معنى «معية الله» في خواطر الإمام الشعراوي

الإمام الشعراوي
الإمام الشعراوي

«سمع موسى هذا النداء يأتيه من كل نواحيه، وينساب فى كل اتجاه؛ لأن الله تعالى لا تحيزه جهة».

يقول الحق فى الآية 30 من سورة القصص:» فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِى الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّى أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ»، وكأن الحق تبارك وتعالى يريد أنْ يعطينا خريطة تفصيلية للمكان، فهناك مَنْ قال: من جانب الطور، والجانب الأيمن من الطور. وهنا: «مِن شَاطِئ الوادى الأيمن فِى البقعة المباركة مِنَ الشجرة»، ومضمون النداء: «يا موسى إنى أَنَا الله رَبُّ العالمين» سمع موسى هذا النداء يأتيه من كل نواحيه، وينساب فى كل اتجاه؛ لأن الله تعالى لا تحيزه جهة؛ لذلك لا تقُلْ: من أين يأتى الصوت؟ وليس له إِلْفٌ بأن يخاطبه الرب تبارك وتعالى.

ومع النداء يرى النار تشتعل فى فرع من الشجرة، النار تزداد اشتعالاً، والشجرة تزداد خضرة، فلا النار تحرق الشجرة بحرارتها، ولا الشجرة تُطفئ النار برطوبتها. فهي -إذن- مسألة عجيبة يحَارُ فيها الفكر، فهل يستقبل كُلَّ هذه العجائب بسهولة أم لابد له من مراجعة؟

ثم يقول الحق سبحانه فى الآية 31:» وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ»، وفى موضع آخر يسأله ربه ليُؤنسه: «وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى» «طه: 17» وقلْنا: إن موسى -عليه السلام- أطال فى هذا الموقف ليطيل مُدَّة الأُنْس بربه، فلما أحسَّ أنه أسرف وأطال قال: «وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى» «طه: 18» فأطنب أولاً ليزداد أُنْسه بربه، ثم أوجز ليظل أدبه مع ربه.. أما هنا فيأتى الأمر مباشرة ليُوظِّف العصا: «وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ...».

وقوله:» فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ ولى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ...» لأنه رأى عجيبة أخرى أعجب مما سبق فلو سلَّمنا باشتعال النار فى خُضْرة الشجرة، فكيف نُسلِّم بانقلاب العصا جاناً يسعى ويتحرك؟ وكان من الممكن أنْ تنقلبَ العصا الجافة إلى شجرة خضراء من جنس العصا، وتكون أيضاً معجزة، أما أنْ تتحول إلى جنس آخر، وتتعدَّى النباتية إلى الحيوانية والحيوانية المتحركة المخيفة، فهذا شيء عجيب غير مألوف.

وهنا كلام محذوف؛ لأن القرآن الكريم مبنيٌّ على الإيجاز، فالتقدير: فألقى موسى عصاه «فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ ولى مُدْبِراً..» ذلك ليترك للعقل فرصة الاستنباط، ويُحرِّك الذِّهْن لمتابعة الأحداث. والجانُّ، قُلْنا هو فرخ الحية، وقد صُوِّرَتْ العصا فى هذه القصة بأنها: جانٌّ، وثعبان، وحية. وهى صورة ثلاثة للشيء الواحد، فهى فى خفَّتِها جانٌّ، وفى طولها ثعبان، وفى غِلَظها حية.

ومعنى «ولى مُدْبِراً..» يعنى: انصرف خائفاً، «وَلَمْ يُعَقِّبْ..» لم يلتفت إلى الوراء، فناداه ربه: »يا موسى أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ..» يعني: ارجع ولا تخَفْ من شيء، ثم يعطيه القضية التى يجب أن تصاحبه فى كل تحركاته فى دعوته «إِنَّكَ مِنَ الآمنين» فلم يقل ارجع فسوف أؤمنك فى هذا الموقف إنما «إِنَّكَ مِنَ الآمنين».

يعنى: هى قضية مستمرة ملازمة لك؛ لأنك فى مَعيّة الله، ومَنْ كان فى معية الله لا يخاف، وإلا لو خِفْتَ الآن، فماذا ستفعل أمام فرعون.

وهكذا يعطى الحق سبحانه وتعالى لموسى -عليه السلام- دُرْبة معه سبحانه، ودُرْبة حتى يواجه فرعون وسَحرته والملأ جميعًا دون خوف ولا وَجَل، وليكون على ثقة من نصر الله وتأييده فى جولته الأخيرة أمام فرعون.