البستان

في رثاء الشاعر الأخير .. مصر وسعدى يوسف

سعدى يوسف
سعدى يوسف

د‭.‬أحمد‭ ‬مجاهد

كانت‭ ‬هذه‭ ‬هى‭ ‬المرة‭ ‬الأولى‭ ‬التى‭ ‬ألتقى‭ ‬فيها‭ ‬سعدى‭ ‬يوسف‭ ‬فى‭ ‬ليلة‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الليالى‭ ‬التى‭ ‬يقول‭ ‬عنها‭ ‬فى‭ ‬قصيدته‭ "‬العواصم‭ ‬تتداعى‭":‬

تلك‭ ‬البلاد‭ ‬لنا

والعواصم‭ ‬فيها‭ ‬عواصمنا

نحن‭ ‬أشرارها

نحن‭ ‬أخيارها

نحن‭ ‬عشاقها‭ ‬المنتهون‭ ‬إلى‭ ‬القتل

‭   ‬كنا‭ ‬كذلك‭ ‬فعلا‭ ‬فى‭ ‬تلك‭ ‬الليلة،‭ ‬الشاعر‭ ‬سعدى‭ ‬يوسف،‭ ‬والشاعر‭ ‬الصديق‭ ‬عبد‭ ‬المنعم‭ ‬رمضان،‭ ‬والناشرة‭ ‬الصديقة‭ ‬سوسن‭ ‬بشير،‭ ‬حيث‭ ‬كنا‭ ‬نحتفى‭ ‬بصدور‭ ‬مختاراته‭ ‬الشعرية‭ ‬عن‭ ‬دار‭ ‬آفاق‭.‬

وإذا‭ ‬كان‭ ‬سعدى‭ ‬لا‭ ‬يرى‭ ‬فروقا‭ ‬جوهرية‭ ‬بين‭ ‬العواصم‭ ‬العربية،‭ ‬حيث‭ ‬بدأ‭ ‬قصيدته‭ ‬السابقة‭ ‬قائلا‭:‬

كلما‭ ‬جئت‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬عواصمنا‭ ‬العربية‭ ‬صليت‭ ... ‬ها‭ ‬أنت‭ ‬ذى‭!‬

حتى‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬قوله‭:‬

ولتكونى‭ ‬حلب‭ ‬لتكونى‭ ‬المعرة،‭ ‬والقاهرة

لتكونى‭ ‬الرباط‭ ‬دمشق‭ ‬طرابلس‭ ‬الغرب‭ ‬والقيروان

‭   ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬تيار‭ ‬المحبة‭ ‬والثقافة‭ ‬أيضا‭ ‬يدور‭ ‬فى‭ ‬هذه‭ ‬الأجواء،‭ ‬حيث‭ ‬تطرق‭ ‬الحديث‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬نشرته‭ ‬حينها‭ ‬بهيئة‭ ‬قصور‭ ‬الثقافة‭ ‬فى‭ ‬طبعات‭ ‬شعبية‭ ‬من‭ ‬مؤلفات‭ ‬لأدونيس‭ ‬مثل‭ ‬ديوان‭ ‬الشعر‭ ‬العربى‭ ‬وبعض‭ ‬دواوينه‭ ‬الشعرية،‭ ‬والأعمال‭ ‬الكاملة‭ ‬لأنسى‭ ‬الحاجبواسطة‭ ‬صديقى‭ ‬الشاعر‭ ‬عبد‭ ‬المنعم‭ ‬رمضان،‭ ‬وقد‭ ‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬الطبعات‭ ‬مهداة‭ ‬من‭ ‬مؤلفيها‭ ‬مجانا‭ ‬لمصر‭.‬

وقد‭ ‬أبدى‭ ‬سعدى‭ ‬إعجابه‭ ‬الشديد‭ ‬بهذه‭ ‬التجربة،‭ ‬ولما‭ ‬بلغ‭ ‬الود‭ ‬بيننا‭ ‬منتهاه‭ ‬فى‭ ‬منتصف‭ ‬السهرة‭ ‬تقريبا‭ ‬قطع‭ ‬عبد‭ ‬المنعم‭ ‬رمضان‭ ‬الكلام‭ ‬موجها‭ ‬حديثه‭ ‬لى‭: ‬إيه‭ ‬رأيك‭ ‬لو‭ ‬تنشر‭ ‬الأعمال‭ ‬الكاملة‭ ‬لسعدى‭ ‬يوسف؟

‭   ‬فأجبته‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يكمل‭ ‬جملته‭: ‬يشرفنى‭ ‬بكل‭ ‬تأكيد‭.‬

‭   ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬لمصر‭ ‬فى‭ ‬نفس‭ ‬سعدى‭ ‬يوسف‭ ‬مكانة‭ ‬خاصة‭ ‬له‭ ‬أكبر‭ ‬منها‭ ‬عندى‭ ‬بوصفه‭ ‬شاعرا‭ ‬كبيرا‭. ‬وقد‭ ‬اختص‭ ‬سعدى‭ ‬مصر‭ ‬بقصيدة‭ "‬عوامة‭ ‬النيل‭"‬،‭ ‬التى‭ ‬كتبها‭ ‬بلندن‭ ‬عام‭ ‬2005،‭ ‬ونشرها‭ ‬فى‭ ‬ديوانه‭ "‬حفيد‭ ‬امرئ‭ ‬القيس‭"‬،‭ ‬ويقول‭ ‬فيها‭":‬

‭"‬أدخل‭ ‬مصر‭. ‬إذا‭! ‬حجر‭ ‬رملى‭ ‬وجرانيت،‭ ‬وأصباغ‭ ‬من‭ ‬نبت‭ ‬منقرض،‭ ‬وتماثيل‭ ‬لآلهة‭ ‬بشر،‭ ‬وطيور،‭ ‬وتهاليل‭ ‬إلى‭ ‬قطط،‭ ‬وتماسيح،‭ ‬وصحن‭ ‬من‭ ‬ألسنة‭ ‬العصفور‭".‬

‭   ‬بعد‭ ‬يوم‭ ‬أو‭ ‬يومين‭ ‬على‭ ‬الأكثر‭ ‬كان‭ ‬بيننا‭ ‬موعد‭ ‬آخر،‭ ‬جاء‭ ‬سعدى‭ ‬إليه‭ ‬حاملا‭ ‬خمسة‭ ‬مجلدات‭ ‬من‭ ‬أعماله‭ ‬الكاملة‭ ‬مطبوعة‭ ‬بدار‭ ‬المدى،‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬ديوان‭ "‬حفيد‭ ‬امرئ‭ ‬القيس‭" ‬المطبوع‭ ‬بها‭ ‬أيضا،‭ ‬وديوان‭ "‬الشيوعى‭ ‬الأخير‭ ‬يدخل‭ ‬الجنة‭"‬،‭ ‬المطبوع‭ ‬فى‭ ‬دار‭ ‬توبقال‭.‬

وقد‭ ‬تعهد‭ ‬سعدى‭ ‬بالحصول‭ ‬على‭ ‬موافقة‭ ‬الناشرين‭ ‬على‭ ‬طبعة‭ ‬مصرية‭ ‬شعبية‭ ‬مجانية،‭ ‬وقد‭ ‬فعل،‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬تنازله‭ ‬شخصيا‭ ‬عن‭ ‬حقوق‭ ‬التأليف‭.‬

لكن‭ ‬الهدية‭ ‬الأكبر‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬كتبها‭ ‬للتو‭ ‬بخط‭ ‬يده،‭ ‬على‭ ‬ورقة‭ ‬صغيرة‭ ‬أخرجها‭ ‬بمحبة‭ ‬بالغة‭ ‬من‭ ‬وسط‭ ‬صفحات‭ ‬أحد‭ ‬المجلدات‭ ‬قائلا،‭ ‬هذا‭ ‬إهدائى‭ ‬الخاص‭ ‬للقارئ‭ ‬المصرى‭:‬

يا‭ ‬صديقاتى‭ ‬وأصدقائى

طلقة‭ ‬هذه‭ ‬الروح‭ ..‬

مجنونة‭.‬

هى‭ ‬لا‭ ‬تشترى‭ ‬بالفداحة‭ ‬غير‭ ‬عذاباتها‭.‬

تستجير‭ ‬بـ‭ "‬رامبو‭" ‬لتأخذ‭ ‬من‭ ‬شحنات

بنادقه‭ ‬الحبشيات‭ ‬واحدة‭.‬

تهبط‭ ‬الليل‭ ‬فى‭ ‬الماء،

مأخوذة‭ ‬بارتعاشات‭ ‬بشار‭ ‬المحتضر‭.‬

أيتها‭ ‬الصديقات

أيها‭ ‬الأصدقاء

لكم

منى

تحية

وسلام‭ ...‬

هذه‭ ‬القصيدة‭ ‬لم‭ ‬يرها‭ ‬أحد‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬بعد،‭ ‬وقد‭ ‬اتفقت‭ ‬معه‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬تنشر‭ ‬بخط‭ ‬يديه‭ ‬على‭ ‬ظهر‭ ‬الغلاف‭ ‬الأخير‭ ‬لكافة‭ ‬أجزاء‭ ‬الأعمال‭ ‬الكاملة‭. ‬ولأسباب‭ ‬ليس‭ ‬هذا‭ ‬موضعها‭ ‬لم‭ ‬أتمكن‭ ‬من‭ ‬نشر‭ ‬طبعة‭ ‬مصرية‭ ‬لهذه‭ ‬الأعمال‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭ ‬كما‭ ‬تمنى‭ ‬المبدع‭ ‬الكبير‭.‬

‭   ‬فقط‭ ‬أحببت‭ ‬أن‭ ‬أقول‭ ‬له‭ ‬نحن‭ ‬نحبك‭ ‬كما‭ ‬أحببتنا،‭ ‬ونقدرك‭ ‬كما‭ ‬قدرتنا،‭ ‬ونتمنى‭ ‬صدور‭ ‬هذه‭ ‬الطبعة‭ ‬المصرية‭ ‬أكثر‭ ‬منك‭ ‬بكثير‭.‬