كتبت :عائشة المراغى
مسيرة طويلة شهد معاصروه بعضًا منها، لكن الكثير من تفاصيلها لا يعلمه أحد، وهو ما جعلنى أقطع طريقًا طويلًا حتى وصلتُ إلى قلب المنصورة، لألتقيه بأحد المقاهى المجاورة لمحطة السكة الحديد، تلك المحطة التى اقتسمت العُمر معه ومع عائلته، إذ كان أبوه وعمه يعملان بها، ثم تسببت له فى مأساة حياته الكبرى وهو لا يزال طفلًا لم تبلغ سنوات عمره عدد أصابع اليد الواحدة، حينما بُتِرت ذراعه على قضبانها، إلا أن تلك المحطة صارت بعد عشرين عامًا من الحادث مصدرًا لرزقه، بعدما التحق بالعمل فيها؛ يتذكر: افى الستينيات؛ أسس جمال عبد الناصر مكتب التأهيل المهنى لتأهيل ذوى الاحتياجات الخاصة بما يتناسب مع ظروفهم، فتقدمتُ لأتعلم استخدام الآلة الكاتبة، التى لطالما تمنيتُ امتلاكها لأخط عليها أعمالى. كانت فترة التعليم ثلاثة شهور، ومكافأة كل شهر 275 قرشا، وبعد حصولى على الشهادة وفَّر لى مكتب التأهيل فرصة للعمل بالسكة الحديد. ثم تمرّ الأيام والسنون ويعمل ثلاثة من أبنائى الخمسة فيها أيضًا، كل منهم فى مجال مختلف.
طفل أزهرى
التحق الجمل فى طفولته - عقب الحادث - بمدرسة المحافظة على القرآن الكريم بالمنصورة، وزامل فيها محمد حسن عبدالله، أستاذ النقد الأدبى فيما بعد، الذى كان يكبره بعام، وبالتالى سبقه فى الالتحاق بالمدرسة الأزهرية فور افتتاحها بالمحافظة عام 1950/1951، إذ وجده عبدالفتاح مرتديًا اعمة وكاكولاب بدلًا من الجلباب، فاستفسر منه عن كيفية التقديم وذهب لاجتياز الاختبارات دون أن يعرف أحد شيئًا، فعل ذلك وحده فى الخفاء.
تفوق عبد الفتاح فى دراسته بالأزهر، لكن وفاة والدته؛ وعائله الوحيد، حالت بينه وبين استكمال طريقه، أو كما يقول احطمت مجداف سفينته،إذ وجد نفسه مجبرًا على الخروج للحياة، مكافحًا من أجل لقمة عيشه، وسط شباب مفتولى العضلات، فعمل بعدد من المهن المتباينة؛ فى مخبز وفى مطعم وفى مقهى شعبى.
لم يكن ذلك المسار غريبًا عليه، لأن أسرته بأكملها كانت عمالية، لا أحد بها يقرأ أو يكتب، غير أنه اختار تغيير الدفة واتباع صوت داخله يأخذه لطريق آخر؛ لدرب الإبداع. وأول ما جذبه كان التمثيل، إذ كان له صديق يرأس فريق التمثيل بمدرسة الصنايع، حين كانت الأنشطة الثقافية والفنية جزءًا أصيلًا من النظام التعليمى. صارحه عبدالفتاح برغبته فى التمثيل فأجابه بأن للفن والإبداع دروبًا متعددة بخلاف التمثيل، قد تكون مناسبة له بشكل أكبر، وأحاله إلى الاطلاع على مجالات أخرى، مهديًا إياه مسرحية امجنون ليلىب لأحمد شوقى، لكن الخلفية الثقافية لعبدالفتاح وضعف محصلته اللغوية لم يعيناه على فهمها، إلا أنه لم يستسلم: اكنتُ مثابرًا، فبدأتُ أقرأ وأميّز وأشترى الكتب. كان الشائع حينذاك روايات الجيب، لكنى عندما حاولتُ قراءتها لم تجد هوى فى نفسى، وأحسستُ أن معالجتها لا تلائمنى. صِرتُ تلقائيًا أبحث عن الكاتب الذى أشعر بتجاوبه مع مشاعرى، فاكتشفتُ عبد الرحمن الخمايسى فى اقمصان الدمب. بمجرد قراءتى له شعرتُ أنه كاتب كبير جدًا. ثم اكتشفتُ عبد الرحمن الشرقاوى، وبدأتُ أنتقل من مكان إلى آخر. كنتُ أذهب لدار الكتب على البحر، وأقرأ ما لا أستطيع شراءه من الكتب، أبحث فى فهرس الأدب عن المجموعات الروائية الكاملة، ليوسف السباعى وتوفيق الحكيم وغيرهما، أقرؤهم واحدًا تلو الآخر. كانت الدار تفتح أبوابها فى الثامنة والنصف صباحًا وتُغلَق فى الواحدة والنصف، أذهب لتناول االغداءب وأعود فى الثانية والنصف عصرًا حينما تُفتح مجددًا حتى السابعة مساء، دون أن يوجهنى أحد، أصبحتُ فى وسط العائلة شاذا وخارجا على الإطار الاجتماعى الذى رسمه القدر لهذه الأسرة، الوحيد الذى استبدت به فكرة الكتابة والرغبة فى التعبير.
بداية شعرية
استهل الجمل كتابة نصوصه الأولى دون أن يفرض عليها شكلًا، فكانت البداية مع شعر العامية، وهو اللون الأدبى ذو التأثير الأول فى وجدانه خلال طفولته، حينما كان يدخل أحدهم إلى شارعه ذ وقتما كان التسول بالغناء ذ ويتحدث عن الزمان والجور والظلم، ثم يبدأ فى غناء اأنا اللى ببيع ياسمين يا ترى مين راح يجنى الوردب، يتذكر: اكان صوتًا شجيًا، أشعر معه بأننى أنزف، ولايزال يرن فى أذنى.
ومن أشعاره التى خطّها فى خمسينيات القرن الماضى الو تطعم الفم لقمة/ صاحبه ليك ينقاد/ ويميل على غيتك/ وإن مِلت برضه يميل/ شمع الولاء لك فى قلبه دايمًا ينقاد/ ما دام مسكّن عواصف معدته بجميلب. وبعد رحلة طويلة مع كتابة القصة والرواية،عاد الجمل إلى كتابة الشعر عام 2006 بديوان فصحى عنوانه اإشارة من الخرس كلام.
أما النشر الحقيقى فبدأ بقصتين فى مجلة صباح الخير عام 1967، عقب االنكسة. ما شعر به من انكسار جعله يحمل أوراقه وأقلامه متجهًا إلى جنينة اشجرة الدرب الشهيرة بالمنصورة، فكتب ارجل واحد ينازع البقاء واأعشاش العصافير الميتة وأرسلهما إلى صلاح جاهين بعدما عهدوا إليه برئاسة مجلة صباح الخير؛ نُشرت الأولى فى عدد 13 يوليو والثانية فى عدد 20 يوليو بدون كلمة االميتةب. يتذكر الجمل: اكتبتهما دفقة واحدة، ووضعتهما فى ظرف عليه ورقة ابوسطةب بعشرة ملاليم، دون أن أبدِّل فيهما كلمة أو حرفا، وهذا لم يحدث سوى مرتين. كانت صباح الخير تصل إلينا يوم الإثنين من كل أسبوع، فهاتفنى صديق على مكتبى وقال لى: مبروك، قصتك نُشرت. وفى الأسبوع التالى وصلتنى نفس المكالمة من نفس الصديق. لم يكن ينشر حينها فى صباح الخير سوى الأسماء والعمالقة، لا شخص مثلى من الريف، وهو ما أشعرنى بالهم والمسئولية؛ لقد ضغط الهم الثقافى والأدبى على أنفاسى.
أدب الجماهير
واصل الجمل النشر فى المجلات المصرية والعربية، مثل االقبس الكويتية والمجلة واروزاليوسف والمنصورة، ثم جمع قصصه فى كتاب أسماه اأحلام ترانزستورب؛ باكورة إصدارات أدب الجماهير التى أسسها مع الراحلين فؤاد حجازى ومحمد يوسف وزكى عمر، بهدف النشر للأدباء الشبان فى مختلف محافظات مصر، ممن لم يجدوا لهم حظًا ويقفون فى طوابير النشر منذ سنوات. يستفيض الجمل: ااتفقنا نحن الأربعة أن نقرأ المادة التى تصل لأدب الجماهير ونتخذ بشأنها قرارًا، لكن بعض الأعمال كان مستواها متدنيًا، واختلفتُ على نشرها مع حجازى، إذ كنت أرى أن واجبنا توجيه هؤلاء الشباب لتطوير كتاباتهم لا نشرها بهذا المستوى، وبسبب ذلك تركتُ الدار.
كتب عبدالفتاح عبدالرحمن الجمل غالبية أعماله بين العمال واالشغيلة؛ بدءًا من قصته أغنية العودة التى خطّها فى محل مصر، ونُشرت فى مجموعته القصصية الأولى اأحلام ترانزستورب، ثم تحولت فيما بعد إلى تمثيلية إذاعية من بطولة توفيق الدقن وسهير البابلى، وكذلك روايته الأولى اأولاد المنصورة التى كتبها بين العمال فى الورش المتنقلة، وفازت بالجائزة الأولى فى نادى القصة، يقول: اأصدقائى كلهم كانوا من االبروليتارياب، أصحاب ورش متنقلة واسمكرية سيارات ودهان. كان بجوارنا كشك صغير يصنع قهوة وشايا ودخان امعسل، ومن يريد إصلاح سيارته يأتى وأنا جالس معهم أكتب فى الرواية، وكلما أنتهى من فصل أقرؤه لهم، أعلم أنهم لا يقرأون ولم يذهبوا يومًا للمدرسة، لكنى لم أكن أهتم لرأيهم النقدى وإنما إحساسهم وانطباعهم، كان جميلًا جدًا ويزيدنى اعتدادًا ويشجعنى على الاستمرار، كانوا سعداء بى وأنا سعيد بهم، بإحساسهم الفطرى، فكل منا بداخله ناقد وفنان يكسوه بعض الغبار فى حاجة للنفضب.
توالت بعد ذلك أعماله القصصية والروائية؛ ارحمة والخروج من الخيمة، العنف السرى، اشفاه من الملح، االخروج من بئر العطش، اعفاريت الملك سليمان، اصباح الديك الحزين، اموت مبكر جدًاب، االلعب فى الحلقة، ازفة مصرية، اسقوط مدينة معلهش، اهمس القلوب.بالإضافة إلى مسرحية ابطاقة عائلية، وعدد من الكتب السياسية مثل اإسرائيل من الشتات إلى الاستعمار، االإسلام بين الشيعة والقاديانيةب، ابابا الفاتيكان وحديث الساعة، اصعود وسقوط الإمبراطورية الأمريكية، اهواجس ومخاوف لدى المسلمين والنصارى منذ الحملات الصليبية وحتى ثورة يناير 2011 وايوسف على خزائن مصرب. وعن تلك المؤلفات يقول: االمرحلة التى أشعر فيها أننى لا أملك القدرة على التعبير عن همومى الأدبية أو أجد نوعًا من القحط الأدبى، أتجه إلى ثقافتى وقراءاتى عن المجتمع والفكر، وأمارس الكتابة الفكرية، حتى أسترد من جديد أحاسيسى الإنسانية وأعود لكتابة الرواية والقصة. لا أترك نفسى للفراغ، وإنما أشغلها بعيدًا عن المجال الفنى والأدبى بالكتابة فى الفكر حتى تواتينى فرصة أخرى للكتابة فى أى عمل من الإبداع القصصى أو الشعرى أو المسرحى أو الروائى، أجمع بين كتابة الفن والأدب والكتابة الفكرية، لأننى مهموم دائمًا، أنام وأصحو بالفكر.
إبداع الحرية واتحاد الكتاب
أثناء استكماله لكتاباته وإبداعه، لم ينس الجمل حلم دار النشر ومؤازرة الشباب ممن لا يستطيعون اتخاذ خطوات فى سبيل الإعلان عن أنفسهم، فأسس بعد فترة من ابتعاده عن اأدب الجماهيرب سلسلة أخرى سمَّاها اإبداع الحريةب، نشر فيها أكثر من 60 عنوانًا بين القصة القصيرة والرواية والشعر والمسرح والنقد، ويتذكر كل عمل منهما بتفاصيله كأنه يخصه، إذ سافر فى سبيل البحث عن هؤلاء الشباب إلى مختلف القرى والمراكز والمدن؛ فيذكر من كفر الزيات روايتى امواقف الصباب وامشمش الرابع عشرب لمحمود عرفات الحاصل على جائزة الدولة التشجيعية، بالإضافة إلى على الفقى والحسينى عبد العاطى وشكرى رمضان ومحمد عزيز وفاروق الشيخ وغيرهم، ومن كفر الشيخ أحمد ماضى، ومن طنطا على عبيد ومحمد عبد السميع، ومن بلقاس حنان فتحى وفيصل عبده، ومن أسوان هيام عبد الهادى ومحمد حسنى يوسف، يقول الجمل: اكنتُ أذهب لمن يريدون النشر ولا يستطيعون، ومن يكتبون ولم يصلوا بعد لدرجة الجهر بكتاباتهم، يطلعوننى عليها على استحياء، وحين أجد بها النبض وبذرة الفن أقوم بتنقيحها ونشرها. كنتُ أسهر على مراجعة أعمالهم والذهاب بها إلى المطبعة ومراجعة البروفات والاهتمام بإخراج الأغلفة حتى حصل هؤلاء جميعهم على عضوية اتحاد الكتاب، وحصل بعضهم على جوائز، شعرتُ كأننى من فزتُ.
الغريب فى الأمر؛ أنه رغم حصول جميع من ساعدهم على عضوية اتحاد الكتاب، لكن عبدالفتاح عبدالرحمن الجمل ليس عضوًا به حتى الآن، بالرغم من تكريمه فى مؤتمرات وفوزه بجوائز. حين سألته أجابنى كما يجيب من يسألونه دائمًا، أو بالأحرى تساءل هو الآخر: اماذا سيضيف لى اتحاد الكتاب؟ هل سيعلمنى الكتابة؟ لقد علّمتُ نفسى باجتهاد ذاتى حتى صِرتُ ما أنا عليه، كما أننى أنأى عن الشللية حتى لا أكون مواليًا لأحد. أنا فى حد ذاتى اتحاد كتاب متواضع، ومن وجهة نظرى الضيقة؛ أرى أن اتحاد الكتاب سيستنزفنى ويجعلنى أتبع المجاميع وأفقد إبداعى، فأى مجهود آخر بخلاف أن أنكب على الورقة والقلم لأكتب سيشتتنى. أنا هكذا أتوحد مع ذاتى وقلمىب.
حاول قدر ما يستطيع أن يحفظ طاقته وصحته من أجل القراءة والكتابة، لكن القدر لم يتخل عن عادته فى مفاجأته بالصعوبات والعراقيل، والتى تمثلت هذه المرة فى ثقب أصاب شبكية عينه اليسرى، ومنعه من القراءة منذ ست سنوات. حدث ذلك وهو يُخرِج أعمال دستويفسكى لقراءتها، ففوجئ بالسطور سوداء وكأنها امشطوبة، فتوجه الجمل إلى الهيئة العامة للتأمينات لتلقى العلاج، وخضع لعمليتى حقن فى العين، لكن الثقب يحتاج إلى عملية خارج مصر بتكلفة كبيرة، تقدر بحوالى 50 ألف جنيه أسترليني، لتزداد عزلته التى اختارها طواعية قبل ذلك، إذ يقول: الا أكذبك القول؛ شعرتُ فى السنوات الأخيرة قبل أن تصاب شبكة عينى بثقب، أن الحلقة الثقافية فى مصر توزعت بين االشلليةب من ناحية، والتناحر على مسائل بعيدة عن الأدب والثقافة من ناحية أخرى، فالأدباء ليسوا خلصاء لبعضهم، متشرذمون، وغير متواضعين، يحبون المجاملة ولا يقبلون النقد البنّاء. شغلتهم الأطماع لا الكلمة. وأنا بطبيعتى أحن إلى العزلة الفنية، لأن هذا التشرذم والتشتت من شأنه أن يضيعنى، فصِرتُ أحاول الابتعاد حتى أستطيع الكتابة، ظللتُ أكتب لأكثر من ست سنوات وأنا بعيد تمامًا عن الوسط الأدبى، لا أعرف ماذا يُنشر عنى أو عن الآخرين. أواصل الليل بالنهار فى الكتابة، كان النوم يأتينى لكن فيوضات الإبداع تجعلنى أطرده. فكما قال عمر الخيام (وما أطال النوم عمرًا وما قصرت الأعمار طولًا). كنت أقول لنفسى: غدًا تنام كثيرًا، فلتجلس وتكتب. أستمر هكذا حتى مطلع الفجر أو شروق الشمس. كتبتُ فى ذلك الوقت حوالى أربع روايات، فضلًا عن أعمال فكرية واجتماعية أخرى.
مقترح
تضامن الجمل فى الستينيات مع الكاتب محمد حافظ رجب عندما أطلق شعار انحن جيل بلا أساتذة لأنه كما يقول: الم يأخذ بيدنا أحد، ولم يربت على أكتافنا أى من المثقفين الكبارب.
ولأنه عانى كثيرًا فى حياته من أجل الحصول على الثقافة التى كان ينشدها، ويلمس حاليًا قدرًا كبيرًا من التردى فى الحياة الثقافية والحالة القرائية العامة، فيناشد المسئولين بمقترح قائلًا: اليكن على كل بطاقة تموين كتاب، ومثلما تدعم الحكومة الأرز والسكر والزيت عليها أن تدعم الكتاب وتضيف واحدًا على كل بطاقة بسعر بسيط، ليقرأ الناس كما يأكلون. هذا أمر يسير على الدولة، سيساعد الكتب على الانتشار وينعش الحركة الأدبية، لأن التقدم ليس مبنيًا على الاقتصاد والمبانى فقط، وإنما بناء الإنسان. الثقافة هى قاطرة الحضارة التى تجر وراءها تنمية الاقتصاد والزراعة والتطور العلمى والتكنولوجى، وهى قبل العلم، لأنها تكتشف وتحرك الوجدان، وتبعث على التفكير والابتكار.
يأمل الجمل أن يساهم ذلك فى تحريك الركود الثقافى بالمجتمع وعودة الناس إلى القراءة، ويراهن على ذلك، بقوله: احين أجاهد نفسى للكتابة، وهو أمر شاق علىّ حاليًا، يقول لى من حولى امن يقرأ الآن لتجهد نفسك هكذا؟. لايهمنى من يقرأ الآن، سوف تأتى أجيال والأيام دوارة، هل أتوقف عن الكتابة لانه أحد يقرأ اليوم؟ أنا أكتب للمستقبلب.
من مواسم العصافير إلى أجنحة الربيع
قبل الختام مع روايته الأخيرة أجنحة الربيع الصادرة مطلع هذا العام عن الهيئة العامة للكتاب؛ لابد أن أعود إلى نقطة البداية، مستهل رحلتى مع عبدالفتاح عبدالرحمن الجمل، التى قادنى إليها بحثى فى سيرة الراعى الصالح عبد الفتاح الجمل، وذلك التشابه فى الاسم الذى يقف أمامه الكثيرون فى حيرة، وتسبب لكليهما فى مواقف كثيرة، بل ومشاكل أحيانًا.
التقى الجملان للمرة الأولى والأخيرة عام 1969 بدار أخبار اليوم، قبيل صدور الرواية الأولى لعبدالفتاح عبدالرحمن الجمل اأحلام ترانزستور، وحينها قابله عبد الفتاح الجمل بانفعال وجهامة قائلًا ايخرب بيت شيطانك، كنت هتودينى فى داهيةب. تألم عبدالرحمن الجمل لذلك الاستقبال الجاف وغير المبرر بالنسبة له، إلا أنه صاحب امحِبب كانت لديه أسبابه، وملخصها هو القصة الأولى لعبدالفتاح عبدالرحمن الجمل التى نُشرت فى مجلة اصباح الخيرب تحت عنوان ارجل واحد ينازع البقاءب عقب النكسة، وتم توقيعها آنذاك باسم عبد الفتاح الجمل بعد حذف عبد الرحمن، فتسببت فى مشكلة لابن دمياط مع الاتحاد الاشتراكى الذى يتبعه بحكم عمله صحفيًا.
ما لم يكن يعرفه عبد الفتاح الجمل أن صاحب اأحلام ترانزستورب اتخذ موقفًا فور نشر قصته بالاسم الخاطئ، إذ يقول: ابعد النشر قلقتُ من أن يسبب ذلك التباسًا للبعض، فكتبتُ بسرعة لصلاح جاهين أن نشر القصة أسعدنى، لكن ما يسعدنى بشكل أكبر أن يحمل كل عمل من أعمالى اسمى، وأنا اسمى عبدالفتاح عبدالرحمن الجمل لا عبد الفتاح الجمل، أرجو التنويه، فوجدتُ جاهين يرد علىّ فى عموده بالمجلة تحت عنوان اعبدالفتاح عبدالرحمن الجمل.. زعلان ليه؟!ب، مشيرًا إلى أن ما حدث خطأ طباعة، وأنه مع دخولنا إلى عالم الصحافة الحديثة سوف نتلافى هذه الأخطاء، وأنهى مقاله قائلًا اأنا أنوه وأقول للقراء الأعزاء أن القصة التى نُشرت فى العدد المذكور بقلم عبدالفتاح عبدالرحمن الجملب، فحمدتُ الله وتمنيتُ أن يراها عبد الفتاح الجملب.
كانت تلك ذ كما ذكرت ذالتجربة الوحيدة لهما سويًا، لكنها لم تكن الأخيرة لتشابه اسميهما، ففى أواخر التسعينيات أعلنت الهيئة العامة لقصور الثقافة عن نشر عمل بعنوان امواسم العصافيرب لعبد الفتاح الجمل. تتبعتُ أثره فلم أجد كتابًا يحمل هذا الاسم، إلى أن أخبرنى عبدالفتاح عبدالرحمن الجمل بأن تلك روايته التى نُشِرت مرتين باسمين مختلفين، أخرهما اأجنحة الربيعب قبل شهور.
يسرد الجمل رحلة روايته خلال ما يزيد على عشرين عامًا، قائلًا: اكتبتها منذ أكثر من 25 سنة، ورغم إجازتها من قِبل أكثر من لجنة لم تُنشَر، ففكرتُ أخيرًا بعد تولى د.أحمد مجاهد رئاسة الهيئة العامة للكتاب، أن أقدّم الرواية مرة أخرى بعنوان اأجنحة الربيعب، وقد صدرت قبل شهور. لكنى حين دفعتُ بها للنشر أول مرة فى التسعينيات بالهيئة العامة لقصور الثقافة، كان عنوانها امواسم العصافيرب، قبل أزمة الروايات الثلاثة، أجازتها لجنة القراءة ووصلت للمطبعة، ونُشر عنها تنويه ضمن الأعداد القادمة. انتظرتُ نشرها لكن ذلك لم يحدث. مرت الأيام وقررتُ نشرها ضمن سلسلة اإبداع الحريةب فى نسخ معدودة، حوالى 200 نسخة، بعنوان اساعات الانفجارب عام 2004، ووزعتها على الأصدقاء لكى لا تُسرق، لأن الكثير من قصصى سُرقت قبل ذلك.
تعّد أجنحة الربيع شبه سيرة ذاتية لعبدالفتاح عبدالرحمن الجمل، ويمكن القول بثقة إنه بطلها امنيرب، إذ يتطابق ما لا يقل عن 70% من الأحداث مع حياته فى الواقع، ويؤكد ذلك كلمات الجمل فى وصفه لها: الا أكتب من برج عاجى، وإنما أكتب وأنا منغمس فى الشارع وملتحم بواقعى مع الناس، وقد كتبتُ اأجنحة الربيعب أمام الغيطان فى الشرقية نتيجة تجربة حياتية، إذ تزوجت من أخرى هناك بعد وفاة زوجتى، هى رئيفة بالرواية. وقد ذهبتُ من أجل تلك الرواية إلى طبرق بليبيا وإلى السلوم، لكى أعرف كيف يجلس الناس هناك وكيف يتعاملون مع البنات.
المصدر : أخبار الادب