هـنـا متحـف الأجـنة المشــوهة

متحـف الأجـنة المشــوهة
متحـف الأجـنة المشــوهة

إيثار حمدى     

"إن لم تكن قد أعطيت الناس نفسك، فأنت لم تعطهم شيئاً"، هذه العبارة هى أول ما يستقبلك عند دخولك متحف نجيب محفوظ  للأجنة المشوهة بمستشفى قصر العيني.

لا بد أنك لاحظت التطابق فى الاسم بين صاحب المتحف والأديب العالمى الحائز على جائزة نوبل، وتسأل: ما علاقة الأدب بالطب؟ وهل هناك صلة بين الرجلين؟.. والإجابة "نعم" هناك صلة قوية، الطبيب أنقذ حياة الأديب.. وإليك القصة:

فى عام 1911 تعسرت أم نجيب محفوظ فى ولادته، ما جعل والده يستدعى الطبيب نجيب محفوظ باشا الذى نجح فى إنقاذ الأم والطفل، فقاده العرفان للطبيب أن يطلق اسمه على ابنه ليصبح نجيب محفوظ (اسم مركب).

أما الطبيب نجيب محفوظ باشا، كما هو مدوَّن فى المتحف أسفل صورته، فقد ولد سنة 1882، وتخرج فى "قصر العيني" واشتغل طبيب تخدير فى السويس والإسكندرية، وخلال عمله ساعد فى كثير من عمليات الولادة، وهنا لاحظ أن نسبة الوفيات أثناء الولادة كبيرة جدا! فى تلك الفترة لم يكن متاحاً العمليات القيصرية ولا هناك أى نوع من التطور فى عمليات الولادة، فتعاطف مع السيدات اللواتى يعشن هذه المعاناة أثناء الولادة، وعندما لاحظ حالات الوفيات الكثيرة، قرّر أن يتخصص فى طب النساء والتوليد ويترك قسم التخدير، ومن هنا يبدأ مرحلة ونقلة كبيرة فى حياته الطبية التى بعدها أصبح رائد طب النساء والتوليد فى تاريخ مصر.

ولم يكن متوقعاً أن تقبل السيدات على الكشف عنده وفى السنة الأولى من عمله كطبيب فى السويس استقبل أكثر من 810 حالات، وفى السنة الثانية وصلت الحالات لـ1310، وكان د.نجيب باشا محفوظ يهوى تحنيط العينات من أجل استخدامها كنماذج لتعليم وتدريس الطلبة والأطباء أيضاً، وفى ذلك الوقت كان افتتاح قسم النساء بـ"قصر العيني" عام 1905.

"آخرساعة" التقت الدكتور أحمد محمود المناوى أستاذ النساء والتوليد ومدير وحدة المناظير فى قسم أمراض نساء ومدير وحدة المحاكاة للمناظير، والحاصل على جائزة الدولة التشجيعية فى العلوم الطبية، ليروى لنا أسرار هذا المتحف العجيب، وكان سؤالنا الأول عن الأوانى ومواد الحفظ الموضوعة بداخلها الأجنة، فقال كان الدكتور نجيب محفوظ يجلبها من فرنسا على نفقته الخاصة، وكانت ملكاً خاصاً له، فنصحوه بفتح متحف لهذه المقتنيات، وبالفعل افتتح المتحف عام 1932 فى قصر العينى الفرنساوي، ووضع به العينات، وفى الخمسينيات انتقل قسم أمراض النساء بالكامل إلى مبنى مستشفى قصر العينى القديم.

وأوضح أنه بعد تقاعد الدكتور محفوظ لم يكن هناك من يهتم بالمتحف بنفس الطريقة، ما أدى لفقد جزء كبير من الأجنة التى لم تعد صالحة للعرض، وفى الثمانينيات والتسعينيات، أصبح هناك وفرة فى الكتب الطبية بعد ظهور تصوير الأوراق، نظرا لأن أسعارها كانت مكلفة للغاية والتصوير وفر عليهم الكثير من المعرفة. ويعتبر متحف تشوهات الأجنة فى مصر الأكبر والأكثر تخصصاً فى أمراض النساء فى العالم، وهناك بلدان أغلقت هذا النوع من المتاحف لعدم قدرتها على إحداث أى نوع من التطور العلمي، بالإضافة إلى عدم قدرتهم على حفظ الأجنة.

من المؤكد أن تكلفة تطوير المتحف كانت كبيرة، وهنا يقول الدكتور المناوي: "عندما تم طرح فكرة تطوير المتحف منذ عدة سنوات تشاورت مع الدكتور محمد ممتاز رئيس قسم النساء والتوليد بقصر العيني، فقال إن التكلفة ستكون كبيرة، ونحتاج لمن يقوم بتمويله، ففكر فى التحدث مع حفيد الدكتور نجيب باشا محفوظ، الدكتور نجيب أبادير، الذى ترك عمله فى الجراحة واشتغل فى مجال البيزنس، وبالفعل تحدث إليه واقتنع بالفكرة وتحمس لها وشاركه فى المشروع بعض أفراد عائلته".

وقد أشرف على التطوير المهندس كريم الشابورى الذى قام بتطوير المتحفين الإسلامى والقبطي، ومتحف الرئيس جمال عبدالناصر، إضافة إلى متحف الكاتب نجيب محفوظ، واستطاع إنجاز المهمة فى ثمانية أسابيع فقط وبنصف التكلفة التى عرضها غيره من المهندسين، وتقريباً لم يأخذ مقابلاً مادياً.

ويوضح المناوى أنه تم تخصيص جزء من المتحف للأدوات الطبية المستخدمة فى الولادة فى ذلك الوقت، والكتب الخاصة بالدكتور نجيب محفوظ وكرسى الولادة الذى كان يستعمله الطبيب قديما وكتب الطب القديمة وحتى طرق التحنيط التى كان يستخدمها نجيب باشا محفوظ، وكان هناك رجل مسئول عن المتحف اسمه "عم حنفي" يساعد الدكتور محفوظ فى عمليات حفظ الأجنة المشوهة ساعدنا فى عملية تطوير المتحف، وكان يحتفظ بسر التحنيط الذى يقوم به الدكتور نجيب وقمنا بتصويره أثناء قيامه بملء الأوانى بالمحلول، وهى العملية التى كانت تستغرق عدة أيام لتجنب ظهور شوائب، لكنه توفى قبل الافتتاح بأسبوع واحد، لافتاً إلى أن تكلفة كل آنية من الأوانى المعروضة تتراوح بين 100 إلى 800 جنيه، فالموضوع مكلف للغاية.

الأجنة المعروضة فى هذا المتحف مفيدة للطلاب والباحثين، حيث يوضح الدكتور المناوي: فكرت فى تقديم خدمة لطلبة كلية الطب عبارة عن QR كود لكل حالة من الحالات المتواجدة فى المعرض وبمجرد أن يقوم الشخص بمسح الكود بواسطة الموبايل أو التابلت عن طريق الموقع الخاص بمستشفى قصر العينى يظهر له تشخيص الحالة، وبعض حالات الأورام لها فيديوهات مصورة داخل غرفة عمليات قصر العيني، إضافة إلى أن الأكواد موجودة أيضا داخل كتاب قسم أمراض النساء والتوليد، فالطالب أثناء قراءة الفصل الخاص بتشوهات التوءم يمكنه مسح الكود الخاص بالإناء الزجاجى الذى يحتوى على تشوه ثلاثة توائم ومعرفة كافة تفاصيل الحالة على الفور من خلال هاتفه المحمول وهو فى منزله، وهكذا الورم السرطانى للمبيض ومشاهدة فيديو عن الأورام السرطانية فى المبيض وكيفية اكتشافها وتشخيصها، بالتالى الطبيب قادر على تلقى معلومات ثمينة فى أى وقت ومن أى مكان.

هذه الطريقة جعلت المتحف أكثر منفعة وأسهل فى توصيل المعلومات، بالإضافة إلى غرفة المحاضرات الملحقة بالمتحف، والتى نقدِّم فيها محاضرات يومية لحوالى 12 طالباً، ونظرا لأنه ليس كل الطلبة يمتلكون هواتف ذكية، فقد تحدثت إلى المهندس جمال السادات نجل الرئيس الراحل محمد أنور السادات رئيس مجلس إدارة شركة اتصالات الذى تبرع بـ20 جهاز تابلت وخطوط إنترنت مدى الحياة.

قد يتساءل البعض عن سبب عدم فتح هذا المتحف للجمهور، واقتصاره على الطلاب والباحثين فقط، لكن الدكتور المناوى يقول إنه من الصعب فتحه للجمهور، فعائلات الذين تبرعوا برفات أبنائهم لخدمة العلم لن يقبلوا أن يصبح أبناؤهم مادة للسخرية من البعض، ولا أحد يعلم حتى الآن كيف استطاع الدكتور نجيب أن يقنع هؤلاء السيدات فى ذلك الوقت بالتبرع بجثث أبنائهم بدلا من دفنها، وآخر عينة جاءت للمتحف كانت منذ نحو 12 عاماً، وهو جنين عمره 8 شهور يطلق على حالته "حورية البحر"، حيث تكون أرجل الجنين ملتصقة ببعضها والكعبان بارزتين من الخلف أشبه بالزعانف، وفى العالم كله لا يوجد سوى حالة واحدة عاشت بهذا العيب الخلقي.

هذا المتحف ليس الوحيد من نوعه فى العالم، ففى الدنمارك هناك متحف صغير، وفى أمستردام ولندن وفرنسا كذلك، لكنها متاحف تفتقر إلى التطوير والتفاعل مثلما يحدث فى متحف قصر العيني، الذى يقول الدكتور المناوى إنه يعرض نحو 400 جنين مشوه، بخلاف حوالى ثلاثة آلاف قطعة أخرى من الأجنة المشوهة فى المخازن.

من ناحية أخرى، ليس كل أطباء النساء يمكنهم التعامل مع تشوهات الأجنة، هكذا يقول الدكتور المناوي، مضيفاً: كلنا فى النهاية نشكِّل منظومة متكاملة، لكل واحد فيها دوره، فهناك متخصصون فى تشوهات الأجنة، وغيرهم متخصص فى عيوب ومشكلات الجينات، ويكون اتخاذ قرار ولادة الطفل أو إجهاضه ناتجاً عن مشاورة بين جميع المختصين. أما بالنسبة إلى علاج الأجنة داخل الأرحام، فهناك حالات يتم علاجها بالفعل وهى لا تزال داخل الرحم، وهناك حالة أجريت لها عملية جراحية هى الأولى من نوعها فى مصر وكانت السيدة حاملاً فى توءم، أحدهما لديه ورم فى الرقبة يغلق القصبة الهوائية ويعيق التنفس، ولم يكن هناك إمكانية لعلاجه بعد الولادة لأن هذه العملية قد تستغرق أكثر من ربع ساعة، وإذا ظل الطفل بعد الولادة أكثر من 3 دقائق من دون تنفس سيتوقف المخ تماماً ويموت الطفل، فلم يكن أمامنا سوى إجرائها بالتنسيق مع أطباء أمريكيين متمرسين فى هذا النوع من العمليات.