إنها مصر

عبدالحليم حافظ والثورة

كرم جبر
كرم جبر

كان عبدالحليم زعيماً لأغانى ثورة 23 يوليو، ورسم صوتها على الشفاه، وزوّد الجماهير المشتاقة للحرية بالحماس والأمل، وأهم مزايا ثورة يوليو أنها وضعت الفن فى مكانة عالية، فرفعتها الفنون فى قلوب الجماهير، فلماذا جفت الكلمات فى الأفواه، ولم نعد نغنى لثوراتنا واحتفالاتنا الكبرى؟
من أجمل أغانى عبدالحليم حافظ «وصحيت على ثورة، بترج الدنيا، ولقيت أوطانى حكمها فى إديا، وجمال قدامى بينادى عليا»، وعندما تغنى الشعوب لثوراتها، يسمو الفن بالمشاعر الحماسية، ويخفف حدة الاحتقان، ويضمد جراح الضحايا، فالفن هو البوابة التى يعبر منها الحدث إلى القلوب.
غنى عبدالحليم حافظ للسد العالى، وأبدع فنانو مصر فى الاحتفاء بمناسباتهم الوطنية، أم كلثوم وعبدالوهاب ومحمد قنديل وغيرهم، وكان حفل أضواء المدينة فى احتفالات الثورة مولداً جديداً لفنانين وأغنيات مازالت رابضة فى الوجدان، واعتاد الموسيقار محمد عبدالوهاب أن يقدم ملحمة وطنية كل عام، يشدو فيها كبار نجوم الفن المصريين والعرب.
لم يكن الغناء ملهاة، ولم تكن الكلمات الوطنية للتسلية، ولكنها ملأت الفراغ الوجدانى لأجيال بأكملها، وعلمتهم حب العلم والنشيد والأرض والسماء والمياه، وشيدت بينهم وبين قوى الشر جداراً عازلاً، واختفى المشككون فى حب الأوطان، وكلما ارتفعت المشاعر الوطنية، انحسرت فى مواجهتها دعاوى الطائفية والتشرذم والتطرف، وهكذا عاشت مصر أياماً حلوة من عام 1952 حتى 1967.
ويتبقى من ثورة يوليو، الشدو القادم من أعماق الذكرى، فمازلنا نشعر بالحنين لأغانى الثورة.. ليس مهماً أن نستدعيها فى أيام الذكرى، ولكن أن نتذكر أننا شعب كان يتوج أفراحه بالغناء، ونجوم عاشوا فى زمن الإبداع.
   
شهدت مصر منذ سنوات قليلة أحداثاً تحتاج قروناً، وتغيرت الأمزجة وتعددت الولاءات، وتجمع الحصاد المر فى أحداث 25 يناير، حيث قفزت جماعة الشر فوق المشاعر الوطنية، واختارت لها علماً غير العلم ونشيداً غير النشيد، واختلطت الدفوف الصاخبة بالإيقاعات الحالمة.. وظهر بيننا من يدعى أن حب الأوطان ضد الأديان، ومن يصوب رصاص الغدر فى صدر أخيه المصرى المسلم والمسيحى، ومن يقتل صائماً، ويحرق مسجداً وكنيسة.
واستدعت قوى الشر مخزون الوقيعة، لتفتيت الكتلة الصلبة على أساس دينى وطائفى، دون أن يدركوا أن مصر ليست قبائل تتنازع على آبار المياه فى الصحراء، ولكنها نيل عظيم يفيض خيراً فى المشاعر والوجدان، ولا يمكن لرياح الصحراء الساخنة أن تقهر نسائم الأرض الطيبة.