كتبت : بسمة ناجي
ربما يكون هذا الوقت مناسبًا لإنتاج زفى انتظار جودوس، المسرحية الكئيبة والساخرة والغامضة حول صديقين يحاولان الحفاظ على التواصل بينهما، والتفاؤل خلال فترة من الملل والتشكُك وتردد احتمالات حول نهاية العالم. كتب صمويل بيكيت ما أطلق عليه فى النهاية زالكوميديا المأساويةس بعد أن أمضى سنوات الحرب فى مقاومة الاحتلال النازى فى فرنسا، وفى بداية عصر القلق من خطر الإبادة النووية.
فى نسخة غريبة وطريفة، مُقدمة عبر الانترنت، من إنتاج ذا نيو جروب، يلعب إيثان هوك وجون ليجويزامو دور فلاديمير وإستراجون (الملقبان بـ ديدى وجوجو)، مرتديين أحيانًا الكمامات الطبية، عالقَين داخل غرفتيهما المنفصلتين والمظلمتين والمتداعيتين، يتواصلان عبر منصة معدلة تشبه منصة زووم، بينما ينتظران شخصية ثالثة لا تظهر أبدًا. يلعب طارق تروتر، ووالاس شون، الأدوار الثانوية لبوزو المختال وخادمه البائس لاكي.
المسرحية التى وصفت ذات مرة بأنها مسرحية زلا يتكرر فيها حدوث الشيء ذاته مرتينس، بدت ذات صلة خاصة بحاضرنا الذى نخرج فيه جميعًا من ضباب الحجر الصحى ونعود إلى ما يشبه الحياة اليومية العادية. لكن الضجر المرتبط بالحياة الحديثة لم يغِب عن المشهد. إذا سبق لك الجلوس فى انتظار انتهاء التخزين المؤقت اللانهائى لبعض المواقع الالكترونية أو انتظرت لساعات حتى تتلقى خدمة العملاء مكالمتك أو جلست فى إدارة ترخيص السيارات طوال اليوم أو انتظرت شيئًا ما طلبته عبر الانترنت حتى ظننته لن يصل قط، فأنت تعرف ما أعنيه. هناك احتمال كبير أن يستمر عدم حدوث أى شيء على الإطلاق مرارًا وتكرارًا.
نظرًا لأن المسرحية تتكون بالكامل تقريبًا من حوار، فإنتاجها عبر الإنترنت أمر بسيط. تدور القصة فى مكالمة فيديو جماعية غريبة. تتحدث الشخصيات مع بعضها البعض كأنهم فى أقبية منفصلة ولديهم اجتماع عبر زووم، مع ظهور أسمائهم للإشارة إلى تكرار دخولهم وخروجهم. ينقرون أحيانًا على شاشاتهم كلما انتهوا من الثرثرة. وأحيانًا يقومون بتداول أشياء فيما بينهم، تمر عبر الإطار ويبدو أحيانًا أنهم يقذفونها فى وجوه بعضهم البعض، مما يضيف بعدًا مكانيًا سرياليًا.
ديدى وجوجو لم يعودا مسافرَين فى الهواء الطلق، تحيط بهما الطبيعة القاحلة، كحالهما فى الإنتاجات السابقة للمسرحية، بل يظلان محبوسَين خلال الإغلاق العام بسبب جائحة عالمية، لذلك، فإن بعض الأسطر من النص الأصلى تبدو أقل منطقية من المعتاد. الأهم من ذلك، هو التوافق فى الحالة المزاجية بين النص والإنتاج الجديد، إذ بذل المصممون ومصورو الفيديو جهدًا كبيرًا لإثبات حالة القلق والكآبة.
هوك وليجويزامو ممتعان. فلاديمير هو العقل المدبر للعملية، فهو يستفسر ويشكك، ويبدو أنه يمتلك أكبر قدر ممكن من السيطرة على الموقف اللامعقول بالأساس. إنه أكثر حساسية من إستراجون العملى، الذى يعانى من كوابيس مستمرة ويضايقه حذاؤه النتن الذى لا يناسبه. تشير المسرحية إلى أن الاثنين لديهما نوع من التاريخ غير الواضح معًا. يتشاجران ويتذكران مثل الأصدقاء القدامى ويحاولان هزيمة بعضهما البعض بينما ينتظران ما يُفترض حدوثه.
إنهما يحاولان تمرير الوقت حتى يظهر جودو، إن أراد ذلك، والطبيعة الغامضة لانتظارهما تصيبهما بشيء من الجنون. يريدنا زبيكيتس أن نرى محنة شخصياته على أنها كوميدية، ويذهب هوك وليجويزامو إلى المرح. إنهما يقومان بإيماءات طفولية بلهاء، ويصيحان ويتقافزان كالقرود، وفى مرحلة ما يتخذان وضعيات يوجا غريبة، أمام الكاميرا. إنه أمر مسلٍ، لكن بعد فترة تبدأ فى التساؤل عما إذا كانت الشخصيات هى التى تغرق فى الانتظار أم أن الممثلين أنفسهم هم من بدأوا يفقدون عقولهم أثناء أداء مسرحية مدتها ثلاث ساعات من اللاشيء.
تروتر، الذى يلعب دور بوزو، هو اختيار مثير للتساؤل. ترك بيكيت علاقة بوزو بالشخصيات الرئيسية غامضة عن عمد، لكنه بالتأكيد أحد الأثرياء البرجوازيين، يُبقى لاكى البائس تحت تصرفه، وربما يعرف جودو. إن جعل بوزو أسود يُغير تلقينا له، وهى فكرة جديدة، لكن جُمَل تروتر مختزلة للغاية. فى بعض الأحيان، يبدو كأنه يقرأ سلسلة من البرقيات، وهو أمر ثقيل بشكل مُحبِط، خاصة حين يؤديه مغنى راب يقدم فقرات زملائه للجمهور بذكاء بالغ.
يبدو شوان مرتبكًا ومصدومًا تمامًا، ما يناسب شخصية لاكي. يقضى معظم المسرحية مرعوبًا وكامنًا فى الخلفية. لكن حين يُسمح له أخيرًا بتقديم مونولوجه الجنونى، فأداؤه لا يختلف كثيرًا. من المفترض أن يكون المونولوج عبارة عن هراء فكرى زائف، ولكن هناك طريقة تجعل اللامعقول يبدو وكأنه يتلمس معنى أو دلالة ما بدلاً من بقائه كسحابة من كلمات غير مفهومة.
ربما هذا هو السبب فى أن معالجة ذا نيو جروب تفتقد السحر المعقد للمسرحية الأصلية. من الواضح أن بيكيت استمتع بالكوميديا السوداء فى تكوين السيناريو بأكمله، مع وجود اثنين من الحمقى الثرثارين يقفان بإصرار فى قلب مكان مجهول لسبب تافه، وقدم لشخصياته الكثير من المشاكل غير التقليدية لحلها. أحمقان متذمران، يسقط بنطلونيهما وهما يتمازحان بحدة حول الجزر أو أوراق الشجر أو أى شيء آخر قد يتبادر إلى الذهن. يخطر لكَ أنهما ربما يفرطان فى الحديث لأنهما لا يملكان حقًا أى خيار آخر.
لذلك من المقبول تمامًا انغماس الممثلين فى روح الدعابة المجنونة التى ظهرت فى المسرحية. ويبدو بالتأكيد أن هوك وليجويزامو يستمتعان بجوهر القصة. ومع ذلك، فإن هذه المعالجة تصيب سطح كوميديا بيكيت بدلاً من القلب. تفتقد أثناء المشاهدة الأساس البحثى والحزين والعاطفى لقصة ليس لها قصة، من الناحية الفنية. قد يكون انفصال بيكيت الجذرى عن البنية الدرامية التقليدية ممتعًا ومثيرًا للدهشة عندما يتم تنفيذه بشكل صحيح، لكننا بحاجة إلى الشعور بشيء لهذه الشخصيات الثرثارة والمنكوبة كى نحصل على المتعة وإلا ستغيب فى عبثية الافتراض، ولا يحدث شيء مرتين حقًا لكن لأننا لم نلاحظه فى المرة الأولى بالأساس.
المصدر : جريدة اخبار الادب