نيكسون تنبأ بفقدان السيادة الأمريكية قبل نصف قرن

الولايات المتحدة على صفيح ساخن

أعمال الشغب والعنف والتعدى على الكونجرس
أعمال الشغب والعنف والتعدى على الكونجرس

دينا توفيق

لقد مرت الولايات المتحدة بأوقات عصيبة من قبل، وستبقى فى الذاكرة حية. فى مثل هذه الأيام قبل خمسين عامًا، تحدث الرئيس الأمريكى "ريتشارد نيكسون" بصراحة عن الركود الذى حل بالبلاد فى خطاب لم يلق اهتمامًا كافيًا آنذاك من وسائل الإعلام أو المؤرخين. وفى 6 يوليو 1971، خاطب الرئيس السابع والثلاثون كبار المسؤولين التنفيذيين لوسائل الإعلام، وسط الاضطرابات العرقية والطلابية والاحتجاجات المناهضة للحرب، بعد أن ذكّرته أعمدة مبنى الأرشيف الوطنى فى واشنطن بالإمبراطوريات القديمة التى سقطت.

وحينها رثى نيكسون حال البلاد قائلًا "أفكر فيما حدث لليونان وروما، ما تبقى سوى الأعمدة فقط؛ ما حدث لها هو أن الحضارات العظيمة فى الماضي، بعد أن أصبحت غنية، فقدت إرادتها فى العيش والتحسن وأصبحت بعد ذلك عرضة للانحطاط الذى يقضى فى النهاية على حضارتها، وهذا ما تصل إليه البلاد الآن". وأضاف: "لم تعد البلاد فى موقع التفوق الكامل أو الهيمنة، لأنها تواجه وضعًا تظهر فيه قوى أخرى، وهنا دعا إلى التكيف مع بيئة دولية أكثر تعددية، وتبنى سياسات من شأنها أن تمهد مسار دور الولايات المتحدة المحدود فى الشؤون الخارجية، ومنها التخلى عن رابط «بريتون وودز» بين الدولار والذهب، والانفتاح على الصين. وأثناء حديث نيكسون، كان مستشار الأمن القومى "هنرى كيسنجر" آنذاك ومهندس انفتاح الولايات المتحدة على الصين، فى طريقه سرًا إلى بكين للتخطيط لأول زيارة رئاسية للصين.

واليوم تتوحش الصين وعلى استعداد لالتهام العالم، بينما تنهض روسيا من جديد والولايات المتحدة تبدو مستهلكة مرة أخرى بسبب الانقسام الداخلي، وتتساءل صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية، هل تستطيع الإدارة الأمريكية برئاسة "جو بايدن" منع تراجع البلاد أم أن نيكسون كان سابقًا لعصره وستتحقق تنبؤاته بفقدان السيادة الأمريكية؟ رغم رحيل الرئيس السابق "دونالد ترامب" عن البيت الأبيض لا تزال الولايات المتحدة تشهد انقساما مجتمعيا يكاد يصل إلى حافة الحرب الأهلية، مواجهات بين الشرطة وجماعات مسلحة ترتدى زيًا عسكريًا ولا تعترف بالقانون فى ولاية "ماساتشوسيتس" وإلقاء القبض على 11 منهم، بعد مواجهة استمرت قرابة تسع ساعات، وفقًا لشبكة "سى إن إن" الإخبارية الأمريكية. فيما أعلنت شرطة ولاية شيكاغو عن إصابة ثلاثة من أفرادها فى حادث إطلاق نار على أحد مراكز الشرطة فى الولاية، هذا بالإضافة إلى التخبط فى إدارة أزمة وباء كوفيد-19، لكن الغضب المتصاعد داخل البلاد له جذور أعمق من ذلك.

قبل انتخابات الرئاسة الأمريكية بأكثر من خمسة أشهر، أدى مقتل المواطن الأمريكى ذى الأصول الأفريقية "جورج فلويد" فى 25 مايو 2020 إلى شهور من الاحتجاجات ضد العنصرية توفى فلويد أثناء اعتقاله بعد أن جثم ضابط شرطة مينيابوليس "ديريك شوفين" بركبته على رقبته لمدة 8 دقائق و46 ثانية، الدقائق كانت كافية لتنقلب الولايات المتحدة رأساً على عقب، ويرى العالم مشاهد لم يكن يتصور أن يرى مثلها فى أحد أكبر معاقل الديمقراطية. وفى 20 أبريل 2021، أدين الضابط شوفين بارتكاب جريمة قتل، وسيحدد القاضى المدة وما إذا كان سيتم تنفيذ الأحكام بشكل متزامن أو متتابع. هذا بالإضافة إلى أعمال شغب شاهدتها الولايات المتحدة مطلع العام مع اقتحام مبنى الكونجرس "الكابيتول هيل" الذى يعتبر صرحًا للديمقراطية الأمريكية، من قبل ميليشيات وأنصار QAnon إلى جانب مؤيدى ترامب لدعم رئيسهم فى محاولته لإلغاء نتائج الانتخابات الرئاسية، وحالة التشرذم والاحتجاجات نتيجة الصراع الدائر بين تيار اليمين والأوليجاركية، خاصة مع الكشف عن التاريخ السرى لحملة "الظل" التى انهت انتخابات الرئاسة الأمريكية 2020، بإزاحة ترامب؛ ضخامة الأحداث التى وقعت عقب حادث فلويد، أكدت على وجود احتقان داخلى كبير تراكم على مدى عقود طويلة، يغذيه يمين متطرف ونظام عدالة لا يكفى لإحداث الردع الشامل عن ارتكاب جرائم العنصرية. من قبل مقتل المواطن الأمريكى ذى الأصول الأفريقية، تفشى فيروس كوفيد-19، وفرضت الإجراءات الاحترازية لمواجهته من إغلاق تام للاقتصاد والتباعد الاجتماعى حتى وقت انتخابات الرئاسة الأمريكية، ما دفع ملايين الأمريكيين من اللجوء إلى التصويت المبكر عبر البريد السريع، والتى أدت إلى فوز الرئيس الأمريكى "جو بايدن" الذى مثّل الرأسمالية المعولمة ووراءه فى الحقيقة النخبة من عمالقة التكنولوجيا وسيليكون فالى أو الأوليجاركية التى تريد تعميم النموذج الصينى ليكون أساسًا للنظام العالمى الجديد، والإطاحة بالرأسمالية الكلاسيكية التى يمثلها ترامب الذى أراد عودة الصناعة والاستغناء عن الصين، ليستمر الصراع دائراً داخل الولايات المتحدة. ومنذ أن سكن بايدن البيت الأبيض قام بتكديس إدارته بالعديد من عناصر شركات التكنولوجيا فى "السيليكون فالي"، التى دعمته وأخفت تعاملات نجله "هانتر بايدن" مع الصين والتى كان من شأنها أن تلحق الضرر بترشيحه للرئاسة، وحصلت Big Tech على مكتب فى الجناح الغربى بجوار المكتب البيضاوي؛ وبذلك عمل بايدن جنبًا إلى جنب مع إدارة موقع التواصل الاجتماعى "فيسبوك" لدفع الأمريكيين للحصول على لقاح كوفيد-19، إلى جانب تعاون الصين من خلال عقدها لمؤتمرات إدارة الفضاء الإلكتروني، التى تقود حملة التضليل الرقمى للجائحة. تعمل الصين بشكل مكثف لاختراق الحكومات والشركات الغربية. حيث تكشف وثيقة مسربة أن أكثر من 120 عضوًا فى الحزب الشيوعى الصينى تم توظيفهم من قبل عمالقة اللقاحات "فايزر"، "أسترازينيكا"، و"جلاكسو سميث كلاين" للترويج للقاحاتهم.

فيما انتقدت المتحدثة السابقة باسم وزارة الخارجية الأمريكية، "مورجان أورتاجوس"، خلال مداخلتها مع برنامج "فوكس آند فريندز" الأمريكى الرئيس بايدن والرئيس الأسبق "باراك أوباما" لتعاملهما مع الصين؛ حيث رفض بايدن التأكيد على أنه والرئيس الصينى "شى جين بينج" صديقان قديمان. كما كانت سياستهما هى التمحور نحو آسيا وأن الصين كانت فى طريقها للنهوض وأن الولايات المتحدة ستنحدر حتمًا. لكن رفض ترامب هذه النظرية عندما تولى المنصب، وبدأ فى توجيه ضربة قوية لتهديد الحزب الشيوعى الصيني، ومحاولة استعادة الصناعات من الصين، وتطبيق سياسة أمريكا أولًا.

والآن بقيادة السيناتور الديمقراطية "إيمى كلوبوشار" عن ولاية مينيسوتا، اللجنة الفرعية لمكافحة الاحتكار فى مجلس الشيوخ، يخوض بعض من الديمقراطيين معركة لتقليص تأثير عمالقة التكنولوجيا مثل "أمازون" و"مايكروسوفت" و"جوجل" و"فيسبوك" وغيرها، من خلال إيجاد تشريع وخلق قواعد جديدة للتعامل مع التكنولوجيا الكبيرة المتطورة. انضم إلى كلوبشار فى إدانتها ليس فقط التقدميين فى مجلس النواب الذين ساعدوا فى قيادة المعركة التشريعية، ولكن أيضًا بعض من الجمهوريين الأقوياء والمحافظين. وعلى سبيل المثال، كتب عضو الكونجرس الذى أدار الحزب الجمهورى للولاية "كولورادو" خلال سنوات ترامب الأخيرة، "كين باك" تغريدة، بعد صدور حكم "فيسبوك" قائلًا إن "الكونجرس يحتاج إلى توفير أدوات وموارد إضافية لجهات إنفاذ مكافحة الاحتكار لملاحقة شركات التكنولوجيا العملاقة والانخراط فى سلوك مانع للمنافسة". عندما فاز بايدن واستعاد الديمقراطيون مجلس الشيوخ، قدمت كلوبوشار تشريعات لإصلاح قوانين مكافحة الاحتكار فى لجنتها الخاصة. وكانت اللجنة القضائية فى مجلس النواب قد أقرت خلال الشهر الماضى ستة مشاريع قوانين تهدف إلى كسر القوة التى تتمتع بها الشركات مثل جوجل وفيسبوك وأمازون وآبل. والغريب فى الأمر التغيير المفاجئ للديمقراطيين الذين لقوا الدعم الكامل من قبل هذه الشركات، حتى أن بايدن أشار إلى دعمه لمواجهة شركات التكنولوجيا العملاقة من خلال تعيين أساتذة القانون "لينا خان" التى دعت إلى تفكيك أمازون، لرئاسة لجنة التجارة الفيدرالية، و"تيم وو"، مستشارًا للبيت الأبيض، الذى يعد من أولئك الذين يعملون على أمر تنفيذى من شأنه أن يمنح سلطات أكبر لمنظمى الصناعة لتشجيع المنافسة فى قطاعاتهم. 

ومن ناحية أخرى، هاجم بعض من الديمقراطيين فى مجلس النواب مجموعة من الإجراءات التى تروج لها كلوبوشار، حيث عارضوا المقترحات التى يكمن أن تؤدى إلى تفكك شركات التكنولوجيا العملاقة. ويُظهر الخلاف مدى صعوبة سن تعديل كبير لقوانين مكافحة الاحتكار الأمريكية، حتى فى الوقت الذى يفكر فيه بايدن فى توقيع أمر تنفيذى لتقوية سلطات المنظمين لتعزيز المنافسة فى قطاعاتهم، باتخاذ إجراءات يستهدف بها شركات التكنولوجيا العملاقة والتى تزداد اتساعًا على حساب منافسيها الأصغر، وسط تشكيك فى إمكانية أن تؤثر هذه الإجراءات فعليًا مع استمرار القوانين القديمة الخاصة بمكافحة الاحتكار. وتشجيع الرئيس الأمريكى للوكالات الفيدرالية إلى اتخاذ إجراءات صارمة ضد الطريقة التى تنمو بها شركات التكنولوجيا العملاقة من خلال عمليات الدمج، وذلك كجزء من أمر تنفيذى أكبر يهدف إلى تشتيت دمج الشركات فى جميع أنحاء الاقتصاد. لذا فإن تحرك الكونجرس والإدارة الأمريكية للنظر فى مدى إمكانية تفتيت عمالقة التكنولوجيا إلى عدة شركات وكسر الاحتكار يشير إلى محاولات بايدن التغطية على مخططهم بعد الكشف عن أدوار هذه الشركات والمكاسب التى حققتها من وراء الجائحة وإجراءات الإغلاق الاقتصادى والتعتيم على الحقائق بشأن اللقاحات وموطن تفشى الفيروس.