ورقة وقلم

صناعة البطل الأوليمبى

ياسر رزق
ياسر رزق

ليس المهم أن يكسب فريق أو يخسر، إنما المهم ان يبذل كل جهده بنسبة ١٠٠٪، والأهم أن يقدم الرياضيون القدوة فى قوة الإرادة والرغبة فى التفوق على الذات

 

أسهل شىء أن يتحدث من لا يعرف فيما لا يفهم، وأن يفتى من لا يدرك فيما لا يفهم.


ما أيسر أن ينقد من يجلس فى مقاعد المتفرجين وينتقد أولئك الذين حرموا من لذة الطفولة، وأفنوا صباهم وبواكير شبابهم، يتدربون ويعرقون، للفوز ببطولات العالم، أو نيل ميداليات أوليمبية، أو حتى تحقيق مراكز متقدمة.


تحطيم الآخرين هوى وغرام عند البعض.


فى الأيام الأولى لدورة طوكيو الأوليمبية، انهالت السهام من كل صوب على الرياضيين المصريين، دونما انتظار لانتهاء المنافسات.


واستهول أناس منهم مسئولون برلمانيون حجم الإنفاق على البعثة الأوليمبية المصرية الذى بلغ نحو ١٥ مليون دولار، فقط وبدأوا يحسبون ثمن الميدالية الأوليمبية، ثم يغيرون حساباتهم مع كل ميدالية يفوز بها ويخفضون قيمتها.


هذا مبلغ زهيد للغاية- فى رأيى المتواضع- إذا قيس بما حققه الرياضيون المصريون، سواء الذين فازوا بميداليات أو أولئك الذين تفوقوا على أنفسهم وفاقوا التوقعات بأدائهم المشرف الذى نال الاحترام.


فلو أن الدولة أنفقت مائة مثل هذا المبلغ فى ١٥ يوما هى عدد أيام دورة طوكيو، ما استطاعت أن توحد قلوب المصريين، وتؤجج مشاعرهم الوطنية، وتستنهض روحهم المعنوية، مثلما استطاع هؤلاء الشباب، وبالأخص لاعبو كرة اليد.


لم تتوحد فقط قلوب المصريين خلف فرقهم ولاعبيهم، ولم تدمع أعينهم وحدهم وهم يرون علم بلادهم يرتفع عدة مرات فى أعظم محفل شبابى عالمى للسمو والسلام والحضارة. بل اجتمعت معهم قلوب كل العرب مثلما وقف المصريون بمشاعرهم يساندون اللاعبين العرب.


الرياضة لها فعل السحر فى الوجدان، فلقد استطاع المذيع الجزائرى حميد ليبراوى بتعليقاته التى تقطر حبا لمصر وفخرا بمنتخب اليد المصرى، أن يذيب حساسيات رياضية بين فرق البلدين الشقيقين عمرها سنوات وأن يبخر رواسبها فى غضون أقل من ٩٠ دقيقة..!


والرجل فى ظنى يستحق منا التكريم.


< < <


وعدت اللجنة الأوليمبية المصرية بتحقيق نحو ٥ ميداليات فى دورة طوكيو، وحددت تقريبا أسماء الفائزين من قبل أن تبدأ المنافسات، وقد حصلنا بالفعل على ٦ ميداليات منها ذهبية وفضية، وهو أكبر عدد نفوز به من ميداليات فى تاريخنا الأوليمبى.


إذن، لم تخدعنا اللجنة الأوليمبية بوعود كاذبة ولم تخب أيضا توقعات الدكتور أشرف صبحى وزير الشباب والرياضة التى أعلنها قبل انطلاق منافسات الدورة، عندما قال فى يناير الماضى: إن التقديرات تشير إلى حصولنا على ما بين ٣ إلى ٥ ميداليات فى غير الألعاب الجماعية.


تلك الحسابات اعتمدت على تقدير دقيق لتصنيف اللاعبين والفرق وأرقامهم الشخصية، بالمقارنة بمنافسيهم.


ربما يقول أحدهم لماذا إذن أرسلنا ١٣٤ رياضيا فى البعثة (منهم بالمناسبة ٤١ لاعبا فى منتخبى القدم واليد).


ولم نكتف بإرسال فقط من توقعنا حصولهم على ميداليات.


معنى هذا المنطق الخائب، أنه كان يجب أن نستبعد مثلا منتخب القدم الذى لم يكن مصنفا فى مجموعته قبل المنافسات للصعود إلى دور الثمانية، وأن يقترب من الدور نصف النهائى لولا خسارته بهدف يتيم أمام منتخب البرازيل، وكان يجب أن نستبعد محمد السيد (١٨ سنة)، المفاجأة المصرية فى لعبة السلاح الذى وصل إلى الدور ربع النهائى بعدما أقصى بطل العالم الفرنسى من دور الـ٣٢، لكنه خسر أمام لاعب أوكرانيا المصنف الثالث بمنتهى الصعوبة، وأن نستبعد عمر عصر مفاجأة منافسات تنس الطاولة الذى بلغ أيضا دور الثمانية، وغير هؤلاء كثيرون.


الحقيقة أننى وددت لو كنا ضممنا الفتاة الصغيرة هنا جودة (١٣ سنة) بطلة العالم للناشئين فى تنس الطاولة تحت ١٥ سنة، لتكتسب خبرة تؤهلها للفوز بذهبية دورة باريس ٢٠٢٤.


< < <


لكن ألم يكن بالإمكان أفضل مما كان؟!


رأيى أنه كان..!


لو أوقعت القرعة بعض اللاعبين فى مسارات مختلفة، ولو أنصف التحكيم بطلة الكاراتيه جيانا فاروق (مثلا)، التى أجمع المعلقون أنها كانت الأحق من منافستها الصينية بلعب المباراة النهائية على الذهبية أو الفضية.


ولو كانت بعض الاتحادات الرياضية على قدر الأمانة والمسئولية وتغليب المصلحة العامة على المصالح الشخصية، وأخص منها اتحاد رفع الأثقال، الذى تسبب فى فضيحة المنشطات التى أقصت الرباعين المصريين عن خوض منافسات دورة طوكيو، وبالتالى حرمنا من نيل ميداليات شبه مضمونة فى هذه اللعبة التى حققت لنا ١٣ ميدالية من بين ٣٢ ميدالية فزنا بها منذ شاركنا فى الأوليمبياد وحتى دورة ريودى جانيرو الماضية، منها ٥ ذهبيات من بين ٧ ذهبيات هى إجمالى عدد الميداليات الذهبية التى فازت بها مصر تاريخيا.


والمثير للاستغراب أن اللجنة التى تتولى مؤقتا إدارة لعبة رفع الأثقال، يترأسها ويديرها نفس الشخوص الذين كانوا يتولون مجلس إدارة الاتحاد، بينما هم يستحقون المساءلة والاستبعاد نهائيا من الاتحاد.


كان ممكنا أيضا أن نفوز بعدد معتبر من الميداليات فى اللعبات التى يبرع فيها المصريون تاريخيا، ولو كانت الرياضة بكل عناصرها من أندية ومدارس وجامعات ومراكز شباب واتحادات، وإعلام رياضى لاقت الاهتمام بالواجب لها على مدار خمسة عقود مضت، لتتحول الطفرات فى اللاعبين الموهوبين أو الاستثناءات إلى نسق عام أو قاعدة فى ظل منظومة رياضية متكاملة تحقق مبدأ الرياضة للجميع وتركز على اكتشاف الواعدين وصناعة الأبطال.


ماحدث للرياضة، طال مجالات عديدة فى مختلف نواحى الحياة، لكننا لم نجلس ننعى أزمنة الفرص الضائعة، وهذا ما يجب القيام به بصدد الرياضة حتى نستطيع أن نتحدث حديثا مغايرا عقب دورتى ٢٠٢٤ و٢٠٢٨، ومابعدهما.


< < <


لدى بعض ملاحظات من واقع اهتمامى الشخصى بالرياضة، وإيمانى بتأثيرها فى معنويات الشعب، وتعزيز مشاعر الفخر الوطنى، ويقينى بضرورة التكامل بين جهات الدولة المعنية مباشرة بالتنشئة والتربية وبالرياضة وادارة المحليات.


أولا: أظن الدكتور أشرف صبحى الوزير الكفء والدءوب، سيبادر بتشكيل لجنة فنية لتحليل وتقويم نتائج اللاعبين والفرق فى دورة طوكيو، واستخلاص الدروس للاهتداء بها فى التخطيط للرياضة المصرية على المدى القريب والمتوسط، وإيلاء أكبر قدر من الاهتمام لألعاب النزال التى يبرع فيها المصريون كالمصارعة والتايكوندو والجودو والملاكمة والكاراتيه والسلاح، والألعاب الرقمية كرفع الأثقال والغطس ودفع الجلة ورمى الرمح، والألعاب الواعدة كالرماية والتجديف فضلا عن كرة اليد وتنس الطاولة. لاسيما أن كرة القدم يتاح لها ما تستحقه وأكثر من أهتمام رسمى وشعبى وإعلامى.


ثانيا: أتوقع أن يعقد الدكتور مصطفى مدبولى رئيس مجلس الوزراء وقد كان لاعبا مميزا فى كرة اليد، اجتماعا وزاريا يضم وزراء الشباب والتربية والتعليم والتعليم العالى والتنمية المحلية، لتطوير منظومة متكاملة تحيى الرياضة بالمدارس وتعيد الاهتمام لملاعبها وترجع مادة التربية الرياضية إليها، وتشجع الرياضة بالجامعات، مع تحقيق الربط بين المنشآت الرياضية فى مراكز الشباب وأندية المحليات وفتح ملاعب المدارس والجامعات فى الإجازة الصيفية، وكذلك استحداث نظام للكشافين الرياضيين يتبعون قطاع الرياضة بوزارة الشباب، لانتقاء البراعم الواعدة فى مختلف اللعبات ووضع برامج لتأهيلهم وتحويلهم إلى أبطال.


وأتوقع أن يبادر محافظو الإسكندرية المتميزة فى المصارعة ورفع الأثقال، والشرقية المعروفة برياضة الهوكى، والمنوفية موطن الملاكمين، والإسماعيلية ذات المواهب فى كرة القدم والتجديف والأسكواش، وأسوان الواعدة بالمواهب فى ألعاب القوى، وغيرهم من المحافظين، بالاجتماع بمديرى الشباب والرياضة ورؤساء الأندية، وتذليل أى عقبات تعترض اكتشاف ورعاية الواعدين.


ولعلى أقترح أن يتم تعيين مساعد لشئون الرياضة لكل من وزيرى التربية والتعليم والتعليم العالى ولكل محافظ ليكون متفرغا لهذا الشأن الحيوى فى ظل مشاغل متشعبة لهؤلاء المسئولين. واعتقادى أن اكتمال مشروع حياة كريمة لتطوير الريف المصرى سوف يوفر قاعدة عريضة للاكتشاف والتدريب والتأهيل وتنظيم البطولات على مستوى المراكز والمحافظات.


ثالثا: أنتظر من المهندس هشام حطب رئيس اللجنة الاوليمبية المصرية، أن يراجع لائحة النظام الأساسى للجنة، بما يسمح بأن يتم اختيار أعضاء اللجنة من غير رؤساء وأعضاء الاتحادات، فليس من المنطق أن تحاسب الاتحادات رؤساءها وأتوقع منه أن يشكل لجنة فنية استشارية من الأبطال الحائزين على الميداليات ومدربيهم لمعاونة اللجنة فى مهامها الأساسية.


رابعا: ربما لايعرف الكثيرون أن نادى الأوليمبى السكندرى هو صاحب أكبر عدد من الميداليات الأوليمبية فى تاريخ مصر، ومن ثم فلابد من انتشال هذا النادى من عثراته، وتقديم كل الدعم له ليعود مجددا كمفرخة للأبطال الاوليمبيين.


وتقع على النادى الأهلى ومعه نادى الزمالك مسئولية بالغة الأهمية، بوصفهما الأكثر شعبية فى كرة القدم والأكثر فوزا ببطولات الألعاب الأخرى.


وقد كنت أحادث أمس الأول أسطورة الكرة المصرية وأعظم لاعبيها الكابتن محمود الخطيب رئيس النادى الأهلى، أهنئه بفوز البطلة الأوليمبية جيانا فاروق لاعبة النادى الاهلى ببرونزية كانت تستحق أفضل منها فى الكاراتيه، ووجدته يفكر فى تطوير مساهمة النادى فى مختلف اللعبات، وطرحت عليه فكرة إنشاء فرع للأهلى فى الدلتا وآخر فى الصعيد، لاكتشاف الموهوبين رياضيا وتنمية قدراتهم وصولا لتحقيق بطولات عالمية ودولية.


ورحب الكابتن الخطيب دونما تردد بالفكرة.


خامساً: أظن الوقت حان لتقويم تجربة أندية مؤسسات وشركات الدولة فى الرياضة، ففرق كرة القدم فى هذه الأندية تعتمد على رديف الأهلى والزمالك والزيادة فى ناشئيهما، وعلى اللاعبين الأفارقة. ومن ثم فإنها لم تحقق اضافة للكرة المصرية، بينما الأموال التى تنفق دون عائد على الكرة يمكن توجيهها إلى اللعبات الأخرى، بما يؤدى إلى إسهام حقيقى فى اكتشاف ورعاية الموهوبين وتقديم الأبطال.


سادساً: الإعلام الرياضى المصرى له أحد أبرز وأهم الأدوار فى المنظومة الرياضية المصرية، سواء فى تسليط الأضواء على المنافسات المحلية وغير المحلية، ونشر الاهتمام بالرياضة بشكل عام، لكن واقع الأمر أنه إعلام كروى بامتياز، يركز فى الأساس على كرة القدم.


وللأسف تخصص البعض ممن يزاولون المهنة فى الفضائيات فى تأجيج الفتن بين الأهلى والزمالك تحديداً، حتى ونحن فى عز أجواء منافسات الأوليمبياد.
وأعتقد أن الإعلام الرياضى فى الفضائيات يحتاج إلى غربلة لاستبعاد الدخلاء المتعصبين، وهذه مسئولية القائمين على القنوات، وأظن مهمة الصفحات الرياضية فى الجرائد والبرامج فى الفضائيات عدم التركيز فقط على كرة القدم، عن طريق تخصيص نصف المساحة الورقية أو الزمانية للعبات الأخرى واختيار واحدة من القنوات الرياضية المملوكة للمال العام لتكون قناة لكل الألعاب.


أظن ايضاً أحد أهم أدوار الاعلام الرياضى، هو دحض الفكرة القائلة بأن مزاولة الرياضة تعرقل التعليم وتتعارض مع التفوق الدراسى، ذلك أن مثال البطلة الاوليمبية جيانا فاروق وهى دكتورة صيدلانية، وكذلك زملاؤها فى اللعبات الفردية والجماعية من الطلبة المتفوقين وخريجى الجامعات المصرية والدولية، ينسف هذا الادعاء تماماً. فالتعليم يكسب الرياضى الثقة بالنفس ويوسع مداركه، والرياضة تحفز الطالب على الرغبة فى التميز والتفوق فى الدراسة وكل مناحى الحياة.


< < <


آتى الآن إلى قضية استشرت فى الألعاب الاوليمبية لاسيما فى الدورات الأخيرة، وهى قضية تجنيس اللاعبين، أو ما أسماها صديقى الناقد الرياضى الكبير ابراهيم المنيسى بـ «سوق النخاسة الاوليمبى»!


هذه الظاهرة ليست قاصرة على دولة وإنما هى موجودة فى دول كبرى تشترى الوعد بالميدالية فى مقابل منح الجنسية.


ربما كنا فى مصر أكثر تأثراً من غيرنا بهذه الظاهرة، ليس لأننا نرفض مبدأ ازدواج الجنسية، وإنما لأننا لا نقبل ازدواج الولاء، ولا نتقبل أن نرى من يقف ويحيى علماً آخر غير علم مصر التى أكل هو وأبوه من خيرها، والذى استشهد عشرات الالاف من أبناء هذا البلد، ليروه خفاقاً عالياً.


لكن فى مقابل صاحب هذا المثال الردىء، كان هناك البطل المصرى نايل نصار شديد الثراء الذى يحمل جنسية أخرى هى الأمريكية ويستعد للزواج من فتاة أمريكية هى ابنة أهم مبتكر برمجيات فى التاريخ وهو الملياردير بيل جيتس، ووجدنا الفارس نايل نصار يختار دون تردد أن يمثل وطنه الام مصر ويتوشح بعلمها العزيز.


ولست أتطرف فى وجهة نظرى عندما أقول إن من يختار أن ينافس بلاده تحت راية أخرى كمن يقاتل بلاده فى جيش دولة أخرى..!


< < <


ربما التعبير الأدق عن النظرة الحقيقية التى يجب أن توجه للرياضة وللمنافسات الرياضية، جاء فى تغريدات التهنئة من جانب الرئيس السيسى لرجال منتخب كرة اليد، رغم خسارته فى الدور نصف النهائى ودون انتظار أن يلعب على الميدالية البرونزية عبر الرئيس السيسى عن فخره بالرجال وبالنموذج الأمثل الذى قدموه فى روح القوة والإصرار والعزيمة والأداء البطولى - على حد تعبير الرئيس - حتى آخر لحظة فى المباراة.


فليس المهم أن يكسب فريق أو يخسر، إنما المهم أن يبذل كل جهده بنسبة ١٠٠٪، تواقاً للفوز.


والأهم أن يقدم الرياضيون القدوة للنشء وللشباب فى قوة الإرادة والرغبة فى التفوق على الذات قبل الفوز على الآخرين. ذلك هو جوهر الرياضة، وتلك هى الروح الأوليمبية.