أبداع

الرجل الذى يكلِّم البحر

اللوحات للفنان: محمود خطاب
اللوحات للفنان: محمود خطاب

خليل‭ ‬النعيمى

‭      ‬كان‭ ‬يحسب‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬الكذب‭ ‬أو‭ ‬هو‭ ‬يدّعى‭ ‬هذه‭ ‬الميزة‭ ‬وهو‭ ‬فى‭ ‬الحقيقة‭ ‬كائن‭ ‬ذو‭ ‬حدّين‭ ‬يكذب‭ ‬وهو‭ ‬صادق‭ ‬وعندما‭ ‬يقول‭ ‬الصدق‭ ‬يتفنّن‭ ‬فى‭ ‬التكذّب‭ ‬فيه‭ ‬صعوبة‭ ‬الوجود‭ ‬علَّمَتْه‭ ‬الالْتِواء‭ ‬فصار‭ ‬كالماء‭ ‬يتجنّب‭ ‬العوائق‭ ‬ويجرى‭ ‬إلى‭ ‬مصيره‭ ‬بتصميم‭ ‬وكأنه‭ ‬مدفوع‭ ‬إليه‭ ‬بقوة‭ ‬قاهرة‭ ‬وعندما‭ ‬وجد‭ ‬نفسه‭ ‬غارقاً‭ ‬فى‭ ‬نقطة‭ ‬الوجود‭ ‬الملتبسة‭ ‬هذه‭ ‬أحس‭ ‬بنوع‭ ‬من‭ ‬الارتباك‭ ‬فصار‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يغيِّر‭ ‬كل‭ ‬شىء‭ ‬ولكن‭ ‬أنّى‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬يستعيد‭ ‬الزمن‭ ‬والإمكانيات‭ ‬للخلاص‭ ‬ممّا‭ ‬هو‭ ‬فيه‭ ‬لذا‭ ‬بدت‭ ‬له‭ ‬تلك‭ ‬الرغبة‭ ‬اللا‭ ‬معقولة‭ ‬فى‭ ‬العَوْد‭ ‬الأبدى‭ ‬جهْداً‭ ‬بلا‭ ‬معنى‭ ‬وخطرَ‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬القبول‭ ‬بوضعه‭ ‬الحالى‭ ‬هو‭ ‬الأقل‭ ‬سوءًا‭ ‬إنْ‭ ‬لمْ‭ ‬يكنْ‭ ‬أفضل‭ ‬الحلول‭ ‬لكنه‭ ‬قضى‭ ‬حياته‭ ‬وهو‭ ‬يهرب‭ ‬من‭ ‬الأقل‭ ‬سوءاً‭ ‬ومن‭ ‬أفضل‭ ‬الحلول‭ ‬حتى‭ ‬بدا‭ ‬له‭ ‬ذلك‭ ‬الهروب‭ ‬المزمن‭ ‬جنوناً‭ ‬وقد‭ ‬صار‭ ‬عبئاً‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬كان‭ ‬متعة‭ ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬كان‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يستحثّ‭ ‬إمكانياته‭ ‬كلها‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬سَويّة‭ ‬مقبولة‭ ‬ونحن‭ ‬نعرف‭ ‬أن‭ ‬المخبّأ‭ ‬فى‭ ‬أعماقنا‭ ‬كثير‭ ‬فليبحث‭ ‬فى‭ ‬الزوايا‭ ‬المهملة‭ ‬من‭ ‬وجوده‭ ‬عمّا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬ينقذه‭ ‬من‭ ‬الجنوح‭ ‬الآسر‭ ‬الذى‭ ‬يراه‭ ‬واقفاً‭ ‬بين‭ ‬عينيه‭ ‬هو‭ ‬لا‭ ‬يدرى‭ ‬كيف‭ ‬انفتح‭ ‬باب‭ ‬أعماقه‭ ‬ولا‭ ‬من‭ ‬فتحه‭ ‬ومَنْ‭ ‬سيكون‭ ‬غيره‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬هو‭ ‬نفسه‭ ‬الذى‭ ‬فتح‭ ‬باب‭ ‬وجوده‭ ‬الخبىء‭ ‬فرأى‭ ‬الأعاجيب‭ ‬فأغمض‭ ‬عينيه‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬وهو‭ ‬يحاول‭ ‬أن‭ ‬ينام‭ ‬وقبل‭ ‬أن‭ ‬يغفو‭ ‬رأى‭ ‬المخلوقات‭ ‬التى‭ ‬كانت‭ ‬هاجعة‭ ‬تتململ‭ ‬متحفزة‭ ‬تريد‭ ‬الخروج‭ ‬لكأنها‭ ‬مَلَّتْ‭ ‬ظلام‭ ‬النسيان‭ ‬ولم‭ ‬تعد‭ ‬تريد‭ ‬أن‭ ‬تبقى‭ ‬حبيسة‭ ‬الأبدية‭ ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يسمح‭ ‬لها‭ ‬أحاطت‭ ‬به‭ ‬الأشياء‭ ‬والأسمال‭ ‬والدروب‭ ‬والكلمات‭ ‬والنساء‭ ‬اللواتى‭ ‬عرفهنّ‭ ‬ولم‭ ‬يعد‭ ‬يعرفهن‭ ‬وتوَهَّم‭ ‬أنه‭ ‬تحرر‭ ‬منهن‭ ‬إلى‭ ‬الأبد‭ ‬وهذه‭ ‬أفضل‭ ‬الكلمات‭ ‬التى‭ ‬تعبّر‭ ‬عن‭ ‬أمانيه‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يتخلّص‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬شىء‭ ‬إلى‭ ‬الأبد‭ ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يفعله‭ ‬أثناء‭ ‬أول‭ ‬النوم‭ ‬الذى‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬يكتمل‭ ‬نوم‭ ‬كأنه‭ ‬اليقظة‭ ‬الفاضحة‭ ‬ماذا‭ ‬يفعل‭ ‬إذن‭ ‬يغلق‭ ‬فضاءه‭ ‬النفسى‭ ‬لئلاّ‭ ‬تلتهمه‭ ‬كائنات‭ ‬حياته‭ ‬وأشياؤها‭ ‬المخبّأة‭ ‬منذ‭ ‬سنين‭ ‬وقد‭ ‬غدتْ‭ ‬على‭ ‬أهبّة‭ ‬الانبثاق‭ ‬كيف‭ ‬يواجهها‭ ‬وماذا‭ ‬يفعل‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬يَلفَّ‭ ‬نفسه‭ ‬بثيابه‭ ‬الرقيقة‭ ‬ويحاول‭ ‬أن‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬الفجر‭ ‬لكن‭ ‬الفجر‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬بعيداً‭ ‬فجر‭ ‬آخر‭ ‬الليل‭ ‬الكئيب‭ ‬وهو‭ ‬لا‭ ‬يحبّ‭ ‬الكآبة‭ ‬لكن‭ ‬الحب‭ ‬والكره‭ ‬ليسا‭ ‬من‭ ‬خصائص‭ ‬الكائن‭ ‬الأساسية‭ ‬حتى‭ ‬يتخلّص‭ ‬منهما‭ ‬بسهولة‭ ‬إنهما‭ ‬مفروضان‭ ‬عليه‭ ‬بقوة‭ ‬الحياة‭ ‬التى‭ ‬لا‭ ‬تتوقف‭ ‬عن‭ ‬المرور‭ ‬ولمرورها‭ ‬طَعْم‭ ‬الدُفْلى‭ ‬فى‭ ‬فمه‭ ‬الذى‭ ‬غدا‭ ‬يابساً‭ ‬من‭ ‬الظمأ‭ ‬كيف‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬النبع‭ ‬ومتى‭ ‬لا‭ ‬أحد‭ ‬يعلم‭ ‬العِلْم‭ ‬هو‭ ‬الآخر‭ ‬صار‭ ‬محنة‭ ‬وكان‭ ‬يعتقد‭ ‬أنه‭ ‬سيحصل‭ ‬عليه‭ ‬بمجرد‭ ‬تحريك‭ ‬قدميه‭ ‬لكن‭ ‬قدمَيْه‭ ‬لا‭ ‬تستجيبان‭ ‬له‭ ‬أو‭ ‬هما‭ ‬لم‭ ‬تعودا‭ ‬قادرتين‭ ‬على‭ ‬الاستجابة‭ ‬لما‭ ‬يريد‭ ‬منهما‭ ‬فليدعهما‭ ‬فى‭ ‬النسيان‭ ‬وليبحث‭ ‬عن‭ ‬وسيلة‭ ‬أخرى‭ ‬أكثر‭ ‬جدوى‭ ‬علّه‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يبلّ‭ ‬ريقه‭ ‬الناشف‭ ‬من‭ ‬الماء‭ ‬المنهمر‭ ‬من‭ ‬الثدى‭ ‬الرحيم‭ ‬هو‭ ‬لا‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يموت‭ ‬ناحِلاً‭ ‬رقيق‭ ‬العظام‭ ‬مثل‭ ‬جَدْى‭ ‬نَسِيه‭ ‬الرعاة‭ ‬فى‭ ‬بادية‭ ‬الشام‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يظل‭ ‬مشبوب‭ ‬العواطف‭ ‬نَديّاً‭ ‬لكن‭ ‬لسانه‭ ‬صار‭ ‬قَصَباً‭ ‬من‭ ‬الجفاف‭ ‬ولم‭ ‬يعد‭ ‬يبتدع‭ ‬الكلمات‭ ‬غدا‭ ‬قطعة‭ ‬من‭ ‬لحم‭ ‬فاسد‭ ‬يسدّ‭ ‬حلقه‭ ‬وقد‭ ‬يُسبِّب‭ ‬اختناقه‭ ‬بعد‭ ‬قليل‭ ‬وذاك‭ ‬الهُباب‭ ‬الأسود‭ ‬الرهيب‭ ‬لماذا‭ ‬لا‭ ‬يتوقف‭ ‬وقد‭ ‬قاومه‭ ‬بكل‭ ‬طاقته‭ ‬وأنهكَ‭ ‬قِواه‭ ‬لمنعه‭ ‬من‭ ‬الهُبوب‭ ‬دون‭ ‬جدوى‭ ‬كان‭ ‬سعيداً‭ ‬بما‭ ‬حققه‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬وضعه‭ ‬الصعب‭ ‬ومجيداً‭ ‬فى‭ ‬فعله‭ ‬وها‭ ‬هو‭ ‬ذا‭ ‬يجد‭ ‬نفسه‭ ‬فريداً‭ ‬فى‭ ‬شقائه‭ ‬المتمثّل‭ ‬بالعصيان‭ ‬الآسر‭ ‬الذى‭ ‬يكبِّل‭ ‬أعضاءه‭ ‬ويملأ‭ ‬أحشاءه‭ ‬بالخشية‭ ‬والنكوص‭ ‬أيكون‭ ‬السوء‭ ‬كامناً‭ ‬فى‭ ‬ما‭ ‬يسميه‭ ‬نجاحاً‭ ‬بلى‭ ‬اليوم‭ ‬هو‭ ‬متأكِّد‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬ولكن‭ ‬هل‭ ‬يوجد‭ ‬نجاح‭ ‬بلا‭ ‬فشل‭ ‬لا‭ ‬وهل‭ ‬ثمة‭ ‬من‭ ‬خلاص‭ ‬لا‭ ‬لقد‭ ‬أحسّ‭ ‬فى‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة‭ ‬بأنه‭ ‬يواجه‭ ‬وضْعاً‭ ‬جديداً‭ ‬لا‭ ‬علاقة‭ ‬له‭ ‬بما‭ ‬عرفه‭ ‬من‭ ‬أوضاع‭ ‬انتبهْ‭ ‬صرخ‭ ‬فى‭ ‬أعماقه‭ ‬الصامتة‭ ‬متَحذِّراً‭ ‬من‭ ‬الانهيار‭ ‬الذى‭ ‬صار‭ ‬يراه‭ ‬قابعاً‭ ‬على‭ ‬عتبة‭ ‬نفسه‭ ‬التى‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬تريد‭ ‬أن‭ ‬تدرك‭ ‬الأمور‭ ‬لقد‭ ‬حرَنَتْ‭ ‬مثل‭ ‬حمار‭ ‬عنيد‭ ‬ماذا‭ ‬يفعل‭ ‬إذن‭ ‬يفتح‭ ‬عينيه‭ ‬ليرى‭ ‬النور‭ ‬لكن‭ ‬النور‭ ‬هو‭ ‬وجه‭ ‬الظلام‭ ‬الآخر‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬وسيلة‭ ‬أخرى‭ ‬إذا‭ ‬أراد‭ ‬أن‭ ‬يظلّ‭ ‬حيّاً‭ ‬كان‭ ‬يقف‭ ‬على‭ ‬شاطىء‭ ‬البحر‭ ‬وتحت‭ ‬رذاذ‭ ‬الماء‭ ‬الآتى‭ ‬من‭ ‬آخر‭ ‬الأرض‭ ‬بدأ‭ ‬ينادى‭ ‬نفسه‭ ‬باسمه‭ ‬بصوت‭ ‬عالٍ‭ ‬أجاب‭ ‬نعم‭ ‬قال‭ ‬اجلسْ‭ ‬فجلسَ‭ ‬قال‭ ‬اُنْظُرْ‭ ‬فنظرَ‭ ‬ماذا‭ ‬ترى‭ ‬الآن‭ ‬فى‭ ‬وجهكَ‭ ‬الماء‭ ‬وبين‭ ‬عينيكَ‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يحصى‭ ‬من‭ ‬الأشياء‭ ‬ومن‭ ‬الكائنات‭ ‬أرى‭ ‬القليل‭ ‬والبحر‭ ‬هل‭ ‬ترى‭ ‬البحر‭ ‬أى‭ ‬بحر‭ ‬تعنى‭ ‬أجابَ‭ ‬وهو‭ ‬يبحث‭ ‬حوله‭ ‬بلا‭ ‬جدوى‭ ‬بعد‭ ‬عشرات‭ ‬السنين‭ ‬على‭ ‬شاطىء‭ ‬المتوسّط‭ ‬الاسطورى‭ ‬حيث‭ ‬الحُصن‭ ‬التاريخى‭ ‬يتسلّط‭ ‬على‭ ‬الفضاء‭ ‬المنفتح‭ ‬على‭ ‬اللانهاية‭ ‬كان‭ ‬يرى‭ ‬نفسه‭ ‬وحيداً‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬الشاطىء‭ ‬الأندلسيّ‭ ‬الصغير‭ ‬المحصور‭ ‬بين‭ ‬الجبال‭ ‬السود‭ ‬المهيمنة‭ ‬على‭ ‬الفضاء‭ ‬كان‭ ‬يحاول‭ ‬أن‭ ‬يستحضر‭ ‬كل‭ ‬شىء‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬عرفه‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬ليواجهه‭ ‬لكأنه‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يفتح‭ ‬دفتر‭ ‬حياته‭ ‬المغلق‭ ‬ليقرأ‭ ‬ما‭ ‬كتبه‭ ‬الزمن‭ ‬السحيق‭ ‬على‭ ‬صفحاته‭ ‬التى‭ ‬اهترأت‭ ‬من‭ ‬النسيان‭ ‬فى‭ ‬ذلك‭ ‬الصبح‭ ‬الهادىء‭ ‬مثل‭ ‬أصباح‭ ‬بادية‭ ‬الشام‭ ‬البعيدة‭ ‬كان‭ ‬يحكى‭ ‬كثيراً‭ ‬وبلا‭ ‬ترتيب‭ ‬الكلمات‭ ‬تنبثق‭ ‬من‭ ‬عقله‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يلفظها‭ ‬لسانه‭ ‬كان‭ ‬يكلِّم‭ ‬البحر‭ ‬بمودة‭ ‬وكأنه‭ ‬يكلّم‭ ‬صديقاً‭ ‬قديماً‭ ‬نسى‭ ‬شكله‭ ‬مع‭ ‬أنه‭ ‬ماثل‭ ‬أمام‭ ‬عينيه‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يفضح‭ ‬نفسه‭ ‬أمامه‭ ‬بلا‭ ‬حياء‭ ‬ولكن‭ ‬مَنْ‭ ‬يسمع‭ ‬فليتكلّم‭ ‬مع‭ ‬الماء‭ ‬الأصم‭ ‬الذى‭ ‬كان‭ ‬محور‭ ‬وجوده‭ ‬فى‭ ‬البادية‭ ‬ومنقذه‭ ‬فى‭ ‬بيروت‭ ‬وها‭ ‬هو‭ ‬الآن‭ ‬تحت‭ ‬قدميه‭ ‬يداعب‭ ‬مُويجاته‭ ‬الصغيره‭ ‬مغمضاً‭ ‬عينيه‭ ‬ومتوجّهاً‭ ‬نحو‭ ‬الشرق‭ ‬الماء‭ ‬والشرق‭ ‬هما‭ ‬أساس‭ ‬تاريخه‭ ‬وهو‭ ‬يعرف‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬يبدو‭ ‬له‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬سطوعه‭ ‬وَهْم‭ ‬خالص‭ ‬لكنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬على‭ ‬يقين‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬أيضاً‭ ‬كان‭ ‬يرى‭ ‬بقلبه‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬يرى‭ ‬بعينيه‭ ‬ورؤية‭ ‬القلب‭ ‬خلاّبة‭ ‬تجلب‭ ‬الوهم‭ ‬وتسرق‭ ‬الوَعْيَ‭ ‬غموضها‭ ‬يخلط‭ ‬أشياء‭ ‬الحياة‭ ‬كما‭ ‬يخلط‭ ‬العطّار‭ ‬الماهر‭ ‬بضائعه‭ ‬بتأثيرها‭ ‬نغطس‭ ‬فى‭ ‬أحواض‭ ‬الماضى‭ ‬المليئة‭ ‬بالنفايات‭ ‬ونشمّ‭ ‬روائح‭ ‬نسيناها‭ ‬ونكاد‭ ‬نلمس‭ ‬أجساداً‭ ‬كانت‭ ‬تثير‭ ‬مخيلتنا‭ ‬الحسية‭ ‬كثيراً‭ ‬ارتعب‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الخواطر‭ ‬اللا‭ ‬متوقّعة‭ ‬فى‭ ‬ذلك‭ ‬الصبح‭ ‬المريب‭ ‬الآن‭ ‬هو‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يرى‭ ‬بعينيه‭ ‬لا‭ ‬بقلبه‭ ‬لكن‭ ‬ذلك‭ ‬مستحيل‭ ‬كان‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يمعن‭ ‬النظر‭ ‬عندما‭ ‬كانت‭ ‬الأشياء‭ ‬بين‭ ‬يديه‭ ‬وملء‭ ‬عينيه‭ ‬وفى‭ ‬أنفه‭ ‬أُنظرْ‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬الشرق‭ ‬يخاطب‭ ‬نفسه‭ ‬أين‭ ‬هو‭ ‬الشرق‭ ‬الشرق‭ ‬فى‭ ‬هذا‭ ‬الفضاء‭ ‬المائي‭ ‬اللامحدود‭ ‬بلى‭ ‬أُنظر‭ ‬الشمس‭ ‬التي‭ ‬تنزلق‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬البحر‭ ‬مثل‭ ‬الفضة‭ ‬السائلة‭ ‬آتية‭ ‬من‭ ‬الشام‭ ‬حتى‭ ‬النقطة‭ ‬التى‭ ‬أنتَ‭ ‬فيها‭ ‬كان‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬جالساً‭ ‬على‭ ‬حافة‭ ‬الماء‭ ‬ويفكِّر‭ ‬لم‭ ‬أفعل‭ ‬لهم‭ ‬ما‭ ‬فعله‭ ‬أهلى‭ ‬لى‭ ‬كان‭ ‬الندم‭ ‬يعذبه‭ ‬وَهَمَّ‭ ‬أن‭ ‬يقذف‭  ‬بنفسه‭ ‬فى‭ ‬الماء‭ ‬طالباً‭ ‬من‭ ‬البحر‭ ‬أن‭ ‬يأخذه‭ ‬إلى‭ ‬هناك‭ ‬مُكلِّماً‭ ‬إيّاه‭ ‬بثقة‭ ‬لا‭ ‬تقبل‭ ‬الشكّ‭ ‬جئت‭ ‬مع‭ ‬البحر‭ ‬ومع‭ ‬البحر‭ ‬أعود‭ ‬لكن‭ ‬البحر‭ ‬هو‭ ‬الآخر‭ ‬له‭ ‬أهواؤه‭ ‬ومقولاته‭ ‬البحر‭ ‬لا‭ ‬يخضع‭ ‬لرغبة‭ ‬العابرين‭ ‬الذين‭ ‬يركبون‭ ‬أمواجه‭ ‬وأعماقهم‭ ‬ملأى‭ ‬بالأفكار‭ ‬والأمنيات‭ ‬وعندما‭ ‬أصرَّ‭ ‬على‭ ‬فكرته‭ ‬اللامعقولة‭ ‬سمع‭ ‬البحر‭ ‬يقول‭ ‬له‭ ‬بوضوح‭ ‬إن‭ ‬ما‭ ‬يطلبه‭ ‬منه‭ ‬غير‭ ‬ممكن‭ ‬لأنه‭ ‬عكس‭ ‬حركة‭ ‬التاريخ‭ ‬ولم‭ ‬يقتنع‭ ‬لأول‭ ‬وهلة‭ ‬فأكّد‭ ‬له‭ ‬البحر‭ ‬سريعاً‭ ‬ما‭ ‬قاله‭ ‬منذ‭ ‬قليل‭ ‬إنه‭ ‬عكس‭ ‬حركة‭ ‬الماء‭ ‬التى‭ ‬لا‭ ‬تعود‭ ‬القهقرى‭ ‬وسمع‭ ‬البحر‭ ‬يصرخ‭ ‬فيه‭ ‬بقوة‭  ‬وااااااش‭ ‬تُشششتْ‭ ‬صرخ‭ ‬البحر‭ ‬بغضب‭ ‬وعنف‭ ‬هزّ‭ ‬صخور‭ ‬الجبل‭ ‬التى‭ ‬أخذت‭ ‬ترتجّ‭ ‬تحت‭ ‬قدميه‭ ‬فأحسّ‭ ‬بلَطْمة‭ ‬الموج‭ ‬العاتى‭ ‬على‭ ‬جسده‭ ‬الذى‭ ‬صار‭ ‬ماء‭  ‬فأفاق‭ ‬مرعوباً‭ ‬وهو‭ ‬يتمتِم‭ ‬كأنها‭ ‬انتهَتْ‭.‬

 

نصوص‭ ‬لـ‭ :‬

خليل‭ ‬النعيمى‭ - ‬سفيان‭ ‬البراق

جليلة‭ ‬القاضى