شارك فى مؤامرة لقتل وزير قوى ثم تولّى منصبه

« فرّاش» يحلم بالسطو على الخلافة!

جامع الأقمر أحد منشآت المأمون البطائحى
جامع الأقمر أحد منشآت المأمون البطائحى

بطريقة ما، أصبح بطل هذه الحكاية يعمل لدى الوزير القوي. لم تكُن الوظيفة مهمة، لكنه نجح فى تجاوزها والصعود سريعا. فى تلك الفترة كان الوزراء يتحكمون فى الخلفاء الفاطميين، بل ويُحدّدون مصائرهم أحيانا، وقد ورث شاهنشاه الوزارة والسيطرة من والده بدر الدين الجمالي، الذى كان واحداً من أقوى وزراء الدولة الفاطمية، ويبدو أن الابن نجح فى تعلّم الصنعة من والده، فواصل التحكّم فى الخليفة الطفل الآمر بأحكام الله.

فى هذه الظروف المُلتبسة دخل البطائحى بطل الحكاية بلاط الوزير. الغريب أنه بدأ عمله«فرّاشا»، ويبدو أنه امتلك مؤهلات استثنائية، جعلته يُصبح من أقرب المقربين لشاهنشاه، حتى صار يعتمد على مشورته وحده، ولم يعد يلتفت لآراء غيره.

كان الوزير شاهنشاه ينعزل عن المحيطين به، بينما الخليفة الآمر يكبر فى السن ويتجاوز مرحلة الطفولة، ويبدأ التمرد على الوزير المستبد. فى البداية لجأ الخليفة للزواج السياسي، فارتبط بابنة الوزير، لكن ذلك لم ينجح فى كسر حاجز الجفاء المُتنامي، ويُقال إنه حاول قتل شاهنشاه مرتين لكن الفشل كان نهاية المؤامرتين. هنا لجأ الخليفة لجواسيسه غالبا، فأخبروه بالنفوذ المُتزايد لـ« الفرّاش»، وعلى الفور فكّر فى استخدامه، والتلويح له بأنه سيتولى الوزارة إذا ساعده فى التخلص ممن يشغلها. وبالفعل نجحت الخطة هذه المرة، وتم قتل الوزير، ونعاه الخليفة بدموع كاذبة، واتهم طائفة الحشاشين بقتله، ثم بدأ مصادرة ثروته صباح اليوم التالي!

يختلف المؤرخون حول ما حدث بعد ذلك، فهناك من رأى أن الخليفة قرّب المأمون البطائحي، ومنحه منصبا رفيعا لكنه أصغر من الوزارة، وبرّر هؤلاء ذلك بأن تجربة الآمر بأحكام الله مع الوزير السابق جعلته يتردد، خوفا من» تحضير عفريت» جديد، قد لا يتمكن من صرفه. بينما يؤكد آخرون أن البطائحى نفسه هو الذى رفض المنصب عدة مرات، ثم قبله بعد عامين بشروط فرضها على الخليفة! وفى كل الأحوال أصبح وزيرا فى النهاية، بل من أقوى وزراء الدولة الفاطمية، رغم أنه لم يمكث فى المنصب طويلا. شهدتْ فترة تولّيه المسئولية العديد من الإنجازات التى عزّزت مكانته، وشيّد العديد من المنشآت للآمر بأحكام الله، بقى منها حاليا مسجد الأقمر بشارع المعز، وساهم أداؤه فى تعظيم دوره بشكل مُبالغ فيه، قبل أن ينتهى شهر العسل السياسى بين الخليفة والوزير، وأخذ كل منهما يستشعر خطر الآخر.

ولأن الوزير يعرف النهايات المأساوية لآخرين شغلوا المنصب نفسه، فقد بدأ تأمين نفسه كى لا يكون مصيره القتل مثل من سبقوه. استعان البطائحى بشقيق له حمل لقب المؤتمن، وساعده فى تشكيل جيش صغير« قطاع خاص»، بحجة العمل على تعزيز الأمن فى الدولة، غير أن هدفه الحقيقى تمثل فى توفير قوة تحميه عند حدوث أية أزمة، وظن أنه أصبح آمنا، مما فتح شهيته لمنصب أكبر، هو الخلافة نفسها!

رغم أن الدولة الفاطمية شهدت وزراء أقوياء، ساهموا فى تحديد مصائر الخلفاء أحيانا، إلا أن أيا من هؤلاء الوزراء لم يُفكر فى منصب الخليفة، وتفرّد المأمون بهذا الطموح، ولأن الأمر يحتاج إلى غطاء شرعي، فقد أرسل الوزير مبعوثا رفيعا إلى اليمن، كى يبدأ من هناك خطة ترويج أكذوبة كُبرى تتيح له حقا وراثيا، وهو أن المأمون البطائحى ابن لنزار ابن الخليفة المستنصر بالله، أنجبه من جارية عندما فرَّ إلى الإسكندرية، عقب سلبه الحق فى الخلافة، وهى قصة سنستعرضها فى الحلقة القادمة.