يوميات الأخبار

مصر والعالم... وثورة يوليو 1952

محمد بركات
محمد بركات

لم تكن ثورة 23 يوليو 52 مجرد حركة عسكرية لرجال الجيش.. ولكنها تحولت بعد أن احتواها الشعب وآمن بها، إلى تيار ثورى يتحرك باسم الجماهير ويعمل من أجلها. 

فى مثل هذه الأيام من شهر يوليو 1952، ومنذ ما يزيد عن نصف قرن من الزمان بتسعة عشر عاما كاملة، كانت مصر تقف على أعتاب متغيرات حادة ووقائع مذهلة، غيرت حاضر ومستقبل ومسار المملكة المصرية... بل والمنطقة كلها. ففى الثالث والعشرين من هذا الشهر منذ تسعة وستين عاما، تفجرت فى مصر أحداث جسام هزت البلاد من مشرقها إلى مغربها، وامتدت آثارها إلى كل ما حولها بطول الأرض العربية من المحيط الأطلسى إلى الخليج العربى، إيذانا بنهاية حقبة من الزمان حان أوان رحيلها، بكل ما تحتويه من أوضاع ضاع استقرارها، ونظم فقدت شرعيتها، وسياسات ثبت فشلها وعدم مصداقيتها.


لحظة الميلاد


ومنذ لحظة الميلاد الأولى لثورة الثالث والعشرين من يوليو 1952، تدافع التأثير وأمتد الأثر ليتخطى حدود الزمان والمكان، ويتردد صدى الثورة بقوة على الساحتين الإقليمية والدولية، حيث الشرق الأوسط بما يحتويه من براكين فوارة وصراعات ملتهبة، وعلاقات قوى تبحث عن توازنات بين أطرافها تضبط حركتها وتحمى مصالحها، وسط عالم كان قد تغير وبدأت ملامحه الجديدة فى التشكيل، فى أعقاب الحرب العالمية الثانية، التى خلقت واقعا جديدا وقسمت العالم إلى كتلتين متعارضتين. وبقياس التأثير فى ذلك الوقت من عام 1952، وبحساب الأثر فيما تلاه من سنوات، كانت ثورة 23 يوليو ولاتزال حدثا لا ينسى محليا وإقليميا ودوليا، حيث كانت علامة فارقة فى تاريخ الشعب المصرى وشعوب المنطقة ودولها، امتدت آثارها وتعمقت فى وجدان الجميع لتغير وجه التاريخ، وتبدل شكل الحياة وطبيعة الأشياء، ليس فى مصر فقط بل فى كل ما حولها وما جاورها، بامتداد القارة الأفريقية وعلى اتساع القارة الآسيوية، ومناطق أخرى كثيرة فى العالم تفصلها عن مصر بحار ومحيطات ومسافات.


واقع الحال


وإذا ما ألقينا نظرة متفحصة على واقع الحال فى مصر قبل الثالث والعشرين من يوليو 1952، نجد أن كافة الظروف والملابسات تشير بما لا يدع مجالا للشك، بأن التغيير قد أصبح ضرورة لا مفر منها ولا مهرب إلا إليها ،...، حيث كانت مصر تغلى غضبا فى ظل الاحتلال البغيض، الذى ألقى بظلاله القاتمة على كل مناحى الحياة، وأشاع إحساسا كئيبا بالمهانة والقهر، وولد رغبة طاغية فى التحرر كانت مصر كلها تشارك فى مقاومة الاحتلال فى مدن القناة وتستشعر أنها تقف على أعتاب حدث جلل يخلصها من هذا الواقع المر، وينهى الاحتلال الذى استمر عشرات السنين دون أمل فى الاستقلال، ويضع حدا لصراع الأحزاب الذى تعمق وتصاعد، بلا طائل وبلا هدف سوى المصالح الذاتية قصيرة النظر، ويقضى على الفساد الذى استشرى فى كل مكان، ووصل إلى حد لا يمكن السكوت عليه أو القبول به، وفى هذا الإطار يمكن اعتبار أن ثورة يوليو 1952، لم تكن حدثاً منقطعاً فى ذاته منفصلاً عما حوله، وأنها لم تكن مجرد حركة عسكرية لرجال الجيش وبعض شبابه المتحمسين ،..، ولكنها وإن بدأت حركة عسكرية فى لحظة تفجرها، فقد تحولت فور ذلك، بعد أن احتواها الشعب وألتف حولها إلى تيار ثورى، يتحرك باسم الجماهير ويتدحث ويعمل من أجلها، ويضع تاريخاً جديداً لمصر والمنطقة كلها.


الحركة.. والثورة


وفى هذا الإطار... تحولت حركة الضباط الأحرار التى قامت ليلة الثالث والعشرين من يوليو إلى ثورة للشعب كله ،..، ثورة على الماضى وعلى الواقع القائم على الأرض بكل أشكاله ورموزه، وسعت للتبشير بواقع مختلف ومستقبل أفضل، يفتح آمالا غير محدودة لتحقيق طموحات الجماهير فى اللحاق بركب الحضارة والتقدم، والانطلاق بمصر على طريق التنمية الشاملة، بعد وعدها للشعب بالخلاص من الاحتلال والقضاء على الاقطاع وبناء الجيش الوطنى القوى، والأخذ بالديمقراطية منهاجا وتوجها للدولة المصرية الجديدة. وفى ظل ذلك آمنت الجماهير بالثورة التى أصبحت بالفعل حدثاً تاريخياً فريداً، فى وقتها وزمانها التى بدأت خطواتها الأولى فى عام 1952، ولكن آثارها استمرت عقوداً زمنية امتدت حتى نهاية الألفية الثانية بل ونهاية العقد الأول من الألفية الثالثة، وعلى طول هذه السنوات وتلك العقود شهدت مصر مع ثورة يوليو 1952 وفى ظل رئاسة عبد الناصر ثم السادات ومن بعدهما مبارك، أياما مجيدة وأخرى عصيبة، وخاضت معارك كبيرة بعضها فرض عليها فرضا، وبعضها الآخر سعت إليه سعياً، وكانت النتيجة تاريخاً حافلاً بالانتصارات فى قدر كبير منه، وحافلاً بالانكسارات فى قدر ليس بالقليل أيضاً.


حق المعرفة


وقد يكون من المهم الآن، وبعد مرور كل هذه السنوات على قيام ثورة 23 يوليو، أن نقول بوضوح إن من حق الأجيال المعاصرة من أبناء الشعب والشباب على وجه الخصوص بوصفهم لم يشاهدوا هذه الثورة لحظة ميلادها، ولم يعايشوها فى أحداثها، ولم يعاصروا مجرياتها على أرض الواقع، أن يعرفوا الحقائق فى سياقها الصحيح، وأن يطلعوا عليها فى إطارها السليم، دون تحريف أو تبديل، ودون تهوين فى أدوار البعض أو تهويل فى أدوار البعض الآخر، ودونما انتقاص مقصود من قيمة أحد، أو تعظيم مستهدف لقيمة آخر. ولعلنا لا نبالغ إذا أكدنا أن أول الواجبات الملقاة على عاتق من يعلمون تجاه من لا يعلمون، هو تقديم معرفتهم وتسجيل علمهم، بأكبر قدر من الدقة الممكنة ورصد كافة الأحداث والوقائع بأعظم قدر من الأمانة والمسئولية، حفاظاً على صحة وسلامة ما يحفظ فى ذاكرة الأمة، خاصة إذا كان الأمر يتعلق بحدث على قدر كبير من الأهمية والخطورة، مثل ثورة الثالث والعشرين من يوليو 52، التى غيرت مسيرة الشعب وأثرت فى تاريخ الأمة كلها.


كتبة التاريخ


ولو نظرنا بحساب الزمن فسنجد أن كل الشباب فى مصر الآن، وأغلب الرجال والنساء، هم من غير المعاصرين للثورة، وممن لم يعرفوها بالمشاهدة أو المعايشة، ولكنهم بالقطع وقعوا فريسة ما يقرأونه عنها، وما يسمعونه من الرواة... وللأسف كان بعض ما يكتب عن وقائع الثورة، ومواقف رجالها وقادتها يتضارب مع الآخر، وللأسف أيضاً كان بعض ما يقال أو يسمع يتصادم مع بعضه الآخر. وبين هذا التضارب وذلك التصادم أصبح الشباب ضحية ما يكتبه هؤلاء وما يرويه أولئك ،..، وبعضهم لم يراع الأمانة ولا المسئولية التاريخية فيما يقول أو يكتب عن الثورة ورجالها ،..، بل راح البعض منهم يقص علينا قصصاً تختلف وتتناقض مع ما يقصه الآخر. ومن هنا كانت المأساة.. وتاهت الحقيقة واختلطت الوقائع والأحداث، بل وتلونت بلون من يكتبها أو يرويها ،...، وخضع الأمر عند البعض للأهواء والمصالح والخصومات.


ونحن فى طلبنا للحقيقة والمصداقية فى وقائع التاريخ لا نطلب المستحيل، ومن حقنا بالقطع أن نعرف الحقائق المجردة بلا رتوش أو ظلال ،..، ولا نريد من أحد أن يكذب، ولا نطلب منه أن يتجمل ،...، فقط نريد الحقيقة كما وقعت وكما كانت وكما هى فعلاً دون إضافة أو حذف وبلا تمويه أو خداع..

لأن ذلك هو حق الشعب فى المعرفة، وحق الأمة فى الاطلاع على تاريخها وحق كل الأجيال فى أن تحتفظ بذاكرة صحيحة لأحداثها المصيرية. ونحن فى ذلك نعرف أن رواة الأحداث والوقائع ليسوا ملائكة منزهين عن الخطأ، ولكننا نعرف أيضاً أنهم ليسوا شياطين غارقين فى الخداع،..، لذلك فنحن لا نملك سوى أن نطلب من كتبة التاريخ أو رواته توخى الصدق والأمانة فى تسجيل الحقيقة ،..، وأن يتركوا لنا ولكل الأجيال حرية الاستيعاب والتقدير.