أخر الأخبار

يوميات الأخبار

أين كانوا عندما قامت ثورة يوليو؟

يوسف القعيد
يوسف القعيد

عندما كنت أعد كتابى مع الأستاذ هيكل: عبد الناصر والمثقفون والثقافة. قمت بعمل حصر لحال المثقفين عندما قامت الثورة. وكانت تلك حصيلة ما قمت به.

إحسان عبد القدوس فى الثالثة والثلاثين، رئيس تحرير مجلة روزاليوسف. وأحمد بهاء الدين فى الخامسة والعشرين، وأحمد حمروش فى الحادية والثلاثين، وكان فى القوات المسلحة التى انتقل منها للصحافة. وأمينة السعيد كانت فى الثامنة والثلاثين، وكانت كاتبة صحفية فى مجلة آخر ساعة، وجمال حمدان فى الرابعة والعشرين، وكان مبعوثاً للحصول على الدكتوراه من جامعة ريدنج فى بريطانيا، فى فلسفة الجغرافيا.

حسن فتحى أستاذ فى كلية الفنون الجميلة. وزكى نجيب محمود فى السابعة والأربعين، أستاذاً زائراً فى الجامعات الأمريكية. وسهير القلماوى كانت فى الحادية والأربعين، أستاذ الأدب العربى بكلية الآداب بجامعة القاهرة.

سيد عويس فى التاسعة والثلاثين، وكان يعمل مفتشاً اجتماعياً بوزارة الشئون الاجتماعية. وعائشة عبد الرحمن فى التاسعة والثلاثين، وكانت أستاذة جامعية. وعلى الراعى فى الثانية والثلاثين، يعمل مدرساً بقسم اللغة الإنجليزية بآداب عين شمس. وفاتن حمامة فى الحادية والعشرين وكانت فنانة معروفة. وفتحى غانم فى الثامنة والعشرين، يعمل نائب رئيس تحرير مجلة آخر ساعة. محمد عبد الوهاب فى الثانية والأربعين، وكان مطرباً وممثلاً معروفاً، ومصطفى النحاس فى الثالثة والسبعين وكان خارج الحكم.

ليلى مراد فى الرابعة والثلاثين، مطربة وممثلة معروفة. وسعد الدين وهبة فى السابعة والثلاثين، يعمل ضابط شرطة ثم أصبح رئيساً لتحرير مجلة البوليس ثم الشهر. توفيق الحكيم فى الخمسين من عمره، يعمل فى دار الكتب. وعباس محمود العقاد فى الثالثة والستين، وكان كاتباً معروفاً. وأحمد لطفى السيد فى السبعين.

ونجيب محفوظ فى الحادية والأربعين، يعمل سكرتيراً برلمانياً لوزير الأوقاف. ثم مديراً لمكتب رئيس مصلحة الفنون التى أنشأتها الثورة. ويحيى حقى فى السابعة والأربعين، وكان وزيراً مفوضاً فى ليبيا، ثم رئيساً لمصلحة الفنون. ويوسف إدريس فى الخامسة والعشرين، طبيب بدأ النشر قبل الثورة بعامين. وعبد الحليم حافظ فى الثالثة والعشرين. عمل مدرساً للموسيقى، واعتُمِدَ مُطرباً فى الإذاعة.

قال لى الأستاذ محمد حسنين هيكل إن ثورة يوليو كانت مفاجأة من العيار الثقيل. لم يخطر على ذهنى أن يقوم الجيش المصرى بثورة تطيح بالحكم الملكى عام 1952، وذلك على الرغم من أن سهرات مقهى عرابى بالعباسية قبيل الثورة كانت تضم عدداً من الضباط الأحرار. منهم عبد اللطيف البغدادى وجمال سالم. كانا يجلسان طويلاً. ومع ذلك لم يشعر أحد بالتحركات التى تتم داخل الجيش. أو أن هناك تخطيطاً للثورة. وكان عبد الحكيم عامر يرتاد المقهى أحياناً. الذى ذهب إلى المقهى وجلس فيه فى انتظار صديقه جمال عبد الناصر.

جاءه عبد الناصر إلى المقهى وجلس معه عدة مرات. وكان من الضباط الأحرار أيضاً سعد حمزة، الذى كان يحضر سهرة الخميس.

شهادة نجيب محفوظ

أما عن يوم الثورة، فقد حكى نجيب محفوظ:
- صباح يوم الثورة خرجت من بيتى متوجهاً إلى عملى فى وزارة الأوقاف. ولفت نظرى أن خطوط الترام متوقفة عن العمل على غير عادتها. فسألت بائع الصحف عن ذلك فأخبرنى أن الجيش عمل إضراباً فى العباسية. وتوقعت وجود حركة تمرد فى صفوف الجيش احتجاجاً على تدخل الملك فاروق فى انتخابات نادى الضباط. وأن أنصار اللواء محمد نجيب الذى نجح فى الانتخابات ضد مرشح الملك اللواء حسين سرى عامر. قاموا بهذا الإضراب للتعبير عن احتجاجهم لا أكثر.

وأثناء مرورى فى شارع الشريفين. حيث مبنى الإذاعة القديم. لفت نظرى كذلك وجود دبابة تقف فى مواجهته. ولما وصلت إلى مبنى وزارة الأوقاف توجهت إلى مكتب سكرتارية الوزير وفور دخولى بادرنى عبد السلام فهمى بسؤال عما إذا كنت سمعت الإذاعة اليوم. ولما أجبت بالنفى أخبرنى بأن الجيش قام بعمل ثورة. وأنه أذاع بياناً. وحكى لى عن التفاصيل. فلم أزد أن قلت له:
- يا خبر إسود.

ويكمل نجيب محفوظ حكاياته:
- فقد تداعت إلى ذهنى فى تلك اللحظة أحداث الثورة العرابية. وكان لدىَّ ظن أكيد بأننى فى أثناء عودتى إلى البيت بعد انتهاء موعد العمل سأجد الجيش البريطانى فى شوارع القاهرة. بعد أن يكون قد قضى على الانقلاب العسكرى وقادته. وانتابتنى حالة من القلق الشديد على مصير البلد.
كنت قبل قيام الثورة أستبعد قيامها.

وكانت لدىَّ أسبابى. أهمها أن الجيش المصرى كان على ولاء كامل وقتها للملك فاروق. أو هكذا كنت أظن. وأنه بعيد عن السياسة. ولم يحاول التدخل فيها منذ فشل ثورة عرابى. خاصة مع وجود 90 ألف جندى بريطانى مزودين بأحدث الأسلحة فى منطقة القناة. وكنت على يقين فى الوقت نفسه من وجود عناصر وطنية فى صفوف الجيش. ومنه من تعرض للأذى بسبب تأييده لحزب الوفد. ولكنى لم أتوقع أن تقوم تلك العناصر بثورة.

فى الفترة الأولى من عمر الثورة كانت مشاعرى تنقسم بين الخوف على استقلال مصر وبين الارتياب فى الذين قاموا بها. مع مرور الأيام بدأت مشاعرى تتغير بعدما وجدت أنها تسعى لتحقيق عدد من الآمال التى طالما حلمنا بها. وتمنينا تحقيقها. مثل الإصلاح الزراعى والاستقلال التام وإلغاء الألقاب. وكان كل قرار من قرارات الثورة الإصلاحية يقربنى لها ويملأنى حباً فيها يوماً بعد يوم.

ويكمل نجيب محفوظ:
- وقد لعب محمد نجيب دوراً كبيراً فى تقريب الناس من الثورة والتفاف الناس حولها بما يملكه من شخصية بسيطة ساحرة، تحمل فى طياتها نفس الطابع الشعبى الذى ميز شخصية مصطفى النحاس. ففى اللحظة الأولى التى تراه فيها تشعر فيه بالزعامة. وذلك عكس جمال عبد الناصر الذى كان وجهه المتجهم لا يوحى لك بزعامته. ولكنك لا بد أن تتغاضى عن هذا التجهم عندما ترى أعماله وقراراته وتصرفاته العظيمة.

ويكمل نجيب محفوظ:
- كانت علاقتى الوجدانية بالثورة تنقسم بين التأييد والحب من جهة. والنقد الشديد بسبب تجاهلها للديمقراطية والوفد. وميلها إلى الفردية والصراع على السلطة من جهة أخرى. ولم أتغاض عن هذه الانتقادات من جانبى للثورة إلا فى فترة محددة. وهى فترة العدوان الثلاثى على مصر. فقد أيدت الثورة تأييداً مطلقاً. ونسيت وفديتى وتجاهلت نقدى لأساليبها الفردية. وأغمضت عينى عن صراعات الحكم. نسيت كل شئ. وذهبت إلى أحد المعسكرات الشعبية التى أقامتها الثورة فى مناطق القاهرة لتدريب المتطوعين على حمل السلاح لمقاومة العدوان. تدربت بجدية حتى أتقنت استعمال البندقية البلجيكى وإلقاء القنابل اليدوية.

جنازة عبد الناصر
وفى جزء آخر من كلامى معه يحكى نجيب محفوظ عن جنازة جمال عبد الناصر كأنها جرت بالأمس القريب. يقول:
- فى ذلك اليوم كنت عائداً من الإسكندرية مع أسرتى. وفور انتهائنا من تناول طعام العشاء جلست لمشاهدة التليفزيون. وقبل أن أدخل الفراش لاحظت أن القناة الأولى تبث تلاوة قرآنية فى غير موعدها. فأدرت المؤشر إلى القناة الثانية. فوجدت أيضاً تلاوة قرآنية وبدأ الشك يتسلل إلى نفسى. ووردت إلى ذهنى خواطر كثيرة. قلت لزوجتى بأننى أشعر أن تلاوة القرآن المتكررة فى التليفزيون وفى هذا الوقت من الليل وراءها شئ ما.

ويكمل محفوظ:
- ولما استوضحتنى زوجتى. قلت لها أظن أن الفلسطينيين قتلوا الملك حسين. كان ظنى مبنياً على أساس الموقف المتفجر. بين الملك حسين والفلسطينيين بعد مذابح سبتمبر أو ما سمى أيلول الأسود. ولما طالت التلاوة القرآنية. اتصلت بجريدة الأهرام. عسى أن أجد من يزودنى بمعلومات عما يجرى. لكن باءت محاولتى بالفشل. ويبدو أن من سألتهم تهربوا منى. فلم أجد بداً من الجلوس من جديد أمام شاشة التليفزيون.
لكن كان لدينا فى ذلك الوقت خادم فى البيت أرسلناه لشراء بعض الحاجيات. فلما عاد من السوق قال لى:
- الريس مات. وأنه سمعهم فى الخارج يقولون هذا. أصابنى الذهول والاستنكار. وطلبت من الخادم عدم تكرار مثل هذا الكلام أمام أى شخص.

ويكمل نجيب محفوظ:
- وفى صباح اليوم التالى اتصل بى الأستاذ محمد حسنين هيكل بنفسه. طلب منى أن أكتب كلمة رثاء فى عبد الناصر. وفى تلك الفترة كانت كتابتى فى جريدة الأهرام لا تزيد على كتاباتى الأدبية. ولكنى كتبت ما طلبه. وذهبت إلى الأهرام وسلمت الكلمة التى لم تكن رثاءً خالصاً.
نُشرت هذه الكلمة بعد وفاة عبد الناصر بأربعة أيام. وكان عنوانها: كلمات من السماء. وجاءت على شكل حوار بين الكاتب وبين جمال عبد الناصر. وهذا هو نصها:
- حياك الله يا أكرم زاهد.
- حياكم الله وهداكم.
- إنى أحنى رأسى حباً وإجلالاً.
- تحية متقبلة ولكن لا تنس ما سبق من قولى: إرفع رأسك يا أخى.
- نحن من الحزن فى ذهول شامل.
- لا يحق الذهول لمن تحدق به الأخطار وتنتظره عظائم الأمور.
- يعزينا بعض الشئ أنك إلى جنة الخلد تمضى.
- وسيسعدنى أكثر أن تجعلوا من دنياكم جنة.
- إن عشرات التماثيل لم تجعلك فى خلود الذكرى. وهذه العبارة معناها أن عشرات التماثيل لن تفى بحقك فى خلود ذكرك.
- لا تنسوا تمثالين أقمتهما بيدى وهما الميثاق وبيان 30 مارس.
- وراءك فراغ لن يملأه فرد.
- ولكن يملأه الشعب الذى حررته.
- سيبقى ذووك فى صميم الأفئدة.
- أبنائى هم الفلاحون والعمال والفقراء.
- وجدت قرة عينى فى توديع الكرة الأرضية لك.
- أما قرة عينى ففى استقلال الوطن العربى والحل العادل لأرضه الشهيدة.
- سيكون أحب الطرق إلى نفسى الطريق إلى مسجدك.
- طريق الحق هو الطريق إلى العلم والاشتراكية.
- نستودعك الله يا أكرم من ذهب.
- كلنا ماضون ومصر هى الباقية.