جاب مديريات مصر وخالط «الرفاعية» وقطاع الطرق وطارد تجار المخدرات

كنوز| مذكرات حكمدار بوليس العاصمة تكشف المجتمع السرى لقاهرة العشرينيات

حكمدار القاهرة توماس رسل - توماس رسل على حصانه الأبيض وغلاف مذكراته
حكمدار القاهرة توماس رسل - توماس رسل على حصانه الأبيض وغلاف مذكراته

تقدم « مذكرات توماس رسل « التى نشرها فى بريطانيا عام 1949 شهادة حية عن قلب المجتمع المصرى فى بدايات القرن العشرين  بعنوان «فى الخدمة المصرية»، وترجمها الكاتب والروائى مصطفى عبيد فى كتاب بعنوان» مذكرات توماس رسل حكمدار القاهرة «، ففى عام 1918 أصبح « توماس رسل « الإنجليزى حكمدار بوليس القاهرة ، كان يهبط من بيته أيام الإجازات قاصدا نادى الجزيرة الرياضى على ظهر حصان أبيض يخترق به شوارع وسط القاهرة بين دهشة المارة ، وكان الحصان يرجع به البيت من دون أى توجيه، ويعبر به من أمام فندق «سوفاتيل» وينحرف إلى شارع قصر النيل ومنه إلى مبنى البنك الأهلى ثم يستدير يمينا ويتوقف أمام بيت «رسل» فيهبط الحكمدار الإنجليزى ويصعد إلى بيته ! 

المدقق فى هذه المذكرات سيكتشف أن الجنرال الإنجليزى «توماس رسل» قضى فى مصر 44 عاما متصلة فى خدمة جهاز البوليس أثناء فترة الاحتلال البريطانى، ويقال انه كان يتميز بلطشة فن بالوراثة عن عمه الذى كان أديبا معروفا، وكان يتمتع بنهم لكل متع  الحياة بدءا من صيد الطيورإلى صيد النساء، ولهذا استطاع أن يرصد الجوانب الخفية فى حياة المجتمع المصرى بعد أن جاب بحكم عمله كل مديريات مصر، وشواطئها، وصحاريها، وتعرف على أزقة الاسكندرية والقاهرة بدءا من « وش البركة» فى الأزبكية إلى قصور الأميرات الحسناوات، وخالط قطاع الطرق، وصادق الأمير كمال الدين حسين كما صادق «الحاج أحمد» صياد الأفاعى ، و«حامد» مقتفى الآثار فى الصحارى، ويصف السنوات التى عمل فيها بالإسكندرية بمعرفة دقيقة لمنطقة «اللبان» وما بها من بيوت للدعارة ونسائها اللواتى يقول إنهن «حوريات اللبان».

ويقول أن أجرة المرأة كانت تصل لنحو دولار كامل! وكان على حد قوله: « يوصى القادمين من انجلترا بزيارة اللبان» ، وفى تلك السنوات البعيدة كان بمصر ضباط انجليز بلا عدد ، لكن يندر أن تصادف بينهم ضابطا نهما إلى متع الحياة مثل « توماس رسل « الذى يشير فى مذكراته إلى حي» الهماميل «بالإسكندرية قائلا بزهو : «إن معظم سكانه من العاهرات الأوروبيات وقوادهن اليونانيين» ، وكان يستخدم جملا  فى مطاردة عصابة «عبد العاطي» التى روعت جنوب مصر ، وعصابة « المطراوى» فى البحيرة ، وقاد عمليات الهجوم على أوكار مهربى الحشيش من ميناء الإسكندرية ، ويقول: « مررت بكل مديرية فى مصر بجولاتى كمفتش.. وعملت فى جميع نقاط الشرطة من أسوان إلى الاسكندرية «. 

وسجل « رسل « شهادة فريدة عن التقاليد التى كانت سائدة فى مصر، وأنواع الحيوانات والطيور والجرائم والغجر والنزاعات القبلية والرفاعية صائدى الثعابين وعلى رأسهم « الحاج أحمد»، ويقول إنه كان له صديق انجليزى نشر عام 1919 كتابا بعنوان» الأفاعى المصرية وحواتها» ، وتضمن الكتاب صورة للحاج أحمد وهو يمسك بكوبرا طولها خمسة أقدام فى أحد حقول الجيزة ، ويحكى من صميم عمله فى الشرطة أن مصر أخذت بنظام الكلاب البوليسية عام 1936، واشتهر حينها  كلب غير عادى اسمه « هول»، كان قادرا على التعامل مع البلاغات الكاذبة بنفس جدية التعامل مع البلاغات الحقيقية، ويرصد «رسل» فى مذكراته بؤس الفلاحين فى قول: « إن أحوال الفلاحين على مستوى البلد كانت بائسة، ويمكننا أن نتخيل كيف لأسرة كاملة أن تعيش على دخل يومى لا يتجاوز بضعة قروش»، وعاش رسل مقدمات ثورة 19، ثم سنوات الثورة، ويصف من موقعه كمسئول عن الأمن يوم 17 مارس 1919، بعد قرار نفى سعد زغلول بأنه كان: «واحدا من أسوأ أيام حياتى فى القاهرة» لأن الشرطة لم تستطع محاصرة المظاهرات الشعبية فى مصر.

وتبين المذكرات الحرب الشعواء التى قام بها على المخدرات التى تدفقت على مصر وفتكت برجالها، وخلفت مخبولين يطوفون الأزقة والميادين كأنهم اشباح خارجة من القبور ، وآمن بأن مصر لا نجاة لها من هذا الخطر الا باستئصال شأفة داء المخدرات، وكتب فى مذكراته: « فى عام 1916 بدأ الكوكايين فى الظهور لأول مرة فى القاهرة، ثم تبعه الهيرويون الأكثر قوة وفاعلية ، ولم يكن هناك الكثير مما يمكننا فعله فى ذلك الوقت عندما كان الاتجار أو الحيازة مجرد انتهاك بعقوبة قصوى تصل إلى غرامة 1 جنيه إسترلينى أو السجن لمدة أسبوع  ، وبعد ذلك أصبح الوضع مقلقاً ، ففى عام 1928 بدأت أدرك أن شيئاً ما كان يحدث وهو إنتاج حى فقير جديد فى القاهرة لم نشهده من قبل، لأول مرة سمعنا عن طريقة الحقن الوريدى للهيروين وسرعان ما صادفنا ضحاياها، فى غضون وقت قصير وجدنا عنصراً جديداً فى حى بولاق بالقاهرة المزدحم بالعمال القادمين من صعيد مصر، لقد كانوا يشكلون طبقة تعيش فى ظروف قاسية لكنهم أصحاء وأقوياء، وبدأنا نجد حطاماً بشرياً ممدداً فى بولاق، من الواضح أن الجثث ذات الوجه الشاحب ليست من نوعية سكان بولاق، واعترفوا بأن إدمان الهيروين هو الذى أوصلهم إلى هذا، وكان الهيروين فى السوق لا يزال نقياً وبالتالى كان تأثيره قوياً ، وسرعان ما امتلأت حفرة بولاق بالحطام البشرى من جميع فئات المجتمع المصري.

ومن اجل هذا سافر  رسيل  باشا  الى سويسرا لحضور جلسات لجنة المخدرات الاستشارية فى عصبة الأمم ، لأنه كان يشعر ببؤس المدمنين وشقائهم ، وقد هز العالم بتقاريرة التى فضح فيها المعامل الكبرى التى تطبخ السم فى حمى من يد العدالة وله الفضل فى الضرب على أيدى عصابات تهريب المواد المخدرة الدولية ، وعرف كيف يقبض على اطراف الخيط فى عصابة « زكاريان» الأرمنى وزلنجر البولونى وقضى على سبب كبير من انتشار المخدرات ، وله الفضل فى فضح اسرار معامل الدكتور هفتى  بسويسرا الذى أرسل إلى مصر مئات من الكيلو جرامات من المواد المخدرة، ومصانع  روسلر وشركاه  التى صدرت 7562 كيلو جراما من المخدرات .


« الهلال « - فبراير 1949