غراميات معرض الكتاب!

إيهاب الحضرى
إيهاب الحضرى

يُهدى بعضنا لفتيات أحلامهم أعمال فاروق جويدة، الشاعر الذى لا تعترف حروفه بجرأة الغزل الصريح، وبهذا نؤكد أن المستهدف من الرسالة الضمنية غراميات بريئة. تصل الهدايا ونظل «مفعولا به» لردود أفعال متفاوتة!


الجمعة:


أتجاوز البوابة إلى الداخل. ينتابنى الشعور نفسه كل مرة. البدايات لا تفقد طزاجتها رغم تكرارها على مدار سنوات، هنا تعرف اللهفة كيف تحتفظ بمذاقها. شهدتْ مدينة نصر «النائية» ميلاد علاقتنا، ونجح معرض الكتاب فى جعل البعيد يقترب، وعلى مدار أعوام تنقّلتُ بين مراحل العُمر المختلفة وظلت الكتب شابة، تشهد صفحاتها قصص حب بنكهة الخجل، يلتهم جيلى أكثر الأفكار جرأة، لكننا عند البوح بالهوى نتوارى، تتراجع دواوين شعراء طليعيين نتبارى فى ترديد عباراتهم التى نحفظها، ويُهدى بعضنا لفتيات أحلامهم أعمال فاروق جويدة، الشاعر الذى لا تعترف حروفه بجرأة الغزل الصريح، وبهذا نؤكد أن المستهدف من الرسالة الضمنية غراميات بريئة. تصل الهدايا ونظل» مفعولا به» لردود أفعال متفاوتة، من ترفض تصطنع السذاجة وتتعامل مع القصائد كمجرد تقارب ثقافي، وأخرى تتجاوب لأنها كانت فى انتظار شارة انطلاق العلاقة! فى مراحل تالية أصبحنا أكثر نُضجا، وتحوّل المعرض إلى مساحة مناسبة للاعتراف بالحب، لأنه يجمع بين الحُسنيين، فهو مكان عام يكفل خصوصية مناسبة لاثنين يحتضنهما الزحام! كم شهدت المناسبة السنوية ميلاد علاقات وانتهاء أخرى، ورصدت ضحكات من القلب لعاشقيْن يخططان للارتباط بعد أن اقتنعا أن الطيور على أشكالها وقعت، وشهدت دمعات نهاية بعد أن رأى أحد الطرفين أن الرواية وصلت لفصلها الأخير.


دائما كان ينتابنى شعور يُشبه إحساسى فى أول أيام المصيف. أتخطى البوابات وكأننى أمضى ملهوفا لعناق أمواج تنتظرنى بشوق، بعد غياب عام كامل، أنظر لآلاف المحيطين متسائلا هل يحملون الشعور نفسه، الإجابة مجهولة لكن رابطا مشتركا يجمع الغالبية، يتنقّلون بين العناوين كفراشات تلتقط رحيقا يمنحها حياة، بينما يعتبر قليلون الزيارة رحلة مجانية فى فضاء رحب، وبينما تكتظ القاعات بالقرّاء، يبقى البعض خارجها فى تجمعات متجانسة، الأهالى يتمتعون بشمس يناير، والأطفال يلعبون الكرة، والإقبال على أكشاك المأكولات ينافس الزحام على طعام العقول، ويُردد الناشرون شكوى مُزمنة من تراجع المبيعات، ربما درءا للحسد! وداخل قاعات الندوات يبدو الأمر مختلفا، زحام على نجوم الأدب، وحضور أقل للقاءات ربما يقدم أبطالها إبداعا أكثر عُمقا، وفى بعض الأحيان قد يفوق عدد الجالسين على المنصة أعداد الحاضرين، الذين يتزايد عددهم نسبيا مع دخول بعض المُرهقين كى يحصلوا على لحظات راحة فى قاعة مُكيفة! هنا تتجلى المُفارقة فى أبهى صُورها، روّاد لمعرض يحتفى بالكتاب لا يفهمون غالبا ما يقال فى الندوات، غير أن الحالة فى مُجملها تبدو برّاقة، وقد تفتح كلمة مغارة على بابا أمام زائر لم يكن يعلم أنه مشروع مُثقف. 


بعيدا عن أجواء المعتادة المائلة للبرودة، يأتى المعرض هذا العام مختلفا، بعد أن اضطره» كورونا» لتغيير موعده المعتاد، حر يوليو لا يُطاق، لكن المُريدين يعرفون كيف يحتفظون بشغفهم، اليوم جمعة والزحام ينافس حرارة الطقس، ومكبرات الصوت تعلو مُعلنة حظر الدخول مؤقتا للقاعة التى تمتلىء، والندوات اختفت فضاع أحد الطقوس الأساسية، كنا ننتقدها غير أننا الآن نفتقدها، إنها الطبيعة البشرية التى تحتفى بكل ممنوع ليُصبح مرغوبا، أمرّ على الكتب مرور الكرام، لكن الكرم يصير مستحيلا مع زيادة الأسعار، العناوين جذابة والجيوب شبه خاوية، لهذا سعدتُ أن أحد كتبى منشور فى هيئة قصور الثقافة بستة جنيهات، أعتبره أكثر حظا من آخر لى معروض فى دار نشر خاصة بستين جنيها، ورغم ذلك أفاجأ بقارىء لا يعرفني، يطلب منى توقيعا بعد أن يخبره الناشر بوجودي، وسط زحام الزوّار يظل القارئ الحقيقى عملة نادرة، يمنح الكاتب قُبلة حياة تجعله يشعر بقيمة إنجازه، أحسّ بسعادة غامرة عندما تسألنى البائعة عن الدور الأخرى التى تعرض أعمالي، لأن واحدا ممن اشترى كتابى سألها عن ذلك فلم تعرف كيف ترد عليه، على الفور كتبت لها أسماء الدور والكتب. فى زيارة تالية لم أفكر أن أسألها عما إذا كانت قد تلقت استفسارا مشابها، فمثل هذا القارئ قد لا يتكرر فى العُمر مرتين!


زمّار الحى لا يُطرب!


السبت:


صباح مبكر نسبيا مقارنة بمواعيدى المعتادة، تقطع السيارة طريقها من مدينة نصر إلى مبنى ماسبيرو، بعد أن رأى معدو برنامج» صباح الخير يا مصر» أن كتابا جديدا لى يستحق الاحتفاء به. الثامنة والنصف صباحا فى القاهرة، موعد ذروة يشهد حشود الموظفين المتجهين لأعمالهم، تبدو المدينة فى هذا الوقت مُصابة بالتُخمة، شرايينها تنبض بصعوبة كى تقهر تصلّبها! أسند رأسى على مسند المقعد، فى محاولة لاسترخاء قد يقضى على آثار الاستيقاظ المبكر. لسبب ما، يتوسم فيّ السائق الأنيق خيرا، ويُقرر أن يستشيرنى فى مشكلة تؤرقه، على غير المُتوقّع لم تكن مرتبطة بالظروف المعيشية، فقد سألنى عن كيفية جذب أبنائه للقراءة. حاول الرجل معهم كثيرا لكن محاولاته انتهت بالفشل. هو نفسه لا يقرأ، لكنه قرر الاستعانة بالقراءة كبديل لإدمان أجهزة المحمول، أو أية أنشطة مستقبلية محفوفة بالمخاطر. تأكدتُ أننا نلجأ للثقافة كوسيلة، وليس كهدف مُستحب فى حد ذاته. عندما ينتشر الإرهاب نتذكر دور الثقافة، ونلوم المُثقفين على تقصيرهم، وكأنهم المسئولون عن بقائهم فى الظل، وسط احتفاء إعلامى بنجوم الفن والكرة. أفقتُ على صوت السائق وهو يتحدث عن مساعيه الحميدة لإصلاح علاقة أبنائه بالكُتب، ويصمت انتظارا لردى الذى سيحل مشكلته، باعتبارى صحفيا ومثقفا حسب تعبيره. ابتسمتُ وقلتُ له بوضوح: لو كنتُ أملك حلا لأصبح ابنى أعظم قارئ،  فعلى مدار سنوات بذلتُ المُحاولات نفسها، غير أن الابن ضل طريقه بعيدا عن الكُتب، وفى النهاية اقتنعتُ بأن زمّار الحى لا يُطرب!


يصمت السائق بعد أن استسلم للأمر الواقع، وينشغل عن الأزمة باستحضار حكايات أخرى، وبعدها بأيام يتكرر الأمر. أديبة تصطحب أبناء إخوتها فى جولة بمعرض الكتاب، نلتقى فى دار نشر أصدرت لكل منا ما تيسّر من كُتب، أخبرتنى أنها تُحاول اجتذابهم للقراءة دون جدوى، ورّطتهم فى حوار معى بدا عليهم أنهم وافقوا عليه مجبرين، تعاملتُ معهم كالمؤلّفة قلوبهم، ومنّتْ هى نفسها بأن أصلح ما أفسده الدهر، غير أن عيونهم أخبرتنى أن المحاولة محكوم عليها بالفشل.


عيشة كلاب!


الأحد:


قبل أعوام طويلة تعارفنا. كانت صحفية متميزة وكاتبة قصة مُبدعة، لكن حنان جاد اتخذت قرارا مفاجئا بالرحيل، سافرتْ إلى دبى حيث عاشت لسنوات، ثم انتقلت للإقامة فى أمريكا. قبل انتشار منصات التواصل الاجتماعى استطاعتْ أن تصل إلىّ بعد جهد، ثم منحتنا التكنولوجيا قنوات عديدة للاتصال. كل فترة تهدينى حنان رابطا لتحقيق صحفى منشور فى الصحف الأمريكية، تعتقد أنه يلائم اهتماماتى بالآثار، وأزعجها أنا فى المقابل بمقالاتى التى أبثها عبر رسالة جماعية على «واتس آب». يُهملها البعض، وآخرون يرسلون أيقونات جافة تُشير إلى استمرار متابعتهم، وقلة يحرصون على التعليق بعبارات تتفاوت بين المجاملة والنقاش الجاد. صحوتُ اليوم على رابط مرسل من حنان جاد. عندما فتحتُه وجدتُ أنه فيلم لا تتجاوز مدته دقيقتين، أعدّتْه ضمن دورة تدريبية تلقتْها بالجامعة الأمريكية، يحمل الفيلم عنوان» عيشة كلاب»، ويتضمن مادة طريفة لكنها بالغة الدلالة، عن علاقة البشر بالكلاب فى الولايات المتحدة، ينطلق من خبر يعرفه الكثيرون: «نصف مليون دولار عرضتها الليدى جاجا لاستعادة كلبيها المخطوفين». ثم يُشير إلى أن الأمريكيين أنفقوا 99 مليار دولار على حيواناتهم الأليفة فى عام كورونا 2020. الرقم مبالغ فيه بالتأكيد، لكنه يبدو طبيعيا عندما نعلم أن 70% من البيوت هناك تأوى حيوانات أليفة، أى ضعف نسبة الأطفال الذين يعيشون فيها! ويبدو أن الكلاب هى الأسعد حظا، ففى 48 مليون منزل يعيش أكثر من 90 مليون كلب، تغيّر أسلوب تعامل البشر معها فبدأوا عملية أنسنتها! بجعلها ترتدى ملابس والاعتناء بتصفيف شعرها، بل أن اقتناءها أصبح يوصف بالتبني!! 


معلومات بمذاق النُكتة، لكن قراءتها بموضوعية تؤكد أننا نعيش فى عالم مجنون، يُنفق المليارات على رفاهية الكلاب، بينما يموت الملايين جوعا، ويتمنى الآلاف أن ينالوا بعض الرعاية التى يتلقاها كلب، من عيّنة «شحيبر» الذى تهكم عليه الفنان الكبير عادل إمام فى مسرحية» الواد سيد الشغال»، قائلا:» عالم ولاد شحيبر»! 


نجاة الكبيرة


الثلاثاء:


أنا من عُشاق الكبيرة نجاة الصغيرة. كنتُ أعتقد أننى استمعت إلى كل أغنياتها، إلى أن انساب صوتها عبر المذياع بأغنية مجهولة بالنسبة لي، غرّدتْ قائلة: «مسير الشمس من تاني.. تنور فوق سنين عمري.. وتصبح غنوتى لسانى من تاني.. وترجع فرحتى فـ صدري.. وهيجيلى الربيع الاخضر شباب نشوان بيتمختر». أغنية عذبة تجمع رهافة حس نجاة مع كلمات المبدع عبد الرحمن الأبنودى والرائع بليغ حمدي. الأغنية التى يقترب عمرها من ستين عاما لاتزال تحتفظ بشبابها، وتملك القدرة على اللعب على أوتار المشاعر، على الأقل لدى جيل يُلملم أوراقه، لكنه مقتنع رغم ذلك بأن الغروب قد يُؤجّل موعده لبعض الوقت:» راح اتحمل سنة سنتين لحد ما ترجع الأيام.. عليها شمس مش بتنام».