أدب الخيال العلمى.. رحـل مع نهاد شريف!

أدب الخيال العلمى
أدب الخيال العلمى

حسن حافظ
 

يحلِّق الخيال بنا إلى آفاق وعوالم غير معروفة، يخترق بنا السحب ويأخذنا إلى أعماق البحار، لكن روعة الخيال تزداد تألقا عندما ترتبط بالعلم، فينتج من هذا المزيج المدهش عالم الخيال العلمي، والذى بات يشكل أحد أركان مشهد الرواية على مستوى العالم، إلا أن هذا الفن الذى يعيد توظيف الاكتشافات

 

العلمية والنظريات المجربة فى بناء عمل روائى يجمع بين الحبكة الدرامية القائمة على تحدى الإنسان للمجهول والخطر، واستخدام عقله لمواجهة الجديد العلمي، لا يزال هامشيا فى مشهد الرواية المصرية والعربية.
 

رغم المحاولات المبكرة فى هذا الأدب والتى بدأت مع المجرب الكبير توفيق الحكيم، مرورا بإسهامات أجيال روائية مختلفة، فإن كتابة الخيال العلمى لا تزال ضعيفة، رغم توقعاتٍ عِدة بأن يكون لروايات الخيال العلمى الحيز الأكبر من إقبال القراء على مستوى العالم خلال السنوات القليلة المقبلة فى ظل رواج هذه الروايات فى الآونة الأخيرة.


وقد ظهرت روايات الخيال العلمى فى أوروبا منذ العصر الحديث بنماذج من نوعية رواية «الحلم» 1634، للألمانى يوهانس كيبلر، و«رحلات جوليفر» 1726، للإنجليزى جوناثان سويفت، لكن الميلاد الحقيقى لهذا النوع الأدبى كان فى القرن التاسع عشر، فى ظل طفرة الاكتشافات العلمية التى جعلت بعض الكتاب يعملون على استخدام أحدث النظريات العلمية لبناء عمل روائى يقوم على تخيل ما يمكن أن تصل إليه الاكتشافات والنظريات العلمية، ومن هنا ولد أدب الخيال العلمى الذى يختلف عن أدب الفانتازيا القائم على الإغراق فى الخيال كما هو الحال فى نص ألف ليلة وليلة. بدأ الخيال العلمى بشكل ناجح من خلال أعمال الفرنسى جول فيرن، الذى يعد على نطاق واسع أحد آباء روايات الخيال العلمي، والتى بدأ فى نشرها منذ منتصف القرن التاسع عشر، وحفرت اسمه بحروف من ذهب.. وتعتمد روايات جول فيرن على المنجز العلمى القائم فى عصره مع تطويره بشكل خيالى يستشرف المستقبل، فكتب رواية «عشرون ألف فرسخ تحت الماء» والتى تنبأ فيها بشكل الغواصة، وبالفعل استوحى العلماء الألمان شكل الغواصة من روايته ونفذوها بعد نحو 50 عاما من صدور الرواية، كما ألف رواية «من الأرض إلى القمر»، والتى تنبأ فيها بالصعود إلى القمر باستخدام صاروخ، وهو ما تم على أرض الواقع ولكن بعد نحو 100 عام من صدور الرواية، كما قدم روايته الشهيرة «حول العالم فى ثمانين يوما» والتى تعتمد على آخر الاختراعات وأحدثها حتى العام 1873 عام صدور الرواية التى تعد من أشهر روايات فيرن وأكثرها تقديرا من النقاد.


وإذا كان فيرن هو أديب فرنسا الأكبر فى أدب الخيال العلمي، فإن هربرت جورج ويلز، هو أديب الإنجليز الأشهر فى هذا الفن، عبر مجموعة من الروايات التى تحولت إلى أعمال سينمائية ناجحة، وفى مقدمتها رواية «آلة الزمن»، و«الرجل الخفي»، و«جزيرة الدكتور مورو»، و«حرب العوالم»، و«أوائل الرجال على القمر»، وتميزت هذه الروايات بمرحلة نضج أعلى من أعمال فيرن، إذ بدأت الحبكة الدرامية فى التعقيد والتشابك، ولم يعد هناك مجال للاكتفاء بإدهاش القارئ، بل عمد ويلز لتضمين انتقادات اجتماعية لاذعة للمجتمع الإنجليزى فى عصره ضمن أعماله التى وصل بها أدب الخيال العلمى لمرحلة نضجه.


فى النصف الثانى من القرن العشرين وصل أدب الخيال العلمى إلى ذروته، خصوصا أن الكثير من نصوصه عرفت طريقها إلى السينما الأمريكية التى اهتمت بتحويل هذه النوعية من الروايات الجماهيرية إلى أعمال سينمائية مضمونة النجاح، وظهر بالتوازى مع هذه الحركة ثلاثة من أهم كتاب الخيال العلمى فى كل العصور، وهم البريطانى آرثر تشارلز كلارك، والأمريكى روبرت أنسون هيينلين، والأمريكى الروسى إسحاق عظيموف، الذين أطلق عليهم «الثلاثة الكبار» فى مجال كتابة رواية الخيال العلمي، لضخامة تأثيرهم الفني، إذ لم يتركوا فكرة إلا وطرقوها، فتركوا بصمة لا تزول على هذا الفن الروائى وتركوا تأثيراً لا يمحى على أجيال من كتاب الخيال العلمي، وعلى أيدى الثلاثة الكبار تحولت رواية الخيال العلمى إلى فن قائم بذاته ويحظى بتقدير نقدى وجماهيرى واسع فى أمريكا وأوروبا، فضلا على اعتماد السينما العالمية على هذه الروايات فى إنتاج عشرات الأفلام القائمة على الخيال العلمى والذى جعلت لهذا الفن جماهيرية تتفوق على أى فن روائى آخر، ما جعل الكثير من النقاد يتحدثون عن أن رواية الخيال العلمى هى الإطار الذى سيبتلع كل أشكال الرواية الأخرى، وسيهضمها داخله بما فى ذلك الرواية الرومانسية والتاريخية.


إذا كان هذا هو واقع أدب الخيال العلمى فى العالم الغربي، فإن الوضع مختلف تماما فى مصر والعالم العربي، فلا يزال هذا الفن يحبو ويعانى التخبط، رغم أن بدايات أدب الخيال العلمى فى مصر كانت مبشرة، إذ كانت البداية مع توفيق الحكيم الذى كتب مسرحية «رحلة إلى الغد» 1957، وهى من أدب الخيال العلمى، ثم استلم الراية نهاد شريف الذى يعد أفضل من كتب رواية خيال علمى فى مصر والعالم العربي، حيث قدّم رائعته «قاهر الزمن» 1972، التى فازت بجائزة نادى القصة، واعتبرت أول رواية خيال علمى متكاملة بالعربية، ثم قدم مجموعة من الروايات والقصص التى رسخت أقدامه فى هذا الفن وجعلته رائده الأول.


لكن للأسف لم تستمر المحاولات الجادة على نفس المستوى الذى وصل إليه نهاد شريف، إذ حاول كل من نبيل فاروق فى سلسلة «ملف المستقبل» وأحمد خالد توفيق فى معظم سلاسله خصوصا سلسلة «فانتازيا» التى تقوم على اختراع علمى يحول الأحلام إلى حقيقة، الاستمرار فى فن الخيال العلمى لكن كانت أعمالهما رغم امتيازها بالتشويق والاعتماد على أحدث النظريات العلمية، إلا أنها كانت فى معظمها مندرجة تحت خانة أدب التسالى والأدب الموجه للمراهقين، وهو الأمر الذى أضر بسمعة أدب الخيال العلمى فى مصر ولم يعد ينظر إليه بالجدية الكافية على الرغم من أنه يحتاج إلى معرفة علمية عميقة بجوار موهبة أدبية عريضة.


من جهته، حلل الدكتور حسام عقل، أستاذ الأدب والنقد بجامعة عين شمس، أسباب تراجع أدب الخيال العلمى فى اللغة العربية، قائلا لـ«آخرساعة»: «لا شك أن أدب الخيال العلمى له تراث فى مصر، فكان من أول من كتب فيه وأصلوا له توفيق الحكيم فى رائعته (رحلة إلى الغد)، ثم تلقف المسار من بعده نهاد شريف، الذى يعد الأب الروحى لأدب الخيال العلمى فى مصر، لكن لم يستمر هذا المسار فى النمو والازدهار، لأن أدب الخيال العلمى يحتاج لتأهيل خاص، ويحتاج لأرصدة خاصة من الخبرة، حيث يفترض إلماما بالنظريات العلمية الحديثة مثل نظرية الانفجار الكبير، أو نظرية الأكوان المتعددة، أو نظرية التطور، أو نظرية الأوتار الفائقة، أو غيرها من النظريات العلمية الجديدة ذات الطابع الفيزيائى والكيميائي، وهو ما يعنى أن الكاتب لهذا الفن يحتاج إلى تأهيل خاص».


وتابع عقل: «فى تقديرى الخاص أن أدب الخيال العلمى يمر الآن بمرحلة مأزومة بعد رحيل نهاد شريف، ومن الصحيح أن هناك كتَّاباً يجتهدون مثل محمد نجيب مطر، وصلاح معاطي، وبعض الكتاب القليلين، إلا أن هذا لا يرقى أبدا إلى خلق حركة أدبية تنتسب إلى أدب الخيال العلمي، ومن هنا فإن على العالم العربى أن يبذل جهده فى خلق مناخ علمى وفضاء مناسب للبحث العلمى يستقطب الشباب ويكون بيئة خصبة لإنتاج أدباء خيال علمي، خصوصا أن الشباب فى مجملهم يميلون إلى هذا النوع الأدبي، وقد خصص له بعض كتاب الشباب سلاسل كالراحلين نبيل فاروق وأحمد خالد توفيق، فمن واجبنا أن نقرع أجراس الإنذار إلى أن هناك حالة من شبه الفراغ فى كتابة الخيال العلمي، يتعين أن نبادر لعلاجها وإلى خلق حاضنة علمية يفيد منها الشباب». 


ولفت عقل إلى خطأ شائع يقع فيه الجميع بالخلط بين أدب الخيال العلمى وأدب الفانتازيا أو الغرائبي، لذا فالأمر يحتاج لقراءة معمقة فى أدب الخيال العلمى وميراثه العالمى لتحديد السمات البارزة لهذا الإبداع، فالأدب العجائبى أو الغرائبى يقوم على التخيل المحض، ولا يشترط أن يكون له أدنى ملامسة للعلم ونظرياته، بل إن فيه أنساقاً تخيلية تتحدى العقل والعلم معا، أما أدب الخيال العلمى فيعتمد على الحقائق الصلبة، والبيانات العلمية الدقيقة، والاستناد إلى حقائق علمية لا يسمح للخيال أن يتلاعب بها.