خليل النعيمى
كان يحسب أنه لا يعرف الكذب أو هو يدّعى هذه الميزة وهو فى الحقيقة كائن ذو حدّين يكذب وهو صادق وعندما يقول الصدق يتفنّن فى التكذّب فيه صعوبة الوجود علَّمَتْه الالْتِواء فصار كالماء يتجنّب العوائق ويجرى إلى مصيره بتصميم وكأنه مدفوع إليه بقوة قاهرة وعندما وجد نفسه غارقاً فى نقطة الوجود الملتبسة هذه أحس بنوع من الارتباك فصار يريد أن يغيِّر كل شىء ولكن أنّى له أن يستعيد الزمن والإمكانيات للخلاص ممّا هو فيه لذا بدت له تلك الرغبة اللا معقولة فى العَوْد الأبدى جهْداً بلا معنى وخطرَ له أن القبول بوضعه الحالى هو الأقل سوءًا إنْ لمْ يكنْ أفضل الحلول لكنه قضى حياته وهو يهرب من الأقل سوءاً ومن أفضل الحلول حتى بدا له ذلك الهروب المزمن جنوناً وقد صار عبئاً بعد أن كان متعة مع ذلك كان عليه أن يستحثّ إمكانياته كلها من أجل الوصول إلى سَويّة مقبولة ونحن نعرف أن المخبّأ فى أعماقنا كثير فليبحث فى الزوايا المهملة من وجوده عمّا يمكن أن ينقذه من الجنوح الآسر الذى يراه واقفاً بين عينيه هو لا يدرى كيف انفتح باب أعماقه ولا من فتحه ومَنْ سيكون غيره لا بد أن يكون هو نفسه الذى فتح باب وجوده الخبىء فرأى الأعاجيب فأغمض عينيه من جديد وهو يحاول أن ينام وقبل أن يغفو رأى المخلوقات التى كانت هاجعة تتململ متحفزة تريد الخروج لكأنها مَلَّتْ ظلام النسيان ولم تعد تريد أن تبقى حبيسة الأبدية ومن دون أن يسمح لها أحاطت به الأشياء والأسمال والدروب والكلمات والنساء اللواتى عرفهنّ ولم يعد يعرفهن وتوَهَّم أنه تحرر منهن إلى الأبد وهذه أفضل الكلمات التى تعبّر عن أمانيه يريد أن يتخلّص من كل شىء إلى الأبد هذا ما كان يريد أن يفعله أثناء أول النوم الذى لم يعد يكتمل نوم كأنه اليقظة الفاضحة ماذا يفعل إذن يغلق فضاءه النفسى لئلاّ تلتهمه كائنات حياته وأشياؤها المخبّأة منذ سنين وقد غدتْ على أهبّة الانبثاق كيف يواجهها وماذا يفعل غير أن يَلفَّ نفسه بثيابه الرقيقة ويحاول أن يصل إلى الفجر لكن الفجر لا يزال بعيداً فجر آخر الليل الكئيب وهو لا يحبّ الكآبة لكن الحب والكره ليسا من خصائص الكائن الأساسية حتى يتخلّص منهما بسهولة إنهما مفروضان عليه بقوة الحياة التى لا تتوقف عن المرور ولمرورها طَعْم الدُفْلى فى فمه الذى غدا يابساً من الظمأ كيف يصل إلى النبع ومتى لا أحد يعلم العِلْم هو الآخر صار محنة وكان يعتقد أنه سيحصل عليه بمجرد تحريك قدميه لكن قدمَيْه لا تستجيبان له أو هما لم تعودا قادرتين على الاستجابة لما يريد منهما فليدعهما فى النسيان وليبحث عن وسيلة أخرى أكثر جدوى علّه يستطيع أن يبلّ ريقه الناشف من الماء المنهمر من الثدى الرحيم هو لا يريد أن يموت ناحِلاً رقيق العظام مثل جَدْى نَسِيه الرعاة فى بادية الشام يريد أن يظل مشبوب العواطف نَديّاً لكن لسانه صار قَصَباً من الجفاف ولم يعد يبتدع الكلمات غدا قطعة من لحم فاسد يسدّ حلقه وقد يُسبِّب اختناقه بعد قليل وذاك الهُباب الأسود الرهيب لماذا لا يتوقف وقد قاومه بكل طاقته وأنهكَ قِواه لمنعه من الهُبوب دون جدوى كان سعيداً بما حققه بالرغم من وضعه الصعب ومجيداً فى فعله وها هو ذا يجد نفسه فريداً فى شقائه المتمثّل بالعصيان الآسر الذى يكبِّل أعضاءه ويملأ أحشاءه بالخشية والنكوص أيكون السوء كامناً فى ما يسميه نجاحاً بلى اليوم هو متأكِّد من هذا ولكن هل يوجد نجاح بلا فشل لا وهل ثمة من خلاص لا لقد أحسّ فى تلك اللحظة بأنه يواجه وضْعاً جديداً لا علاقة له بما عرفه من أوضاع انتبهْ صرخ فى أعماقه الصامتة متَحذِّراً من الانهيار الذى صار يراه قابعاً على عتبة نفسه التى لم تعد تريد أن تدرك الأمور لقد حرَنَتْ مثل حمار عنيد ماذا يفعل إذن يفتح عينيه ليرى النور لكن النور هو وجه الظلام الآخر عليه أن يبحث عن وسيلة أخرى إذا أراد أن يظلّ حيّاً كان يقف على شاطىء البحر وتحت رذاذ الماء الآتى من آخر الأرض بدأ ينادى نفسه باسمه بصوت عالٍ أجاب نعم قال اجلسْ فجلسَ قال اُنْظُرْ فنظرَ ماذا ترى الآن فى وجهكَ الماء وبين عينيكَ ما لا يحصى من الأشياء ومن الكائنات أرى القليل والبحر هل ترى البحر أى بحر تعنى أجابَ وهو يبحث حوله بلا جدوى بعد عشرات السنين على شاطىء المتوسّط الاسطورى حيث الحُصن التاريخى يتسلّط على الفضاء المنفتح على اللانهاية كان يرى نفسه وحيداً على ذلك الشاطىء الأندلسيّ الصغير المحصور بين الجبال السود المهيمنة على الفضاء كان يحاول أن يستحضر كل شىء كل ما عرفه من قبل ليواجهه لكأنه يريد أن يفتح دفتر حياته المغلق ليقرأ ما كتبه الزمن السحيق على صفحاته التى اهترأت من النسيان فى ذلك الصبح الهادىء مثل أصباح بادية الشام البعيدة كان يحكى كثيراً وبلا ترتيب الكلمات تنبثق من عقله قبل أن يلفظها لسانه كان يكلِّم البحر بمودة وكأنه يكلّم صديقاً قديماً نسى شكله مع أنه ماثل أمام عينيه يريد أن يفضح نفسه أمامه بلا حياء ولكن مَنْ يسمع فليتكلّم مع الماء الأصم الذى كان محور وجوده فى البادية ومنقذه فى بيروت وها هو الآن تحت قدميه يداعب مُويجاته الصغيره مغمضاً عينيه ومتوجّهاً نحو الشرق الماء والشرق هما أساس تاريخه وهو يعرف أن ما يبدو له بالرغم من سطوعه وَهْم خالص لكنه لم يكن على يقين من ذلك أيضاً كان يرى بقلبه أكثر مما يرى بعينيه ورؤية القلب خلاّبة تجلب الوهم وتسرق الوَعْيَ غموضها يخلط أشياء الحياة كما يخلط العطّار الماهر بضائعه بتأثيرها نغطس فى أحواض الماضى المليئة بالنفايات ونشمّ روائح نسيناها ونكاد نلمس أجساداً كانت تثير مخيلتنا الحسية كثيراً ارتعب من هذه الخواطر اللا متوقّعة فى ذلك الصبح المريب الآن هو يريد أن يرى بعينيه لا بقلبه لكن ذلك مستحيل كان عليه أن يمعن النظر عندما كانت الأشياء بين يديه وملء عينيه وفى أنفه أُنظرْ هذا هو الشرق يخاطب نفسه أين هو الشرق الشرق فى هذا الفضاء المائي اللامحدود بلى أُنظر الشمس التي تنزلق على وجه البحر مثل الفضة السائلة آتية من الشام حتى النقطة التى أنتَ فيها كان لا يزال جالساً على حافة الماء ويفكِّر لم أفعل لهم ما فعله أهلى لى كان الندم يعذبه وَهَمَّ أن يقذف بنفسه فى الماء طالباً من البحر أن يأخذه إلى هناك مُكلِّماً إيّاه بثقة لا تقبل الشكّ جئت مع البحر ومع البحر أعود لكن البحر هو الآخر له أهواؤه ومقولاته البحر لا يخضع لرغبة العابرين الذين يركبون أمواجه وأعماقهم ملأى بالأفكار والأمنيات وعندما أصرَّ على فكرته اللامعقولة سمع البحر يقول له بوضوح إن ما يطلبه منه غير ممكن لأنه عكس حركة التاريخ ولم يقتنع لأول وهلة فأكّد له البحر سريعاً ما قاله منذ قليل إنه عكس حركة الماء التى لا تعود القهقرى وسمع البحر يصرخ فيه بقوة وااااااش تُشششتْ صرخ البحر بغضب وعنف هزّ صخور الجبل التى أخذت ترتجّ تحت قدميه فأحسّ بلَطْمة الموج العاتى على جسده الذى صار ماء فأفاق مرعوباً وهو يتمتِم كأنها انتهَتْ.
نصوص لـ :
خليل النعيمى - سفيان البراق
جليلة القاضى