جليلة القاضى
كنت في سن العاشرة يوم عدت من المدرسة وحكيت لأمي عن التلميذ الجديد في الفصل، وكونه طفلًا متبنى. رفعتْ رأسها عن ماكينة الحياكة المنكفئة عليها أبدًا، ويداها تعبثان بسروال لي كانت تصلحه، نظرت إلىَّ قائلة بدون مقدمات: وأنت أيضًا، يا بني. لم أعر الأمرَ اهتمامًا. توارى في قاع علبة الحياكة. ما لبث أن تسلل عبر أحراش غابة الخيوط ليبرز على السطح مرتين. في الأولي، لا أذكر المناسبة تحديدًا، صرختْ في أمي قائلا: على كل الأحوال لست أمي. لم أكن أعني ذلك على الإطلاق. في الثانية شاهدتها في المترو، على خط رقم 12 مع أخي التوأم. لم تحدثني عنه من قبل، ولم أطرح عليها أي سؤالٍ بشأنه.
منذ طفولتي المبكرة وأنا مولع بتقليد الآخرين والسخرية منهم، حتى ذاع صيتي بين الجيران والمعارف. في المرحلة الابتدائية، تغاضي المدرسون عن تعثري في الدراسة لإعجابهم بموهبتي. بفضلي، كانت المدرسة تحصل دائمًا على المركز الأول على مستوى المدينة في النشاط الفني. لم أكن مكترثا بالتعليم، لذا هجرته قبل الحصول على البكالوريا. التحقت بالعمل في علب الليل الصغيرة، وتدرجت في الوظائف السفلى من غاسل صحون، إلى نادل، ومن ثم إلى بارمان. كنت أشاهد الاستعراضات كل ليلة، وأحاكيها عندما أخلو بنفسي في غرفتي الملحقة بالمكان. أتسلل إلى الصالة في الساعات الأولي من الصباح كي أتدرب على العزف على البيانو حتى أصبحت أجيده إلى حد كبير.
في ليلة، ابتسم الحظ لي عندما تغيب أحد الراقصين لمرضه. عرضت على صاحب الفرقة أن أحل محله. صرت بعد ذلك أقدم عروض الاستربتيز بكفاءة أذهلت الجميع. ثم نجحت في تقديم نمرة جديدة، أظهرت مواهبي وأسلوبي الفريد في التقليد. توالت عليَّ العروض من أماكن أعلى مرتبة من علب الليل الصاخبة التي لا يتردد عليها سوى السكارى الباحثين عن متعة رخيصة. هكذا بدأت أضع قدمي على أول درجة في سلم المجد.
أنا اليوم ملك المونولوج في فرنسا. أظهر كل ليلة على خشبة مسرح يتوسطه بيانو خشبي عتيق، عاريًا كما ولدتني أمي التي أجهلها. لا يستر جسدي سوى سترينج بلون جلدي وقبعة سوداء تستقر على رأسي. ألقي مونولوجاتي الساخرة وأنا أعزف على البيانو، وأتطرق إلى مواضيع شتى أستمدها من الواقع، مركزًا على الكوميديا السوداء وما يحدث للإنسان في يومياته. لا أكف عن الحركة والتعبير الجسدي أثناء الغناء. أتوقف لإلقاء النكات وتقليد بعض الشخصيات العامة، وأتبادل القفشات مع الجمهور، فتشتعل القاعة بالضحك والتعليقات. أتحول إلى كرة من اللهب تتدحرج على خشبة المسرح الذي أملأ فراغه وحدي بحركات بهلوانية. أستعين ببعض الخدع البصرية لارتداء ملابسي قطعة قطعة، وأنا مستمر في العزف والتلوي كراقصي الاستربتيز. تتدلى الملابس الداخلية والقميص ناصع البياض برباط العنق الملتصق به من السقف؛ التقطها، وارتديها بخفة شديدة على أنغام الموسيقي وأنا أخاطب الجمهور ساخرًا من نفسي. تظهر البلاسرتين بردائهما المميز، المكون من تنورة قصيرة سوداء محبوكة على الجسد وبزة من اللون نفسه وبيريه مزين بأشرطة حمراء. تمشيان على نغمات مارش عسكري، تحملان السروال والريدنجوت والحذاء الأسود اللامع والجوارب. تساعدانني على ارتدائها، ونقف بعد ذلك في صف واحد ونقوم ثلاثتنا بأداء رقصة الكلاكيت. نتناول آلات افتراضية؛ كمان وكونترباس وساكسوفون، ونتخذ وضع العازفين ونوحي بعزف قطع من سيمفونيات عالمية تذاع من الخلفية. يصل أدائي إلى الذروة عند إلقائي مونولوجًا ساخرًا بأداء أوبرالي مبهر. ننهي، ثلاثتنا، العرض برقصة جماعية أخرى، تتحول خلالها أرديتنا الداكنة من اللون الأسود إلى الأبيض وسط تهليل الجمهور. يسدل الستار ويفتح عدة مرات، ولا نكف عن الانحناء. يطالبوننا بالمزيد، ونعيد آخر فقرة.
في ليلة لا تنسى، أثناء إلقائي لبعض القفشات، لمحتُ أخي التوأم يجلس وسط الجمهور في الصف الأخير. أخذ يتقدم كل ليلة إلى الأمام حتى وصل إلى الصف الأول. في لحظة فارقة، أثناء ارتدائي لملابسي على خشبة المسرح، بدأ هو في خلعها في القاعة معيدًا فقرتي من بدايتها بالبانتوميم، وهو ينحت كل مونولوجاتي متحركًا كالازميل بشكل رائع . أخذ الجمهور ينقل نظره بيننا مندهشًا في البداية. تصاعدتْ بعض التعليقات، ورددت عليها ساخرًا لأزيل توتري. استمررنا في أدائنا المتوازي، واعتقد الجمهور أنها نمرة جديدة، وصفقوا لنا كثيرًاة
فرض أخي التوأم نفسه على الجميع؛ صاحب الصالة والجمهور وأنا. أصبحنا نؤدي نمرتينا معًا، كالصورة والنيجاتيف، معتمدين على تقنيات جديدة تمزج بين فن البورليسك والبانتوميم. نتبادل أحيانًا الأدوار، فآتي أنا بحركات إيحائية ويفعل هو العكس. حققنا نجاحًا منقطع النظير. لم أعد أميز من منا الأصل ومن الصورة، وبمن يحتفي الجمهور. ظل ينتابني من آن لآخر حنين جارف لأدائي منفردًا دون رفيق أو قرين يقاسمني نجاحي الذي دفعتُ ثمنه غاليًا، ويخطف مني الأضواء بتميزه وبراعته في تماهيه معي.
كما ظهر أخي فجأة، اختفى. عدتُ ثانية أملأ خشبة المسرح وحدي دون شريك، بمعاونة البلاسيرات الحسناوات.
في ليلة فارقة أخرى، بعد انتهائي من أداء فقرتي، وجدت أمي التي لم تلدني في انتظاري في غرفتي. كانت على وشك الانتهاء من حياكة ثوب لارليكان. لم تكن وحدها، عكست المرايا وجود شرطيين في ركن مظلم، يضع كل منهما قناعًا لصورتي على وجهه؛ أحدهما عابس والآخر مبتسم.
> البلاسيرة مؤنث بلاسير، هو الموظف الذي يوجه المشاهد لمقعده في صالة العرض.
> القصة من مجموعة ا برج الحوت التى تنشر قريبا عن دار العين.. بتقديم الدكتور محمد المخزنجي