فوق الشوك

أبناء العصامى

شريف رياض
شريف رياض

بور سعيد من أحب المحافظات إلى قلبى.. منها بدأت رحلتى المهنية الميدانية كمحرر برلمانى من ضمن مسئولياته تغطية الانتخابات البرلمانية.. كان ذلك فى صيف ١٩٧٦.. قضيت فيها أياما لا تنسى لشاب فى مقتبل العمر حديث التخرج يعشق السياسة فإذا به فى قلب معركة انتخابية ساخنة جدا خاصة على مقعد الفئات  بين المرشحين عبدالوهاب قوطة وعبدالمنعم عثمان رحمهما الله.. ولا أنسى وقفتنا فى شرفة مبنى المحافظة فجر اليوم التالى للانتخابات انتظارا للنتيجة وكان الميدان أمام المحافظة «على آخره» بمناصرى قوطة وعثمان فى مشهد أقل ما يوصف به «ترش الملح ما ينزلش»!
تكررت بعد ذلك زياراتى لبور سعيد خاصة فى مواسم الانتخابات وتوطدت علاقتى بجميع نوابها على مدار السنوات وفى مقدمتهم حسن عمار والبدرى فرغلى رحمة الله عليهما وأبو بكر الصديق أطال الله فى عمره.
مع بداية الانفتاح الاقتصادى عام ١٩٧٧ تعددت زيارات لجان مجلس الشعب المختلفة لبور سعيد.. كان الهدف المعلن دائما هو تفقد القطاعات المختلفة وحل مشاكل المواطنين.. لكن خلف هذا الهدف كانت هناك عملية التسوق الواسعة التى تتم ويتهافت عليها النواب لأن سياراتهم كانت تمر دون جمارك!
بعيدا عن الاجهزة الكهربائية كان هناك محل فى منطقة البازار لا تخطئه أبدا أقدام النواب هو محل «محمود الفار» الذى كان يعرض كل ما لذ وطاب من أصناف الكومبوت والعصائر والشيكولاتة وجميع أنواع الصابون والشامبو وأدوات التجميل المستوردة وكانت كلها جديدة على المصريين لم يألفوا وجودها فى الأسواق بهذا التنوع وهذه الجودة.
ومن خلال حوارات متفرقة مع الزميل نبيل التفاهنى مدير مكتب «أخبار اليوم» فى بورسعيد روى لى حكاية الحاج محمود الفار التاجر العصامى الذى كان يسكن بجواره فى «عشة صغيرة» فى رأس البر طوال سنوات التهجير بعد نكسة ٦٧ ولم يعتمد أبدا على إعانة التهجير التى كانت تصرف للمهجرين فراح ينحت فى الصخر ويفتح محلا صغيرا بجوار العشة فقد كانت التجارة فى دمه.. تجارة شريفة يقنع فيها بالربح القليل على أمل أن تتسع مستقبلا.. وكان له ما أراد.. بعد انتصار أكتوبر ٧٣ وعودة المهجرين افتتح أول محلاته الذى أشرت إليه فى منطقة «البازار» وظل قبلة زوار بور سعيد لسنوات طويلة حتى توفاه الله عام ٩٥.
أولاد الفار «باسم وشريف وعمرو» الذين غرس فيهم الأب الأمانة والصدق والتعامل بشرف فى السوق كانوا فعلا خير خلف لخير سلف.. تكاتفوا وعملوا يدا واحدة وتوسعوا فى تجارتهم حتى أصبحت مجموعة الفار سلسلة تضم ٦ محلات فى بورسعيد استخدموا فيها أحدث نظم عرض المنتجات المحلية والمستوردة.. ومن المقر الرئيسى للمجموعة لتجارة الجملة الذى افتتح فى القاهرة فى حياة الوالد بدأوا يخططون لإقتحام سوق العاصمة حيث افتتحوا مؤخرا أول فروعهم فى التجمع الخامس.
لا أروى هذه الحكاية بالطبع دعاية لمجموعة الفار فهم لا يحتاجون لدعاية لأن بضاعتهم وتعاملاتهم الراقية تجعلهم دائما فى موقع متميز لكن ما حرصت أن اؤكده هذا الوفاء والاخلاص وتمسك الابناء الثلاثة بالمبادئ التى غرسها فيهم الأب التاجر العصامى الذى بدأ من الصفر لكنهم أكملوا رسالته حتى وصلوا إلى ما كان يتمناه بينما هناك عشرات الأمثلة المضادة  لابناء رجال أعمال اختلفوا بعد وفاة الأب وبددوا ثروته.. تحية تقدير إلى أولاد الفار الذين لا أعرف منهم إلا كبيرهم «باسم» وكانت معرفتى به مصادفة منذ سنوات قليلة عندما جاء للاقامة فى القاهرة فى نفس «الكومباوند» الذى أقيم فيه ولاحظت ـ بكل التقدير والاحترام ـ ماذا يفعل مع والدته.. المربية الفاضلة التى مازالت تقيم فى بورسعيد.. بعد كل صلاة جمعة يسافر باسم لتناول الغداء مع والدته وأشقائه ويعود مساء فى رحلة أسبوعية مقدسة..
  قصص الوفاء والاخلاص والقيم النبيلة والنجاح دائما تهزنى ولهذا حرصت على أن أحكى حكاية أولاد «الفار».