أبداع

الموت لا يُوجِع سوى الأحياء

الموت لا يُوجِع سوى الأحياء
الموت لا يُوجِع سوى الأحياء

سفيان‭ ‬البراق

فى‭ ‬السماء‭ ‬كانت‭ ‬الطيور‭ ‬مُحلقة‭ ‬ترمى‭ ‬ببصرها‭ ‬الأرض‭ ‬باحثةً‭ ‬عن‭ ‬فتات‭ ‬خبزٍ‭ ‬أو‭ ‬حبوباً‭ ‬تناثرت‭ ‬هنا‭ ‬أو‭ ‬هناك‭ ‬فى‭ ‬غفلة‭ ‬عن‭ ‬مشترى‭ ‬الأكياس‭. ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬تُخيفها‭ ‬الفزّاعات‭ ‬ولا‭ ‬ما‭ ‬يبتكرهُ‭ ‬الإنسان‭ ‬ليُرهبها‭. ‬اعتادت‭ ‬على‭ ‬حياة‭ ‬البشر،‭ ‬وسئمت‭ ‬من‭ ‬أفعالهم‭ ‬العُدوانية‭ ‬اتجاهها‭. ‬شُقّت‭ ‬السماء‭ ‬بخيوطٍ‭ ‬متّصلة‭ ‬من‭ ‬الماء،‭ ‬كان‭ ‬المطرُ‭ ‬ينهمرُ‭ ‬كشلّالٍ‭ ‬هادر‭. ‬الفرحُ‭ ‬مرادف‭ ‬لركض‭ ‬الغيوم‭ ‬فى‭ ‬السماء،‭ ‬إلى‭ ‬أنْ‭ ‬تُعتصر‭ ‬حتى‭ ‬تطلق‭ ‬ماءً‭ ‬يبعثُ‭ ‬برائحة‭ ‬التراب،‭ ‬ويُنعشُ‭ ‬شجرة‭ ‬الرّمان‭ ‬التى‭ ‬غرستها‭ ‬جدتى‭ ‬فى‭ ‬ركنٍ‭ ‬قصيٍّ‭ ‬بمنزلنا،‭ ‬ويُخلّفُ‭ ‬لوناً‭ ‬محمّراً‭ ‬يعلو‭ ‬وجوه‭ ‬النّاس‭ ‬من‭ ‬شدّة‭ ‬الغبطة‭ ‬والانتعاش‭. ‬تفرّقت‭ ‬السحب‭ ‬معلنةً‭ ‬عن‭ ‬شمسٍ‭ ‬دافئة‭ ‬بسطت‭ ‬نورها‭ ‬على‭ ‬الأرض،‭ ‬ووقفت‭ ‬متجبرةً‭ ‬فى‭ ‬السماء‭. ‬حينها‭ ‬تعالى‭ ‬إلى‭ ‬أذنى‭ ‬صراخ‭ ‬الأطفال‭ ‬يلعبون‭ ‬ويحفرون‭ ‬الأرض‭ ‬بعدما‭ ‬أصبحت‭ ‬رخوة،‭ ‬واكتسح‭ ‬الماء‭ ‬ترابها‭. ‬التحقت‭ ‬بهم‭ ‬وتجمهرنا‭ ‬حول‭ ‬ضايات‭ ‬الماء‭ ‬الصغيرة‭ ‬نرى‭ ‬فيها‭ ‬ملامح‭ ‬وقسمات‭ ‬وجوهنا‭ ‬المتطلّعة‭ ‬إلى‭ ‬مستقبل‭ ‬يحتضننا‭.‬

ضيّاءُ‭ ‬الشّمس‭ ‬أغرق‭ ‬القرية‭ ‬فى‭ ‬النّور‭. ‬المطر‭ ‬ومخلّفاته‭ ‬وحدها‭ ‬القادرة‭ ‬على‭ ‬بعثِ‭ ‬الأمل‭ ‬والسعادة‭ ‬بداخل‭ ‬كلِّ‭ ‬إنسان‭ ‬مهما‭ ‬كانت‭ ‬ظروفه‭. ‬أشحتُ‭ ‬بصرى‭ ‬عن‭ ‬ضاية‭ ‬الماء،‭ ‬ورمّقتُ‭ ‬أمّى‭ ‬تحملُ‭ ‬عصاً‭ ‬طويلة‭ ‬تتوعدنى‭ ‬بضربى‭ ‬بها‭ ‬على‭ ‬فخذاي،‭ ‬أو‭ ‬قدماي،‭ ‬أو‭ ‬بطني‭. ‬دائما‭ ‬تُوصى‭ ‬إخوتى‭ ‬بضربى‭ ‬فى‭ ‬أيّ‭ ‬مكان‭ ‬باستثناء‭ ‬رقبتى‭ ‬وما‭ ‬يعلوها‭. ‬اعتمرتُ‭ ‬نعلى‭ ‬ولُذتُ‭ ‬بالفرار‭. ‬خفتُ‭ ‬من‭ ‬ألم‭ ‬العصى‭ ‬الذى‭ ‬يمتزجُ‭ ‬ببرودة‭ ‬الطقس‭ ‬فيُخلِّفُ‭ ‬ألماً‭ ‬لا‭ ‬يُطاق‭ ‬البتة‭. ‬

تركتُ‭ ‬من‭ ‬هم‭ ‬فى‭ ‬مثل‭ ‬سنّى‭ ‬خوفاً‭ ‬من‭ ‬أمي‭. ‬عدت‭ ‬زهاء‭ ‬ساعة‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬يزيد‭ ‬عنها‭ ‬بقليل‭. ‬لعِبتُ‭ ‬واستمتعت‭ ‬بجو‭ ‬صحو‭ ‬بديع،‭ ‬جوٌّ‭ ‬يستحقٌّ‭ ‬لفتت‭ ‬انتباه‭ ‬وتدبّر‭ ‬فى‭ ‬إبداع‭ ‬الخالق‭. ‬قرّر‭ ‬ياسين،‭ ‬الذى‭ ‬لطالما‭ ‬تقاسم‭ ‬معى‭ ‬مقاعد‭ ‬الدراسة،‭ ‬أن‭ ‬نذهب‭ ‬إلى‭ ‬إحدى‭ ‬الحقول‭ ‬الفلاحية‭ ‬القريبة‭ ‬من‭ ‬منازلنا‭ ‬وأن‭ ‬نقطف‭ ‬ما‭ ‬جادت‭ ‬به‭ ‬أشجارها‭ ‬من‭ ‬بُرتقالٍ‭ ‬وتفاح‭. ‬أومأت‭ ‬برأسى‭ ‬موافقاً‭. ‬سِرتُ‭ ‬أنا‭ ‬وهو‭ ‬برفقة‭ ‬بعض‭ ‬الأصدقاء‭ ‬الآخرين‭. ‬سببُ‭ ‬سرعة‭ ‬اتفاقنا،‭ ‬وهو‭ ‬أنّ‭ ‬جل‭ ‬العمّال‭ ‬فى‭ ‬الحقول‭ ‬لا‭ ‬يعملون‭ ‬حينما‭ ‬تمطرُ‭ ‬السماء،‭ ‬وبالتالى‭ ‬فجلّ‭ ‬هذه‭ ‬الحقول‭ ‬تكون‭ ‬شبه‭ ‬فارغة‭ ‬باستثناء‭ ‬حرّاسها‭ ‬الذى‭ ‬يشتغلون‭ ‬ليل‭ ‬نهار‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬تعبت‭ ‬بغلّتها‭ ‬أيادى‭ ‬الغرباء‭ ‬والمتطفّلين،‭ ‬وأحيانا‭ ‬خوفاً‭ ‬من‭ ‬سرقة‭ ‬لوازم‭ ‬الكهرباء‭ ‬التى‭ ‬تكون‭ ‬فى‭ ‬غالب‭ ‬الأحيان‭ ‬باهظة‭ ‬الثّمن‭.‬

‭       ‬وصلنا‭ ‬فوجدنا‭ ‬الباب‭ ‬مقفلاً،‭ ‬وكلبٌ‭ ‬شرس‭ ‬فى‭ ‬الداخل‭ ‬ينبحُ‭ ‬دون‭ ‬توقف‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬شمّ‭ ‬رائحتنا‭ ‬غير‭ ‬المألوفة‭. ‬ابتعدنا‭ ‬عن‭ ‬الباب‭ ‬فقفزنا‭ ‬من‭ ‬ثغرة‭ ‬شوك،‭ ‬ودخلنا‭ ‬نمشى‭ ‬ببطء،‭ ‬لا‭ ‬يُسمع‭ ‬إلّا‭ ‬هسيسنا،‭ ‬أو‭ ‬همهمة‭ ‬أحدنا،‭ ‬فلم‭ ‬يتفوهُ‭ ‬أحدنا‭ ‬بصوتٍ‭ ‬جهورى‭ ‬قد‭ ‬يثير‭ ‬انتباه‭ ‬الحرّاس‭. ‬الحرّاس‭ ‬إذا‭ ‬ضبطوا‭ ‬أحدهم‭ ‬متلبساً‭ ‬بقطف‭ ‬شيء،‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬يتضوّر‭ ‬جوعاً،‭ ‬فإنّهم‭ ‬يستمتعون‭ ‬بتعذيبه‭ ‬ومعاقبته‭ ‬وتقديمه‭ ‬لمالك‭ ‬الضيعة،‭ ‬مستغلّين‭ ‬فرصة‭ ‬سانحة‭ ‬لتلقّى‭ ‬عبارات‭ ‬التنويه‭ ‬والإشادة،‭ ‬ولما‭ ‬لا‭ ‬التفاتة‭ ‬أكبر‭ ‬وتزداد‭ ‬أجرتهم‭.‬

توغلنا‭ ‬وسط‭ ‬الأشجار،‭ ‬نقطفُ‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الشجرة‭ ‬ونضع‭ ‬ثمارها‭ ‬فى‭ ‬جيوب‭ ‬سراويلنا‭ ‬وفى‭ ‬أقمصتنا،‭ ‬ونأكلُ‭ ‬من‭ ‬تلك‭. ‬كانت‭ ‬الضيعة‭ ‬زاخرةً‭ ‬بالثّمار‭. ‬شعرتُ‭ ‬أنّ‭ ‬قلبى‭ ‬سيثب‭ ‬خارج‭ ‬أضلاعى‭ ‬من‭ ‬فرطِ‭ ‬القوّة‭ ‬الّتى‭ ‬يخفِقُ‭ ‬بها‭. ‬لم‭ ‬أعد‭ ‬قادراً‭ ‬على‭ ‬التحمّل‭ ‬سيّما‭ ‬وأنّ‭ ‬الشّمس‭ ‬بدأت‭ ‬فى‭ ‬توديع‭ ‬يومٍ‭ ‬ممطر‭ ‬غيّبها‭ ‬بسبب‭ ‬السحب‭ ‬الكثيفة‭. ‬بدا‭ ‬لى‭ ‬الحقل‭ ‬موحشاً،‭ ‬واستشرى‭ ‬رعبٌ‭ ‬فى‭ ‬بدني،‭ ‬ورعشة‭ ‬باردة‭ ‬تسرى‭ ‬فى‭ ‬جسدي‭. ‬امتلأت‭ ‬أقدامنا‭ ‬بالوحل،‭ ‬وتبلّلت‭ ‬ثيابنا‭ ‬بسببِ‭ ‬قطرات‭ ‬الماء‭ ‬الباردة‭ ‬العالقة‭ ‬فى‭ ‬أوراق‭ ‬الأشجار‭. ‬مشينا‭ ‬قليلاً‭ ‬فكانت‭ ‬المفاجأة،‭ ‬حدّجتْ‭ ‬عيناى‭ ‬الجاحظتين‭ ‬رجلاً‭ ‬مستلقياً‭ ‬كجنديّ‭ ‬خارت‭ ‬قِواه‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬المعركة‭. ‬بدا‭ ‬لى‭ ‬فى‭ ‬البداية‭ ‬كحارسٍ‭ ‬من‭ ‬حرّاس‭ ‬الضيعة‭ ‬المعتوهين‭. ‬قلبى‭ ‬وجِلَ،‭ ‬والكلّ‭ ‬اجتاحهُ‭ ‬دبيبُ‭ ‬الخوف‭. ‬بدأوا‭ ‬يتراجعون‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬ينبسوا‭ ‬بكلمة‭. ‬بصوتٍ‭ ‬مرتجف‭ ‬حانق‭ ‬قلتُ‭:‬

‭     ‬ـ‭ ‬إنّه‭ ‬لا‭ ‬يتنفّس،‭ ‬انظروا‭ ‬إلى‭ ‬بطنه‭. ‬إنّه‭ ‬ثابت‭ ‬ومستقر‭. ‬ربما‭ ‬قد‭ ‬مات‭.‬

تحسستُ‭ ‬جبينى‭ ‬براحة‭ ‬يدي،‭ ‬كان‭ ‬ينضحُ‭ ‬عرقاً‭ ‬أفرزه‭ ‬الأدرينالين‭ ‬بسبب‭ ‬خوفى‭ ‬الزائد‭. ‬فى‭ ‬صمتٍ‭ ‬رهيب،‭ ‬وبخطواتٍ‭ ‬جدّ‭ ‬هادئة،‭ ‬اقتربنا‭ ‬منه‭ ‬فصُدمنا‭ ‬لهول‭ ‬المشهد‭ ‬الّذى‭ ‬ظلّ‭ ‬راسخاً‭ ‬فى‭ ‬ذاكرتى‭ ‬إلى‭ ‬حدود‭ ‬كتابةِ‭ ‬هذه‭ ‬الأسطُر‭. ‬أتطلّعُ‭ ‬إلى‭ ‬وجهه‭ ‬المُكتسى‭ ‬بالتجاعيد‭ ‬فتتبدى‭ ‬لى‭ ‬دروبُ‭ ‬الحياة‭. ‬له‭ ‬وجه‭ ‬دائري،‭ ‬ضخمُ‭ ‬الجثة،‭ ‬ولحية‭ ‬كثّة،‭ ‬أصلع‭ ‬الرأس،‭ ‬ميّتٌ‭ ‬ومضرجٌ‭ ‬بالدماء‭. ‬ربّما‭ ‬قُتِل‭ ‬فى‭ ‬ليلة‭ ‬الأمس‭ ‬الماطرة‭. ‬أطفالٌ‭ ‬صغار‭ ‬فى‭ ‬عمر‭ ‬الورد‭ ‬مثل‭ ‬أزهارٍ‭ ‬ربيعية‭ ‬يانعة،‭ ‬يرون‭ ‬مشهداً‭ ‬كهذا‭.‬

اتفقنا‭ ‬ألّا‭ ‬نخبر‭ ‬أحداً،‭ ‬وأقسمنا‭ ‬وأعطينا‭ ‬الوعد‭ ‬دون‭ ‬الإخلال‭ ‬به‭. ‬دلفتُ‭ ‬إلى‭ ‬البيت‭ ‬وأنا‭ ‬شارد‭ ‬الذهن،‭ ‬وسيناريوهات‭ ‬تنسج‭ ‬فى‭ ‬ذهني،‭ ‬وأفكار‭ ‬عدّة‭ ‬تطوف‭ ‬بذهنى‭ ‬محدثةً‭ ‬رجّة‭ ‬كبيرة‭ ‬بداخلي‭. ‬لمّا‭ ‬رأتنى‭ ‬أمّى‭ ‬توعدتنى‭ ‬بأن‭ ‬تبرحنى‭ ‬ضرباً،‭ ‬فلم‭ ‬أُعِرها‭ ‬اهتماماً،‭ ‬فتفاجأت‭ ‬لأمري،‭ ‬واقتربت‭ ‬مني،‭ ‬والليل‭ ‬حينها‭ ‬قد‭ ‬أبسط‭ ‬قبضته‭ ‬على‭ ‬السماء،‭ ‬والهواء‭ ‬كان‭ ‬بارداً،‭ ‬وأنا‭ ‬أرتجف،‭ ‬وأحملُ‭ ‬فى‭ ‬جيوبى‭ ‬برتقالتين‭ ‬وتفاحة‭. ‬وأحفر‭ ‬الأرض‭ ‬بعيونى‭ ‬المندهشتين‭. ‬بقيتُ‭ ‬على‭ ‬نفس‭ ‬الحال‭ ‬حتى‭ ‬تلقّيتُ‭ ‬صفعةً‭ ‬من‭ ‬والدي،‭ ‬صفعةٌ‭ ‬أفاقتنى‭ ‬من‭ ‬تيهى‭ ‬الكبير‭.‬

رأيتُ‭ ‬الجثث‭ ‬الهامدة‭ ‬فى‭ ‬الأفلام‭ ‬التى‭ ‬تتناولُ‭ ‬قصص‭ ‬الحروب‭ ‬التاريخية،‭ ‬أو‭ ‬التى‭ ‬سلّطت‭ ‬الضوء‭ ‬على‭ ‬تصفية‭ ‬الحسابات؛‭ ‬متطرّقة‭ ‬لجزءٍ‭ ‬مطمور‭ ‬من‭ ‬التاريخ،‭ ‬وهو‭ ‬تاريخ‭ ‬الاغتيالات‭ ‬السياسية‭ ‬التى‭ ‬راح‭ ‬ضحيّتها‭ ‬شبابٌ‭ ‬يانعون،‭ ‬أو‭ ‬رجال‭ ‬رفضوا‭ ‬الانصياع‭ ‬لتعليمات‭ ‬تتنافى‭ ‬كلياً‭ ‬مع‭ ‬مبادئهم‭ ‬وأيديولوجياتهم‭ ‬التى‭ ‬تربوا‭ ‬عليها‭ ‬وتشبّعوا‭ ‬بها‭ ‬حدّ‭ ‬النخاع‭. ‬اليوم‭ ‬كُتِب‭ ‬لى‭ ‬أن‭ ‬أرى‭ ‬جثة‭ ‬رجلٍ‭ ‬ميّت‭. ‬يا‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬قدر‭. ‬لم‭ ‬أستطع‭ ‬النوم‭ ‬تلك‭ ‬الليلة‭. ‬تجمّعت‭ ‬السحب‭ ‬وبدأتِ‭ ‬السماء‭ ‬ترسلُ‭ ‬مياهاً‭ ‬باردة‭ ‬تحفرُ‭ ‬الأرض‭ ‬مصدرةً‭ ‬صوتاً‭ ‬ارتاح‭ ‬له‭ ‬قلبي‭. ‬فتحتُ‭ ‬باب‭ ‬الغرفة،‭ ‬دون‭ ‬إشعال‭ ‬مصباحها،‭ ‬وبقيت‭ ‬جانب‭ ‬الباب‭ ‬أسمع‭ ‬صوت‭ ‬حبّات‭ ‬المطر‭ ‬تداعبُ‭ ‬الأرض،‭ ‬وبرقٌ‭ ‬يُخترق‭ ‬السماء‭ ‬فى‭ ‬جو‭ ‬ربّانيٍّ‭ ‬مهيب‭. ‬قُبيل‭ ‬الفجر‭ ‬بقليل‭ ‬غفوت،‭ ‬ولم‭ ‬أستيقظ‭ ‬إلّا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬سمعتُ‭ ‬أمى‭ ‬توقظنى‭ ‬وأنا‭ ‬نائم‭ ‬قرب‭ ‬باب‭ ‬غرفتى‭ ‬مباشرةً‭. ‬نسيت‭ ‬أنّه‭ ‬يوم‭ ‬الإثنين؛‭ ‬يومٌ‭ ‬عند‭ ‬غيري،‭ ‬على‭ ‬الأرجح،‭ ‬ثقيل‭ ‬على‭ ‬النّفس‭ ‬وكم‭ ‬تمنّيت‭ ‬أن‭ ‬يُحذف‭ ‬من‭ ‬اليومية‭. ‬الإثنين‭ ‬هو‭ ‬سليل‭ ‬أيام‭ ‬الآحاد‭ ‬الكئيبة‭.‬

دخلتُ‭ ‬القسم‭ ‬ورميتُ‭ ‬زملائى‭ ‬الذين‭ ‬حضروا‭ ‬الواقعة‭ ‬بنظرة‭ ‬استغراب‭. ‬كانوا‭ ‬مثلى‭ ‬مشتتى‭ ‬الذهن،‭ ‬مفزوعين‭. ‬جالت‭ ‬فى‭ ‬خاطرى‭ ‬هواجس‭ ‬عديدة‭. ‬على‭ ‬رأسها‭ ‬هاجسُ‭ ‬رؤية‭ ‬دركيّ‭ ‬يسألنى‭ ‬بنبرته‭ ‬الحادّة‭. ‬مرّت‭ ‬ساعات‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم‭ ‬ثقيلة‭ ‬كالحجر‭. ‬فور‭ ‬خروجنا‭ ‬اجتمعنا‭ ‬نحن‭ ‬الخمسة‭ ‬وتضاربت‭ ‬أفكارنا‭ ‬فى‭ ‬نقاشٍ‭ ‬حاد‭. ‬بين‭ ‬من‭ ‬فضّل‭ ‬إخبار‭ ‬أفراد‭ ‬أسرته‭ ‬لأنّه‭ ‬لا‭ ‬يقوى‭ ‬على‭ ‬كتم‭ ‬سرٍّ‭ ‬كهذا،‭ ‬وبين‭ ‬من‭ ‬فضّل‭ ‬التزام‭ ‬الصمت،‭ ‬وأنا‭ ‬كنت‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الفئة‭. ‬الصمتُ‭ ‬حكمةٌ‭ ‬متاحةٌ‭ ‬لمن‭ ‬شاء‭. ‬وما‭ ‬هى‭ ‬إلّا‭ ‬ساعات‭ ‬قليلة‭ ‬حتى‭ ‬ذاع‭ ‬صيتُ‭ ‬الخبر‭ ‬فى‭ ‬جلّ‭ ‬أرجاء‭ ‬القرية‭ ‬بسرعة‭ ‬كبيرة،‭ ‬كسرعة‭ ‬النّار‭ ‬فى‭ ‬الهشيم،‭ ‬وحجّ‭ ‬أهل‭ ‬القرية‭ ‬إلى‭ ‬الضيعة‭ ‬المقصودة،‭ ‬وتعالت‭ ‬الأصوات‭ ‬المندّدة‭ ‬بهذه‭ ‬الجريمة‭ ‬النّكراء‭. ‬حضرت‭ ‬الجهات‭ ‬المختصّة،‭ ‬تتقصى‭ ‬ظروف‭ ‬ومُلابسات‭ ‬الحادث‭. ‬سيخوضون‭ ‬باستفاضة‭ ‬فى‭ ‬الأسباب‭ ‬والدوافع‭ ‬التى‭ ‬أدّت‭ ‬بالجانى‭ ‬إلى‭ ‬ارتكاب‭ ‬هذا‭ ‬الفعل‭ ‬الجُرمى‭ ‬الشّنيع‭.‬

فاتحتُ‭ ‬أمى‭ ‬فى‭ ‬الموضوع‭ ‬بسلاسةٍ‭ ‬لغوية‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬أبدى‭ ‬أيّ‭ ‬ارتباك‭. ‬وأخبرت‭ ‬والدى‭ ‬أيضاً،‭ ‬وانفجر‭ ‬فى‭ ‬وجهى‭ ‬كالبُركان،‭ ‬وهمّ‭ ‬بصفعى‭ ‬وضربي،‭ ‬لولا‭ ‬تدخل‭ ‬أمي‭. ‬علته‭ ‬على‭ ‬انزعاجه‭ ‬هو‭ ‬خوفه‭ ‬عليّ‭ ‬من‭ ‬أى‭ ‬متابعة‭ ‬أو‭ ‬تحقيق‭ ‬قد‭ ‬يجرُّ‭ ‬عليّ،‭ ‬برفقة‭ ‬زملائي،‭ ‬القيل‭ ‬والقال،‭ ‬وأنا‭ ‬لازلتُ‭ ‬فى‭ ‬عمر‭ ‬الزهور‭. ‬فنحن‭ ‬المغاربة‭ ‬نبدعُ‭ ‬فى‭ ‬تقصّى‭ ‬الأخبار،‭ ‬ونكون‭ ‬أكثر‭ ‬إبداعاً‭ ‬فى‭ ‬ليِّ‭ ‬ذراع‭ ‬الخبر‭ ‬وإضافة‭ ‬بعض‭ ‬التوابل‭ ‬والبهارات‭ ‬حتى‭ ‬يستطيب‭ ‬الخبر‭ ‬للجميع‭ ‬ويندرج‭ ‬ضمن‭ ‬حقل‭ ‬الأكشن‭ ‬المُشوّق‭. ‬

إذا‭ ‬عدنا‭ ‬إلى‭ ‬الأماكن‭ ‬نفسها‭ ‬فمن‭ ‬يُعيد‭ ‬إلينا‭ ‬الرّفاق‭. ‬هكذا‭ ‬أقول‭ ‬فى‭ ‬قرارة‭ ‬نفسى‭ ‬كلّما‭ ‬عدتُ‭ ‬إلى‭ ‬القرية،‭ ‬وأمرّ‭ ‬من‭ ‬نفس‭ ‬الأزقة،‭ ‬وأجلس‭ ‬تحت‭ ‬الجدار‭ ‬الطيني،‭ ‬وأشاهد‭ ‬شموخ‭ ‬صومعة‭ ‬المسجد‭ ‬الواقفة‭ ‬بعزّة‭ ‬منذ‭ ‬عقودٍ‭ ‬خلت،‭ ‬أرى‭ ‬الحقول‭ ‬الفلاحية‭ ‬وهى‭ ‬تتلاشى‭ ‬الواحد‭ ‬تلو‭ ‬الآخر،‭ ‬وأرى‭ ‬زحفاً‭ ‬عمرانياً‭ ‬رهيباً‭ ‬تغلّب‭ ‬على‭ ‬أراضٍ‭ ‬زراعية‭ ‬كانت‭ ‬مرتعاً‭ ‬مُريحاً‭ ‬للكلاب‭ ‬الضالّة‭ ‬ولكل‭ ‬من‭ ‬قادتهُ‭ ‬سبل‭ ‬الحياة‭ ‬إلى‭ ‬قريتنا،‭ ‬فيفترشُ‭ ‬ترابها‭ ‬فى‭ ‬سكينةٍ‭ ‬وطمأنينة‭ ‬منقطعة‭ ‬النّظير‭. ‬والنخل‭ ‬باسطٌ‭ ‬قاماته‭ ‬السامقة‭ ‬لم‭ ‬يدم‭ ‬شموخه‭ ‬طويلا‭ ‬فاقتلع‭ ‬وقتلت‭ ‬جذوره،‭ ‬والأماكن‭ ‬التى‭ ‬لعبتُ‭ ‬فيها‭ ‬وارتميتُ‭ ‬فى‭ ‬حضنها‭ ‬تغيّرت‭ ‬واختفت‭ ‬معالمها‭.‬

الرجل‭ ‬المقتول‭ ‬رحل‭ ‬إلى‭ ‬مثواه‭ ‬الأخير‭. ‬عُرِف‭ ‬قاتله‭ ‬الذى‭ ‬اعترف‭ ‬بأنّ‭ ‬سبب‭ ‬قتله‭ ‬للضحية‭ ‬بمدية،‭ ‬يعودُ‭ ‬لسنوات‭ ‬التسعينات،‭ ‬بعدما‭ ‬تسبّب‭ ‬له‭ ‬الضحية‭ ‬فى‭ ‬ردعه‭ ‬فى‭ ‬السجن،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬قام‭ ‬بتلفيق‭ ‬تهمةٍ‭ ‬له،‭ ‬قضى‭ ‬جرّاءها‭ ‬عقداً‭ ‬كاملاً‭ ‬من‭ ‬الزمن‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يقترفها‭. ‬قلة‭ ‬فطنتهُ‭ ‬جعلتهُ‭ ‬يعود‭ ‬للسجن‭ ‬بعد‭ ‬شهرٍ‭ ‬فقط‭ ‬من‭ ‬خروجه‭. ‬جروح‭ ‬الماضى‭ ‬لا‭ ‬تُنسى‭. ‬مشهد‭ ‬الضحية‭ ‬وهو‭ ‬مرميٌّ‭ ‬وسط‭ ‬أشجار‭ ‬البرتقال‭ ‬أبى‭ ‬أن‭ ‬يُمحى‭ ‬من‭ ‬ذاكرتي‭. ‬أُلقيّ‭ ‬القبض‭ ‬على‭ ‬القاتل‭ ‬بعدما‭ ‬فرّ‭ ‬إلى‭ ‬شمال‭ ‬البلاد،‭ ‬هناك‭ ‬بطنجة،‭ ‬الّتى‭ ‬تعجُّ‭ ‬بالكثير‭ ‬من‭ ‬الحياة،‭ ‬سيُضبط‭ ‬وهو‭ ‬يتخفّى‭ ‬خلسة‭ ‬وسط‭ ‬الركاب‭ ‬فى‭ ‬حافلة‭ ‬متشرذمة‭ ‬آملاً‭ ‬فى‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬حدود‭ ‬سبتة‭ ‬حتى‭ ‬يتمكّن‭ ‬من‭ ‬استنشاق‭ ‬هواء‭ ‬الحريّة‭ ‬العليل‭ ‬على‭ ‬أراضى‭ ‬الضفة‭ ‬الأخرى،‭ ‬التى‭ ‬يتمنّى‭ ‬كل‭ ‬مغربى‭ ‬تدبُّ‭ ‬فيه‭ ‬الحياة‭ ‬أن‭ ‬يبلغها‭ ‬ولو‭ ‬بشقِّ‭ ‬الأنفُس‭.‬

كبرتُ‭ ‬وكَبُرَتْ‭ ‬معى‭ ‬القرية‭ ‬كنباتٍ‭ ‬بريٍّ‭ ‬على‭ ‬ضفاف‭ ‬النّهر‭. ‬ذلك‭ ‬اليوم‭ ‬السيئ‭ ‬تمنّيتُ‭ ‬ألّا‭ ‬يُعاد،‭ ‬حيث‭ ‬خلّف‭ ‬بداخلى‭ ‬نفسيةً‭ ‬مهزوزة‭. ‬أمضغُ‭ ‬الحسرة‭ ‬كلّما‭ ‬طفت‭ ‬ذكريات‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم‭. ‬كلّما‭ ‬أخذنى‭ ‬شريطُ‭ ‬الذّكريات‭ ‬غرقت‭ ‬عيونى‭ ‬فى‭ ‬الدموع‭. ‬لكلّ‭ ‬دمعةٍ‭ ‬مُبرِّر‭. ‬فى‭ ‬الأعياد‭ ‬والمناسبات‭ ‬عندما‭ ‬يجتمع‭ ‬الرّفاق‭ ‬يطبق‭ ‬صمت‭ ‬مديد‭ ‬على‭ ‬أفواهنا‭ ‬كحزنٍ‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬رأيناه‭.‬

توالت‭ ‬السنون‭ ‬المريرة‭ ‬تاركةً‭ ‬هاجس‭ ‬الخوف‭ ‬يُعذبني‭. ‬نخرتنى‭ ‬ذكريات‭ ‬الماضى‭ ‬كما‭ ‬تنخرُ‭ ‬دودةُ‭ ‬القزّ‭ ‬ورق‭ ‬العنب‭. ‬عدتُ‭ ‬ذات‭ ‬صيفٍ،‭ ‬بعد‭ ‬شهورٍ‭ ‬قضيتها‭ ‬فى‭ ‬مدينةٍ‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬التناقضات‭ ‬ما‭ ‬تُلفِتُ‭ ‬نظرَ‭ ‬الأعمى،‭ ‬وكومةٌ‭ ‬من‭ ‬الأسئلة‭ ‬تُحاصرنى‭ ‬يستحيلُ‭ ‬الهروب‭ ‬منها‭. ‬استيقظت‭ ‬ذات‭ ‬صباح،‭ ‬أمدُّ‭ ‬يدى‭ ‬لأتحسّس‭ ‬زرّ‭ ‬مشغل‭ ‬المصباح‭ ‬فوق‭ ‬رأسي،‭ ‬تنتشرُ‭ ‬دفقات‭ ‬نور‭ ‬الكهرباء‭ ‬فى‭ ‬الغرفة‭ ‬بكبسة‭ ‬واحدة،‭ ‬أتحقّقُ‭ ‬من‭ ‬الساعة،‭ ‬يُشيرُ‭ ‬عقرباها‭ ‬إلى‭ ‬السادسة‭ ‬صباحاً،‭ ‬لا‭ ‬يزالُ‭ ‬أمامى‭ ‬متّسعٌ‭ ‬من‭ ‬الوقت‭ ‬لأنام‭. ‬العُطلة‭ ‬هى‭ ‬للرّاحة،‭ ‬فكلّ‭ ‬عطلةٍ‭ ‬تتخلّلها‭ ‬التزامات‭ ‬ومواعيد‭ ‬ما‭ ‬هى‭ ‬بعطلة‭. ‬أستلقى‭ ‬مجدداً‭ ‬على‭ ‬ظهري،‭ ‬أشبِكُ‭ ‬أصابعى‭ ‬خلف‭ ‬رقبتي،‭ ‬أرفعُ‭ ‬بصرى‭ ‬إلى‭ ‬السقف،‭ ‬أثبتهُ،‭ ‬تتّسعُ‭ ‬حدقتا‭ ‬عينى‭ ‬إلى‭ ‬أنْ‭ ‬يغشى‭ ‬الرؤية‭ ‬ضبابٌ‭ ‬وهميٌّ‭. ‬يُخيّمُ‭ ‬سكونٌ‭ ‬ثقيل‭ ‬على‭ ‬الغرفة،‭ ‬أتنهدُ‭ ‬بعمق،‭ ‬شهيقاً‭ ‬ببطء‭ ‬ثم‭ ‬زفيراً‭. ‬تمرُّ‭ ‬صوّر‭ ‬الّذين‭ ‬عرفتهم‭ ‬طوال‭ ‬حياتي،‭ ‬أسماءٌ،‭ ‬وجوهٌ‭ ‬وأصوات،‭ ‬أناسٌ‭ ‬سرقتهم‭ ‬الحياة،‭ ‬آخرون‭ ‬سافروا‭ ‬إلى‭ ‬وجهات‭ ‬مجهولة،‭ ‬وجميعهم‭ ‬يحتشِدون‭ ‬أمامي،‭ ‬إنّه‭ ‬وقتهم‭ ‬المفضّل‭ ‬للظهور‭. ‬أنامُ‭ ‬مجدّداً‭ ‬فيُصابُ‭ ‬شريط‭ ‬الذكريات‭ ‬الحادة‭ ‬بكآبة‭ ‬تعصفُ‭ ‬به‭ ‬لبرهة‭. ‬أفيقُ‭ ‬مجدداً‭ ‬فأجد‭ ‬صداعاً‭ ‬يستولى‭ ‬على‭ ‬جمجمتى‭ ‬فأسقطُ‭ ‬أسيراً‭ ‬للهواجس‭ ‬وللذكريات‭ ‬المريرة‭ ‬التى‭ ‬أتوجّسُ‭ ‬منها‭.‬