للعام الثانى وبسبب جائحة كورونا

رسوم الحج على جدران البيوت.. فنٌ مؤجل

رسم لمحمد المالك من القرنة فوق جدران مصنع الباستر
رسم لمحمد المالك من القرنة فوق جدران مصنع الباستر

فاطمة على

للعام الثانى اختفت مظاهر فرحة استقبال الحجاج العائدين من موسم الحج، من على جدران البيوت الريفية فى مصر، التى كانت تتجلى فى العديد من الرسومات المتوارثة جيلاً بعد جيل وتحمل عبارات تدعو لمن أتم الفريضة بالحج المبرور والذنب المغفور. رسوم الحج على الجدران فن شعبى فطرى تميز به أهل الريف فى الصعيد والوجه البحري، وقت توقفت هذه العادة بسبب جائحة فيروس كورونا التى تسببت فى توقف الحج منذ عامين.
 

وكانت الرسوم والكلمات المرافقة لها تبتهل بالدعاء للحجاج العائدين بالحج المبرور إلى جانب رسم وسيلة السفر القديمة التى مر عليها سنوات طوال وهى جمال الصحراء، وبسبب "كوفيد-19" توقف حج هذا العام مثل العام السابق، بالتالى لم يعد هناك عائدون من موسم الحج، وتوقف سوق عمل الرسامين الفطريين الشعبيين فى الريف المصرى ولم يعد هناك رسم على جدران بيوت الحجاج، وتوقفت الجدران عن الدعاء للعائدين بالحج المبرور والذنب المغفور، واختفت بهجة القرى والنجوع حيث كانت تقام أفراح لاستقبال حجاج بيت الله الحرام العائدين بعد أداء فريضة الحج.  


وتعد رسوم الحج وجدارياته من أبرز العادات التى يحرص عليها الحجاج المصريون ويبدع فيها الفنانون الشعبيون فى رسم رحلة الحج، بدءاً من وداع الحاج لأهله مروراً باستقلاله الطائرة أو الباخرة وطوافه حول الكعبة المشرفة ووقوفه بجبل عرفة وزيارة المدينة المنورة كوسيله لتوثيق وإشهار رحلة الحاج فوق جدران بيته ليعيش على عطر ذكراها.


وهذه المظاهر كانت تنتعش فى مثل هذا الوقت من كل عام، حيث تتهيأ جدران البيوت المبنى أغلبها بالطوب اللبن فى قرى الريف لتروى بالألوان والرسومات البراقة الفياضة بالمشاعر قصصا بصرية لوسائل ذهاب وعودة الحجاج بالسفن والطائرات.
ورغم توقف السفر بالجمال، فإن الجمل له النصيب الأوفر والمتميز فوق جدار بيت الحاج العائد.. أيضا يرسم الفنانون الشعبيون فوق الجدران الحاج بملابس الإحرام ليكون البيت وجدرانه فى استقباله حين عودته.
هذه الرسوم المفعمة بالمشاعر والتلقائية وبهجة اللون وتناسق التكوين والالتحام المتوازن بين الكلمات والرسومات يرسمها فنانون غير دارسين، شعبيون فطريون بطبيعتهم التلقائية من دون الاعتماد على قواعد الرسم من منظور أو ظل ونور أو توازنات محسوبة للون، لكنها تأتى بديعة المحتوى على المستويين الروحى والفني.
وبالتأكيد، من بين هؤلاء الرسامين كثيرون لم يحجوا إلى بيت الله، وتتوق أنفسهم للزيارة، لذلك يرسمون ويكتبون وكلهم عاطفة شديدة وشوق لأداء الفريضة، وكلما مروا إلى جوار جدران رسوماتهم يظل حياً لديهم حلم الزيارة الذى يجعلونه برسوماتهم ماثلاً أمام أعينهم بألوانهم التلقائية الجميلة المعبرة عن الفرحة وعما يتمنونه للجميع ولأنفسهم بأداء الفريضة بالحج المبرور والسعى المشكور والذنب المغفور.
وأغلب الرسومات يُصوِّر ويُسجِّل مسار رحلة الحج منذ أن كانت تنطلق بالجمال ثم الباخرة والقطار والطائرة، وهناك رسومات أخرى تشمل بعض الشعائر من الطواف حول الكعبة الشريفة والسعى والصلاة والالتفاف حول مقام إبراهيم مصحوبة بالتلبية "لبيك اللهم لبيك"، وكأن بيوت الحجاج أصبحت هى نفسها تنبض شوقاً لهذه الروحانية باحتضانها للحاج العائد من رحلة التطهر والمغفرة بالدعوات.
وبهذا الطقس الفنى الجميل يجعل الفنان التلقائى جدران بيوتنا الريفية والصحراوية مؤرخة وموثقة لهذه الرحلة الروحانية التى قام بها صاحب البيت أو أحد ساكنيه، حيث يُذكر اسم الحاج على الجدار، وما أداه من شعائر ليعود مغفورا له بإذن الله كيوم ولدته أمه.
وعلى قدر بساطة هذه الرسوم وتلقائيتها، فإنها ذات قيمة فنية كبيرة، وقد سبق لمركز دراسات الفنون الشعبية أن قام بتسجيل هذه الجداريات، كما أنها تحتوى على أكثر من بُعدٍ اجتماعى يميز طبقات ريفية أو شعبية كاشفة عن حالة تواصل وحب فى هذه البيئات تُظهر أجمل ما فيها من حب وتكاتف فى هذه الاحتفاليات الدينية التى تبدأ من أهل الحاج بتكليف رسام القرية بتنفيذ هذا العمل الفني. وهذه الاحتفاليات أيضاً تكشف عمق البُعد الروحانى المتجذِّر داخل الإنسان المصري، والمُعبِّر عمّا بداخله من شوق دافق لهذه الفريضة المقدَّسة.