يا لها من حياة بالغة الغني!
كتب هيكل وقال الكثير، شهد علي الكثير من الوقائع وشارك في صنع الكثير منها. وقد مر كل ما كتبه وقاله وفعله هيكل وكأنه الحقيقة. لحسن حظ الرجل وسوء حظ التاريخ لم يتعرض عطاء هيكل التاريخي للتمحيص؛ ذلك لأن المؤرخين لا يعتبرون كتابة اللحظة الحاضرة تاريخًا.
وللمصادفة البحتة كان لأهل الأدب الموقف ذاته من كتابة هيكل؛ باعتبار أن ما يمس اللحظة السياسية الساخنة ليس أدبًا. ولهذا لم تتوقف دراسات الأدب أمام نص محمد حسنين هيكل باعتباره أدبًا. تحدث الكثيرون وكتبوا عن هيكل القارئ لا الكاتب. وصفوا مكتبته أو مكتباته الضخمة، تحدثوا عن قراءاته في الأدب، عن صداقاته مع العديد من الأدباء والمفكرين المصريين والعرب والأجانب، وعن محاولاته في الشعر ربما، وعن تقديره للثقافة الذي جعله يخصص طابقًا في «الأهرام» لكبار أدباء ومفكري مصر الذين كانوا أحرارًا في تحديد مواعيد ومساحات كتاباتهم، أحرارًا حتي في عدم الكتابة. لكن هذا يتعلق بشخص هيكل دون نصه الذي ينبغي أن يُدرس بما يستحق من عناية بوصفه نصًا أدبيًا.
بين التاريخ والأدب
تحديد إقامة هيكل في الصحافة حرمنا من رؤية متأنية لهيكل المؤرخ وهيكل الأديب. وفي المقابل ثمة ضجيج وصخب ممتد يعلو إذا أصدر هيكل كتابًا أو كتب مقالاً أو أدلي بحديث، القليل مديح من التلاميذ، والكثير من الصخب والعنف ذم من أعداء يصوبون علي الهرم بالنبال!
من حسن حظ الرجل وسوء حظ الواقع أنه مثل نخلة وحيدة في حقل بوص. وقد كان مدركًا لهذه الحقيقة غير السعيدة؛ لهذا لم يحاول الرد علي مهاجميه منذ خروجه من «الأهرام» عام 1974 حتي اليوم الأخير، وفي المقابل تمر مقولات هيكل دون مناقشة، ومع الوقت استقر في الوجدان المصري والعربي أن من يهاجمون هيكل لا يهاجمونه إلا بسلطان؛ فهم إما مأمورون بالهجوم من سلطة غاضبة منه أو متطوعون بالهجوم ويأملون من وراء ذلك كسب رضا سلطة قد تكون غاضبة عليه أو يتسلقون علي النخلة العالية لمجرد أن يصبحوا مرئيين. وفي كل مرة لا ينال متسلق النخلة إلا تسلخ أطرافه، والعودة إلي الأرض قبل أن يبلغ الثمار!
علي أن القرار الذي تصالح عليه الجميع بتحديد إقامة هيكل في الصحافة (الوسيط الأبرز الذي تعامل من خلاله مع المتلقين) لا ينفي وجود هيكل في متن التاريخ بحكم ضخامة ما شهد وما شارك في صنعه من الأحداث، كما لا تنفي وجوده في متن الأدب من خلال الأسلوب، علي الرغم مما بين التاريخ والأدب من تناقض. وهذا تقريبًا هو جوهر الصعوبة في تصنيف أعمال هذا العملاق؛ فالتاريخ يهتم بالحكاية من زاوية صدقها بينما يهتم بها الأدب من زاوية جمالها.
المفارقة وأخواتها
يعرف هيكل كيف يحكي حكاية. حتي قبل أن يتخصص في السياسة كانت تحقيقاته عن «خُط الصعيد» وغير ذلك من الموضوعات المنوعة في آخر ساعة تنبئ عن كاتب قرر ألا يكتفي بلغة الصحافة التي تنقل المعلومة بأكثر الطرق استقامة واختصارًا، بل يهوي السير في الطرق المتعرجة والملتفة كما يفعل الأدباء. وهذا الذي فعله هيكل في بداية طريقه هو ما عادت إليه الصحف مؤخرًا في ثقافات أخري باسم «السرد الصحفي» لكي تحافظ الصحافة علي قرائها بعد أن انهزمت في معركة السبق الصحفي أمام الوسائل الأحدث من التليفزيون إلي المواقع الإخبارية ووسائل التواصل الاجتماعي.
أسلوبه في السرد مستفيد من كل جماليات البلاغة العربية من طباق وجناس ومقابلة وسجع، وهذا يبدو واضحًا حتي في عناوين الكتب: العروش والجيوش، الحل والحرب، عواصف الحرب عواصف السلام، سلام الأوهام، مدافع آيات الله، السلام المستحيل والديمقراطية الغائبة..
كما تنعكس معرفته بالتاريخ العربي والآداب العالمية في عناوين كتب أخري تحاول الإحالة إلي وقائع شهيرة مثل «حرب الثلاثين عامًا» عن حروب العرب وإسرائيل، ولا يمكن أن نقرأ هذا العنوان إلا ونتذكر حربي البسوس وداحس والغبراء، وقد استمرت كل منهما نحو أربعين عامًا.
جانب آخر من عناوين هيكل يتعمد «التناص» أي التشابه مع نصوص وعناوين ومتون مقالاته وكتبه. لا يمكن، مثلاً، أن نقرأ عنوان «خريف الغضب» إلا ونتذكر «خريف البطريرك» للكولومبي ماركيز أشهر حاملي نوبل في الأدب خلال القرن العشرين، و»عناقيد الغضب» للأمريكي الشهير جون شتاينبك.
ابن من؟
لا تقتصر بلاغة هيكل علي العناوين؛ حيث من الممكن أن يجتهد الكاتب في صياغة عنوان أو تأتيه فكرته خاطفة، لكن نصوص هيكل تزخر ـ مثل عناوينه ـ بكل فنون البلاغة، خصوصًا المقابلة اللغوية بين لفظ ولفظ والمفارقة المنطقية في موقف ما.
وتبدو استفادة هيكل الأساسية في هذا المجال من المتنبي (أكبر الشعراء العرب علي مر التاريخ) والروائيين العالميين الكبار، وغالبًا وليم فوكنر وإرنست هيمنجواي وجابرييل جارسيا ماركيز. وبطلاوة الأسلوب يمنح هيكل الحقيقة أجنحة من خيال ويضفي علي الخيال منطقية تجعله حقيقيًا؛ فيكسب في الحالين ود قارئه، بصرف النظر عن الوقائع التي يرويها.
وإذا بحثنا عن علاقات النسب القريبة لأسلوب هيكل، فسوف نقع علي سلسلة من الأساليب التي شكلت نقلة في تحرير الصحف المصرية منذ بدايات العقد الثاني من القرن العشرين، قادها مفكرون من أمثال سلامة موسي، وأدباء من أمثال محمد حسين هيكل وبيرم التونسي، ثم صحفيون محترفون مثل محمد التابعي، وكريم ثابت الذي شارك التابعي ومحمود أبو الفتح في تأسيس جريدة «المصري» لكن صفحته الصحفية طويت لصالح شهرته كسكرتير صحفي ونديم مقرب للملك، وقد نشرت مذكراته عن سنواته مع الملك منذ سنوات قليلة بتقديم هيكل.
كان أسلوب سلامة موسي نقلة مبكرة في سهولة الأسلوب في صحافة مصر، ثم وصل التابعي وكريم ثابت في محطة تالية، وما يمكن أن نلحظه من استفادة هيكل من أسلوب دارس الفلسفة سلامة موسي هو المنطق والعمق المعرفي، بينما تبدو استفادته من التابعي وكريم ثابت في غزارة المفردات والمترادفات.
أسلوب حياة
وإذا كان أسلوب الكتابة يجمع بين هيكل والتابعي وكريم ثابت؛ فإن أسلوب الحياة يفصله عنهما. كان الأستاذان السابقان يلعبان مع الحياة، يهويان السهر والحياة الرغدة المليئة بالمغامرات، يتركان نفسيهما لنهر الحياة يأخذهما إلي حيث يريد، بينما يجبر هيكل الحياة علي ما يريد، ويشق مجري نهره بنفسه.
وتكفي مقارنة تنازل كريم ثابت عن مهنة الصحافة بقبوله موقع السكرتير الصحفي للملك فاروق وبين رفض هيكل العمل مستشارًا للسادات عندما أقصاه عن رئاسة تحرير الأهرام وعينه في القرار ذاته مستشارًا للرئيس في قصر عابدين. وقد أعلن بكل شجاعة وحسم: «من سلطة الرئيس أن يقرر إقصائي عن الأهرام، أما أين أذهب بعد ذلك فهذا من سلطتي وحدي».
وتفرغ للكتابة؛ فتتابعت كتبه بعد تفرغه، وظل لامعًا متجددًا ودامغًا لكل حاسديه الذين كانوا يزعمون أن أهميته تنبع من قربه من عبدالناصر. لكن لمعان هيكل كان في الحقيقة بسبب قربه من الأفكار والأساليب العظيمة، وكان هذا القرب يتطلب أسلوبًا مختلفًا في الحياة.
وقد أدرك هيكل ـ ككل أصحاب القامات الكبيرةـ أن إدارة الموهبة أهم من الموهبة ذاتها. كان يعمل حينما يلهو الآخرون، ينام مبكرًا بينما يعبث الآخرون. استثمر وقته بصرامة مثلما فعلت أم كلثوم ومثلما فعل محمد عبدالوهاب ونجيب محفوظ؛ فكان ما هو عليه: فريد عصره في الصحافة العربية وواحد من قلة في صحافة العالم.