حمدى الكنيسـى.. «صـــوت المعركة» الذى لا يموت

حمدى الكنيسـى
حمدى الكنيسـى

رشيد غمرى

رحل الإعلامى الكبير حمدى الكنيسي، بعد أكثر من نصف قرن تردد فيها اسمه بكواليس الإذاعة المصرية دون انقطاع، يشهد مبنى ماسبيرو على تفاصيل رحلته التى كانت شاقة من شبرا النملة حتى قمة النجومية، وداعًا الكنيسى.. الصوت الذى تعلمنا منه معنى الوطنية الحقيقية.
 

اعتاد ابن قرية «شبرا النملة»، الكائنة بمركز طنطا بالغربية ووُلد عام1941، على أجواء القاهرة، وراح يبحث عمن يتبنى موهبته، حتى ساقته قدماه إلى نادى القصة، عاملا بنصيحة الروائى الكبير «محمد عبدالحليم عبدالله»، عندما أخبره أن أسلوبه فى السرد هو طريقه لعالم الكبار من دون أن يكون ذا واسطة، وتعددت اللقاءات داخل نادى القصة، وبات «الكنيسي» عضوا دائما يلقى على الجمع جديد كتاباته وينتظر النقد من كبار الأدباء، «كان الجمهور يوسف إدريس ويوسف السباعى وصلاح عبد الصبور»، وهناك قابل أستاذه رشاد رشدي، غير أن اللقاء لم يكن على ما يرام.


الأيام التى تلت تخرجه لم تكن سهلة كما ظن، فتأخر اختبار الإذاعة عامين كاملين. كان الكنيسى مجبرا خلال تلك الفترة ألا يجلس عاطلا عن العمل، فاستلم تعيينه كمدرس للغة الإنجليزية بمدرسة «بسيون الثانوية» بالغربية، ولأن عمره لم يجاوز العشرين ظن الطلاب أنه صديقهم فهتف أحدهم «الحقوا دول جايبين مدرس أصغر مننا يدينا إنجليزى»، ومرت أيام الكنيسى داخل مدرسة «بسيون».
الإذاعة بدأت مسابقة لاختيار مذيعين جدد، حلمه بدأ يتحقق وصوته سوف يخرج من ذلك الصندوق الصغير، قطع أكثر من 150 كم، كانت لجنة الاختبار عبارة عن سرادق كبير مقام فى منطقة العباسية، يجلس فيه الممتحنون، دخل على عجل من أمره، كان متأخرا نصف ساعة، استوقفه أحد الموظفين «ممنوع الدخول يا ابنى، انت جاى متأخر»، غضب «الكنيسى» وبصوت عالٍ «أنا جاى مسافر المسافة دى كلها وانت تقولى مينفعشى»، جاء على إثر المشادة الكلامية رئيس اللجنة، قرر مراعاة ظروفه، سمح له بأن يؤدى الامتحان، بل جلب له أيضا كوبا من الليمون المثلج، أنهى «الكنيسى» الامتحان، أعلنوا النتيجة، وساعات كالدهر مرت وتم تعليق أسماء الناجحين فى الاختبار ينظر الكنيسى على تلك الورقة المعلقة، وجد اسمه وبجواره «الأول مكرر»، كان ساعتها اللى طلع الأول الإذاعى الكبير «فايق فهيم».


الطريق إلى الإذاعة لا يكفيه اختبار واحد، امتحان تحريري، تلاه امتحان شفوي، تحدد ميعاده، ارتدى «الكنيسى» أفضل ما لديه، اقتحم مبنى الإذاعة، دخل فجلس أمام لجنة الاختبار المكونة من الدكتور مهدى علام أستاذ اللغة العربية، الدكتور عبد الحميد الحديدى رئيس الإذاعة والتلفزيون، أعطاه أحد الموظفين القابعين فى خلفية المشهد ورقة، الجميع يتفحصونه بنظراتهم الصارمة، قال أحدهم «اقرأ هذه الورقة أمام المايك»، فيما استطرد آخر «عاوزين نشوف صوتك ومخارج ألفاظك عاملة إيه»، قرأ «الكنيسى» الورقة سريعا، ثم بدأ فى القول قولا واحدا «استوغل الهواء الأسود أنحاء القرية»، انتهى الممتحن من امتحانه، سأله رئيس اللجنة «هو فيه هواء أسود»، فرد «الكنيسى» بأن الجملة ربما تكون لها علاقة بمسرحية الهواء الأسود التى عكف على كتابتها الكاتب الساخر أحمد رجب فى انتقاده اللاذع لكتاب الوسط المسرحى خلال إشادتهم فى تلك الفترة بما يسمى بمسرح العبث «اللى خلى اللجنة تنبسط أكتر إن أنا كنت عارف تفاصيل القصة وكأنى رئيس تحرير، حتى قولتلهم ساعتها إن الكاتب اللى أحمد رجب استند إليه كان المؤلف المسرحى فريدريش دورنمات»، ظن «الكنيسي» أنه سيتلو نشرة الأخبار عقب دقائق، وأنه أخيرا سيقول «هنا القاهرة»، إلا أن ذلك لم يحدث، فيما مرت الدقائق تخلفها الساعات تتبعها الأيام، وعام كامل مر، ظل خلاله «الكنيسى» مجرد اسم مدون على قائمة البرامج، غير أن 365 يوما، كانت مجرد تدريب فقط، تخللها وجوده على الهواء دون أن ينبس بكلمة.


بعد أكثر من عام اسم «الكنيسي» أخيرا تم إدراجه على قوائم مذيعى الهواء، فرح، حان الموعد، كانت الإذاعة وقتها تتبع منهجا بأن كل مذيع مخضرم يشاركه مذيع من الجدد، ليشارك «الكنيسي» الإذاعى «أحمد فراج»، دخل الاثنان الاستديو، كاد فراج يستحوذ على معظم الحلقة، مما زاد القلق فى نفس الكنيسي، جاء الفاصل، أخبره «فراج»: «أنا هخليك يا كنيسى تبدأ أولى كلماتك على الهواء بكلمة «الله أكبر»، فكانت أولى إطلالات الإذاعى الشاب «معنا ومعكم أغنية - الله أكبر فوق كيد المعتدي».


بعدها ذاع صيته فى ماسبيرو، وقدم برنامجه «أقلام جديدة» لتقديم المواهب الشابة فى الأدب، لا يتنازل عن قوميته وعشقه لعبد الناصر، غير أن المبدأ يحكمه، دون النظر إلى نتائج، يكتب عقب النكسة قصة قصيرة تحت اسم «الدقات الوامضة»، ينتقد فيها «ناصر»، ويؤرخ لحال الشباب وصدمتهم بقصة أخرى حملت عنوان «حينما يتوقف اللعب»، لكنه كان على ثقة بأن النصر آتٍ، يأخذ المسجل ويذهب على الجبهة خلال حرب الاستنزاف لينقل كفاح الجنود، تدق حرب أكتوبر طبولها فيقرر أن يكون على الجبهة بصوته «قلت لبابا شارو وكان رئيس الإذاعة أنا رايح وسط العساكر لو مش موافق هقدم نفسى للتجنيد»، اعترضت الزوجة على القرار، فطالبها وبنتيه بالذهاب إلى بلدته حتى يقضى الله أمرا كان مفعولا، فكان صوت «الكنيسى» مدافع تدق حصون العدو، تقول عنه الصحف العبرية إن تأثيره تخطى كل الحدود؛ فعندما شكلت الحكومة الإسرائيلية لجنة «جرانيت» لبحث أسباب الهزيمة كان من لجانها الفرعية بحث أسباب انتشار البرنامج المصرى «صوت المعركة» بين الإسرائيليين الذين يجيدون اللغة العربية.
صوت يخاطبه عبر الهاتف، رئاسة الجمهورية تتصل به «أستاذ حمدى الرئيس السادات عاوز يقابلك فى إسكندرية»، رد عليه «الكنيسى» بتلقائية «أنا لسة جاى من إسكندرية هاروح تانى»، فضحك مخاطبه «يا أخ حمدى بقولك رئيس الجمهورية وعلى العموم هانبعتلك العربية»، وكان اللقاء فى المعمورة، لأكثر من ساعتين، ظل فيهما السادات يمدح فى «الكنيسى»، يؤكد له أنه عدّل من ميعاد غدائه حتى يتسنى له الاستماع لبرنامجه «صوت المعركة»، ونال «الكنيسي» الترقية بدرجتين كاملتين بسبب دوره فى الحرب، لكنه رفض الترقية مؤثرا الإعلاميين على نفسه، ولأن «الكنيسى» صاحب موقف لم يدم شهر العسل بينه وبين الحاكم طويلا، خاصة بعدما قرر «السادات» الذهاب إلى القدس وهو ما كان يعارضه بشدة «نادتنى صفية المهندس وقالتلى عاوزين نغير اسم البرنامج من صوت المعركة إلى صوت السلام، فقلتلها أنا مش أسطوانة وش معركة ووش سلام»، فخرج «الكنيسى» غاضبا عاقدا العزم على ألا يكمل برنامجه الأشهر حال إصرار السادات على معاهدة السلام وقد كان.


يعتبر الكنيسى أشهر مراسل حربى للإذاعة أثناء حرب أكتوبر، الذين لعبوا دورًا بارزًا فى رفع الروح المعنوية للجنود خلال الحرب، حيث كان قلمه يكتب بروح الوطنية وحب مصر، كما قدم خلال فترة الحرب أشهر برامجه وهى صوت المعركة، وبرنامج يوميات مراسل حربي، وكانت تلك البرامج فى حد ذاتها عملا وطنيا، وعمل رئيسا لقطاع الإذاعة فى الفترة من 1 أكتوبر 1997، حتى 18 مارس 2001، بعد بلوغه سن التقاعد.