صدي الصوت

سر يوسف إدريس!

عمرو الديب
عمرو الديب

مثيرة كمتعة اقتناص الطرائد واصطياد الفرائس، تلكم هى مفاجأة الوقوع على كتاب جذاب من دون توقع،فما أسعدنى بكتاب يصادفنى على الأرفف، فيسطع فى عينى،وهذا ما حدث لى منذ أيام، فقد وقع فى يدى بالمصادفة كتاب عن مبدع فذ بهرنى أدبه،وأذهلنى عالمه، جذبتنى شخصيته حين التقيت به، لإجراء حوار مطول معه،ولم يكن اللقاء الأخير،فقد تكررت المقابلات، وشعرت أن ذلك المبدع الفذ أكثر إنسانية ورقيا مما يصوره البعض، وأدركت مدى الظلم الذى لحق بالنجم البارز من الموتورين ورموز الأحقاد، والكتاب الذى عثرت عليه بابتهاج، يحمل عنوان "أنا يوسف إدريس" للكاتب بشرى عبد المؤمن، وهو صادر عن دار "ريشة"، ومع أنى لم أنته من قراءة الكتاب الذى يعد بتقديم كنز معرفى عن ذلك الأديب الفذ، إلا أنه ذكرنى بعشقى لإبداعه الخالد، ونبهنى إلى أن ذكرى ميلاد يوسف إدريس مرت من أسابيع فى صمت وتجاهل عجيبين، لذا تجئ هذه السطور اعتذارا للمبدع المذهل عن عدم الاحتفاء بذكراه، وحتى نضع أمام القراء الأعزاء مفتاحا لعالمه الخصب، علينا إدراك أن يوسف إدريس هو ثمرة عالم الحقول الخضراء المترامية، وفى طينها وممراتها السمراء البنية تنغرس الأقدام فى لزوجة الطمى الحنون..

باعث الرائحة المبهجة التى تميزها الأنوف السوية دون عناء، فهى رائحة النماء، وعطر الطيبة الأخاذ، ذلك العبق المصرى الأزلى الذى كان قبل الأزمان، منتشرا فى الأبد، بإذن بارئ الأكوان، ومنشئ الأمكنة،ومجرى الأزمنة والعصور، هكذا قدر الإله، وقرر أنها مصر من بين الأمم، مختارة مجتباة، لذا نجد مصر دائما حالة خاصة بين البلاد،و أكثر ما يتبدى تميزها فى ريفها وقراها الطيبة التى صنعت النماء، وكأنه صناعة مصرية، ونسجت الخصب بطريقتها الخاصة، حتى كاد يكون مصريا، ولعل تلك القيم والمعانى المحلقة فى آفاق الحقيقة هى التى شكلت وعى يوسف الفتى، وصاغت وجدانه، وتردد صداها فى إبداعه المتفرد، وسرده الخلاب، وحكيه الساحر، فمن الحقول الخضراء، والأجران المفروشة بالحنطة الذهبية، وثرثرة النسوة حول الترع وهن يملأن الجرار، سكنت كيان إدريس روح وثابة عاشقة، أشعرته دوما أنه الساكن هنا إلى الأبد، منذ الأزل، فسطع عالمه العجيب معبراعن تلك الروح، ومجسدا لهذا المعنى الآسر للبقاء، إنه خلود وطن يتدفق فى شرايين كيان يملأ الدنيا بمواويل الشجن التى تخطف القلوب،وتطهر الأرواح،إنها "أرخص ليال"، و"النداهة"، و"الحرام"، و"حادثة شرف"، و"لغة الآى آى"، و"بيت من لحم "،و"أنا سلطان قانون الوجود"، و"آخرالدنيا"، وهى سائر العلامات التى تؤكد أن يوسف باق جدير بالتذكر دائما،وعار على ضميرنا الأدبى أن ينساه، وينسى أمثاله من الأفذاذ!