميلة الأصيلة، عرفنا أن هناك بطل يجب علينا ألا ننساه ونذكر ما فعله، هو البطل الشاب الذي لم يكمل عامه العشرين بعد، حاول إنقاذ ثلاثة من الغرق، حيث أنقذ اثنين ومات مع الثالث. 

محمد يونس، شاب يبلغ من العمر ١٩ عاما، جائت له فرصة عمل في مدينة الألعاب المائية برأس البر، كانت الأمور تسير بشكل طبيعي، حتى صباح اليوم الثاني له في العمل، حيث وجد ثلاثة شباب يصارعون الغرق في شاطئ ١٠١، لم يتردد محمد ولو للحظة أن ينقذ هؤلاء الشباب، لم يفكر إذا كان يعرفهم أم لا، كل ما كان يفكر فيه هو إنقاذ حياتهم، أسرع اليهم وتمكن من إنقاذ اثنين، وفي محاولته لإنقاذ الشاب الثالث، كان قضاء الله نفذ وغرقا سويا، وبعد ساعات من بحث قوات الإنقاذ عليه، تمكنوا من العثور عليه، وما أن علم أهالي قريته بما حدث له، كان الحزن يسيطر عليهم، وتباينت مشاعرهم ما بين الحزن على هذا الشاب، وما بين فرحتهم بموقفه البطولي، الذى سيظل خالدا لسنوات ولن يمحو الزمن أثره.