الثقة بمعية الله

الثقة بمعية الله
الثقة بمعية الله

«البياض لابد أن يكون عجيباً فى موسى- عليه السلام- لأنه كان أسمر اللون؛ لذلك قال «مِنْ غَيْرِ سوء...» حتى لا يظنوا به بَرصاً مثلاً، فهو بياض طبيعى مُعْجِز».

يقول الحق فى الآية 31 من سورة القصص «وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ»..انتفع موسى -عليه السلام- بكل هذه المواقف، وتعلَّم من هذه العجائب التى رآها فزادتْه ثقةً وثباتاً؛ لذلك لما كاد فرعون أنْ يلحقَ ومعه جنوده بموسى وقومه، وقالوا: «إِنَّا لَمُدْرَكُونَ» (الشعراء: 61) استعاد موسى عليه السلام قضية «إِنَّكَ مِنَ الآمنين» فقال بملء فيه: «قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّى سَيَهْدِينِ» (الشعراء: 62)، فحيثية الثقة عند موسى-عليه السلام- هى معيّة الله له، قالها موسى، ويمكن أنْ تكذب فى وقتها حالاً، فهاجم البحر من أمامهم، وفرعون من خلفهم، لكنها ثقة مَنْ أمَّنه الله، وجعله فى معيَّته وحِفْظه.
وهذا الأمن قد كفله الله تعالى لجميع أنبيائه ورسله، فقال تعالى: «وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون» (الصافات: 171-173)، وقال: «ياموسى لاَ تَخَفْ إِنِّى لاَ يَخَافُ لَدَيَّ المرسلون» (النمل: 10)
وقد قُصَّ هذا كله على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فانتفع به ووثق فى نصر الله، فلما قال له الصِّديق وهما فى الغار: «يا رسول الله، لو نظر أحدهم تحت قدميْه لرآنَا، قال صلى الله عليه وسلم: «يا أبا بكر، ما ظنُّك باثنين، الله ثالثهما». وحكى القرآن قوله صلى الله عليه وسلم لصاحبه: «لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا...» (التوبة: 40) وما دُمْنا فى معيَّة مَنْ لا تدركه الأبصار، فلن تدركنا الأبصار.
ثم ينقل الحق -تبارك وتعالى- موسى عليه السلام إلى آية أخرى تضاف إلى معجزاته: «اسْلُكْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ»( القصص: 32).
معنى «اسلك يَدَكَ...» يعني: أدخلها «فِى جَيْبِكَ..» الجيب: فتحة الثوب من أعلى، وسَمَّوْها جَيْباً؛ لأنهم كانوا يجعلون الجيوب مكان حِفْظ الأموال فى داخل الثياب حتى لا تُسرق، فكان الواحد يُدخِل يده فى قبَّة الثوب لتصل إلى جيبه.
ونلحظ هنا دقة الأداء القرآنى «تَخْرُجْ بَيْضَآءَ...» ولم يقُلْ بصيغة الأمر: وأخرجها كما قال «اسلك يَدَكَ...» وكأن العملية عملية آلية منضبطة بدقة، فبمجرد أن يُدخِلها تخرج هى بيضاء، فكأن إرادته على جوارحه كانت فى الإدخال، أما فى الإخراج فهى لقدرة الله.
وكلمة «بَيْضَآءَ...» أي: مُنوّرة دون مرض، والبياض لابد أن يكون عجيباً فى موسى -عليه السلام- لأنه كان أسمر اللون؛ لذلك قال «مِنْ غَيْرِ سُوء...» حتى لا يظنوا به بَرصاً مثلاً، فهو بياض طبيعى مُعْجِز. وقوله تعالى: «واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرهب...» الجناحان فى الطائر كاليدين فى الإنسان، وإذا أراد الإنسان أن يعوم مثلاً يفعل كما يفعل الطائر حين يطير، فالمعنى: اضمُمْ إليك يديك يذهب عنك الخوف. وهذه العملية يُصدِّقها الواقع، فنرى المرأة حين ترى ولدها مثلاً يسىء التصرف تضرب صَدْرها وتولول، وسيدنا ابن عباس يقول: كل من خاف يجب عليه أن يضرب صدره بيديه ليذهب عنه ما يلاقي، ولك أن تُجرِّبها لتعلم صِدْق هذا الكلام.
ومعنى «فَذَانِكَ...» ذا: اسم إشارة للمفرد ونقول: ذان اسم إشارة  للمثنى، والكاف للخطاب، والمراد: الإشارة لمعجزتى العصا واليد «بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ...» أى ربك الحق «إلى فِرْعَوْنَ...» الرب الباطل، ولا يمكن أنْ يجتمع الحق والباطل، لابد للباطل أنْ يزهق؛ لأنه ضعيف لا يصمد أمام قوة الحق «بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ» (الأنبياء: 18).

الشيخ الشعراوى
والبرهان: هو الحجة والدليل على صِدْق المبرهَن عليه «إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ...» لأن فرعون ادَّعى الألوهية، وملؤه استخفهم فأطاعوه «إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ» أي: جميعاً فرعون والملأ «فَاسِقِينَ» أي: خارجين عن الطاعة من قولنا فسقتِ الرُّطَبة يعني: خرجتْ من قشرتها.

والمراد هنا الحجاب الدينى الذى يُغلِّف الإنسان، ويحميه ويعصمه أنْ يتأثر بعوامل المعصية، فإذا انسلخ من هذا الثوب، ونزع هذا الحجاب، وتمرَّد على المنهج تكشفتْ عورته، وبانتْ سَوْءَته.