رحل صديقى الحكاء البكاء

عماد المصرى
عماد المصرى

عام ١٩٩٢.. وأثناء تواجدى بصالة التحرير .. وجدت ذلك الشاب النحيل يدخل فى خناقة مع احد كبار الجريدة حينها.. ورغم الفوارق بين الطرفين فى كل شىء فإن صاحب القلب الموجوع كان صلبا كالصوان فى الحق.. ولا يخشى فى ذلك احدا.. أمسكت به لأمنعه من مشكلة لا تُحمد عقباها.. وساعدنى فى ذلك فارق الجسم . ومن يومها صرنا أصدقاء.. لكن خلال العامين الماضيين اقترب منى كثيرا.. وكان عندما يمر بأى محنة نفسية.. نلتقى على المقهى .. يخرج معى كل همومه ومتاعبه مع كثير من الحكاوى التى كان يجيد سردها باسلوب شيق لا ينافس فيه أحد.. حتى يغسل كل همومه بعد ان يتخلص من كل رصيد الحزن الذى فى قلبه.. حتى لو أخذ يبكى.. المهم لا اتركه  إلا وقد عادت له ابتسامته وافرغ شحنة الحزن والغضب والهم.. وفى خلال هذا العام توفيت والدته.. وكان نعم الابن البار بها.. ومن قبلها بسنوات والده رحمه الله.. حتى إنه بنى مسجدا باسم والده منذ سنوات وظل هذا المسجد هو مشروعه الاهم فى حياته.. مع ابنته نور وزوجته الوفية.
كان وهو ابن الاسكندرية فى خلال هذا العام يقيم بين القاهرة والاسكندرية.. اتعبه ماديا الإقامة فى فنادق وسط البلد، فكنا نبحث له عن شقة تناسبه، حتى فاجأنى الاسبوع الماضى باتصال فرحا متهللا بأنه رجع إلى شقة روض الفرج.. وكان يطلق عليها الفيلا.. رضا وقناعة وحبا.. وبهذه المناسبة قرر أن يعزمنى على العشاء فى السيدة زينب.. وطلب ان يكون الموعد الخميس قبل الماضى.. لكن للظروف نقلنا الموعد للسبت الساعة الثامنة مساء. بعد ان يكتب مقال الاخبار.. وعندما جاء الموعد.. اعتذر .. وقال إن ابنته نور مريضة وسوف يسافر إلى الإسكندرية للاطمئنان عليها.. لم اكن اعلم  أن هذه آخر مكالمة بينى وبينه.. وأن اللقاء الذى لم يتم كان سيكون الأخير.. ظننت أنه سافر كما قال.. وكالعادة اغلب الوقت هاتفه مغلق.. إلى أن جاءتنى رسالة من السيدة حرمه عبر الماسنجر مساء الثلاثاء الماضى تسألنى عن محمد.. فقلت لها إنه مفروض عندكم فى الاسكندرية، فقالت لم يأت، لم يخطر ببالى أن هناك مكروها أصاب صديقى وأخى محمد أبو ذكرى، وذهبت للجريدة صباح الأربعاء كالعادة.. وفجأة جاءنى تلاميذ محمد بصفحة الإذاعة والتلفزيون يقولون لى البقاء لله فى الأستاذ محمد.. ليرحل عنا أحد أهم المواهب الصحفية المصرية.. رحل صديقى وأخى الحكاء البكاء.. وترك خلفه إرثا من حب الناس وماأكثرهم الذين لم يتخل عنهم فى أى محنة.. ترك ابنة وحيدة لم تتجاوز عامها الحادى عشر  وزوجة وفية مخلصة.. عاشت معه احلك الظروف.. خاصة ظروف مرضه التى طالت كثيرا.. حتى كتب الله له الشفاء.. رحل الرجل الذى صمد كثيرا ضد الظلم، وإن العين لتدمع وإن القلب ليحزن ولا نقول إلا ما يرضى ربنا.. إنا لله وإنا إليه راجعون، وإنا لفراقك يا أبو ذكرى لمحزونون.