احم احم !

عبد الرحيم قناوى.. الخل الوفى

هشام مبارك
هشام مبارك

ليس صحيحا أن الخل الوفى فى زماننا هذا قد أصبح من المستحيلات مثله مثل الغول والعنقاء، بل يوجد بيننا من بنى البشر من يستحق فعلا هذا اللقب. أعرف شخصا عزيزا يستحقه عن جدارة وهو الحاج عبد الرحيم قناوى بارك الله فى عمره، صديق أبى الحاج أحمد مبارك رحمه الله وأنيسه ورفيقه فى سنوات حياته الأخيرة فى البياضية بالأقصر، هذا الرجل الذى احتل فى قلب أبى مكانة متميزة جدا لم يبلغها أحد سواه. فكان له بمثابة النديم والصديق ومستودع الأسرار ومخزن الذكريات. ورغم أن والدى كان يكبر الحاج عبد الرحيم بعدة سنوات إلا أنه وجد فيه كل صفات الخل الوفى الذى لا يمر يوم دون أن يطمئن على صديقه غير مكتفٍ باتصال تليفونى روتينى لا يسمن ولا يغنى من جوع بل بالزيارة اليومية له، ساعد على ذلك أن ظروف أبى الصحية وعدم قدرته على صعود السلالم جعلته يقيم بشكل دائم فى ديوان الأسرة الذى يحتل الطابق الأرضى من البيت والمجهز للإقامة الكاملة من أسرة للنوم وحمام ومطبخ مما كان يتيح لعبد الرحيم حرية التحرك بعيدا عن مكان تواجد أمى وشقيقاتى فى الدور الأول.
كانت أمى تحكى لى أنه طوال فترة وجودى فى القاهرة وبمجرد أن تسمع صوت موتوسيكل الحاج عبد الرحيم تنفرج أسارير أمى والبنات اللاتى قد أعيتهن الحيل فى محاولات إقناع والدى بتناول طعام العشاء والدواء. وصول عبد الرحيم كان مؤشرا أن الحاج أحمد على موعد مع الصديق العزيز والخل الوفى عن حق، والذى لن  يرفض له الحاج أحمد طلبا. كان بمجرد وصوله عند والدى فى الديوان يبدأ سهرته معه بأن يطمئن بنفسه على تناوله طعام العشاء فإن لمس منه عزوفا عن الطعام يظل يحايله ويتحايل عليه حتى يرضى، وكان ينجح فى ذلك حيث يلين أبى ويقبل فتندهش أمى رحمها الله وشقيقاتى بارك الله فى أعمارهن جميعا عندما يصيح الرجل بصوته من الديوان ليبشرهن فى الطابق الأول، إن الحاج أحمد تناول الطعام. ليتساءل الجميع كيف نجح عبد الرحيم فى مواجهة عناد أبى، وتزداد دهشة الجميع عندما لا يكتفى الحاج عبد الرحيم بذلك بل يقوم بنفسه أحيانا بإعداد الطعام لوالدى خاصة لو كان عبارة عن ساندويتشات، أما إذا كان قد تم تجهيز العشاء مطهيا فيقوم عبد الرحيم بمساعدة أبى فى تناول الطعام ولو لزم الأمر يطعمه بيده التى لو قبلتها ما بقى من حياتى فلن أوفيه حقه فيما فعله مع أبى خاصة فى أيامه الأخيرة، حيث تحول عبد الرحيم من صديق وفى لصديقه، إلى ابن بار جدا بأبيه يتحمل منه كل ما يصدر من أب يعانى مع المرض بما يلازم تلك المعاناة من ضجر أحيانا ومن ضيق أحيانا. دون أن يمل عبد الرحيم أو يشعر بالضيق لدرجة أن أبى إذا تسبب أى ظرف طارئ فى عدم مقدرة عبد الرحيم على زيارته فى ليلة، يرفض تناول الدواء ليس فقط لأن عبد الرحيم هو الذى يحفظ أسماء الأدوية المطلوبة قبل وبعد الأكل وجرعاتها ولكنه أيضا عقاب من الأب لابنه ليشعره بتأنيب الضمير على عدم زيارته له ليلة بحالها!.
لا أنسى أبداً أن فرحة أبى بوصولى عندما كنت أصل للبلد قادما من القاهرة فى ساعة مبكرة جدا من الصباح لم تكن تكتمل إلا عندما - وقبل أن يسلم علىّ جيدا - يتصل بالرجل تليفونيا مبشرا إياه: هشام وصل يا عبد الرحيم، وعبثا كنت أحاول إقناعه بتأخير ذلك الاتصال حتى يستيقظ الرجل من نومه فكان يقول لى: أنا عارف عبد الرحيم كويس مش حايعرف ينام إلا لما يطمن على وصولك. لذا ومنذ وفاة أبى منذ خمس سنوات وعندما أصل بيتنا قادما من القاهرة أفعل مثلما كان يفعل أبى فى حياته وأتصل به مبشرا: هشام وصل يا حاج عبد الرحيم. فيأتى مسرعا ليشم كل منا فى رائحة الآخر أبا عظيما لى وصديقا أعظم له.
رحمك الله يا أبى وبارك الله فى عمرك يا حاج عبد الرحيم وفى ذريتك وجعلهم بارين بك كما كنت دائما بارا بأبى وجعلك على مر الزمان نموذجا لما كنا نظنه ثالث المستحيلات ألا وهو الخل الوفى.