البستان

فى رثاء الشاعر الأخير

مع سعدى فى مقهى ريش وهو يقرأ من ديوان تفاحة لا تفهم شىء  فى حفل توقيع الديوان 2013
مع سعدى فى مقهى ريش وهو يقرأ من ديوان تفاحة لا تفهم شىء فى حفل توقيع الديوان 2013

جرجس‭ ‬شكرى‭ ‬

ما‭ ‬الشعر‭ ‬عند‭ ‬سعدى‭ ‬يوسف‭ ‬الذى‭ ‬أصدر‭ ‬ديوانه‭ ‬الأول‭ ‬عام‭ ‬1953‭ ‬وكتب‭ ‬الشعر‭ ‬منذ‭ ‬سبعة‭ ‬عقود،‭ ‬وفى‭ ‬السنوات‭ ‬الأخيرة‭ ‬كان‭ ‬يكتب‭ ‬فى‭ ‬بعض‭ ‬الأحيان‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬قصيدة‭ ‬؟‭ ‬ليتحول‭ ‬الشعر‭ ‬عنده‭ ‬إلى‭ ‬سيرة‭ ‬يومية‭ ‬يكتب‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬طفولة‭ ‬العالم،‭ ‬وأذكر‭ ‬حين‭ ‬سألته‭: ‬كيف‭ ‬تكتب‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬هل‭ ‬هذا‭ ‬طبيعى؟‭ ‬قال‭ ‬لى‭ ‬بحزم‭ ‬ومحبة‭ ‬ناصحاً‭ ‬إياى‭ : ‬اكتب‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬ولا‭ ‬تترك‭ ‬الشعر‭ ‬لحظة‭ ‬واحدة،‭ ‬فسعدى‭ ‬يرى‭ ‬العالم‭ ‬شعراً،‭ ‬فهو‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬تحويل‭ ‬كل‭ ‬شىء‭ ‬فى‭ ‬هذه‭ ‬الدنيا‭ ‬إلى‭ ‬شعر،‭ ‬كل‭ ‬المواقف‭ ‬إلى‭ ‬لحظة‭ ‬شعرية،‭ ‬وكل‭ ‬الكائنات‭ ‬التى‭ ‬يلتقى‭ ‬بها‭ ‬إلى‭ ‬قصائد،‭ ‬فإذا‭ ‬قرأ‭ ‬فهو‭ ‬يقرأ‭ ‬الشعر‭ ‬وإذا‭ ‬ترجم‭ ‬يترجم‭ ‬الشعر‭ ‬وإذا‭ ‬كتب‭ ‬يكتب‭ ‬الشعر‭ ‬تقريبا،‭ ‬فقد‭ ‬كتب‭ ‬رواية‭ ‬واحدة‭ ‬امثلث‭ ‬الدائرةب‭ ‬ومجموعة‭ ‬قصصية‭ ‬انافذة‭ ‬فى‭ ‬المنزل‭ ‬المغربىب‭ ‬ومسرحية‭ ‬واحدة‭ ‬اعندما‭ ‬فى‭ ‬الأعالىب‭ ‬وثلاثة‭ ‬نصوص‭ ‬مسرحية‭ ‬قصيرة‭ ‬ا‭ ‬حانة‭ ‬سيدوري،‭ ‬الطريق‭ ‬إلى‭ ‬سمرقند،‭ ‬حانة‭ ‬الطرق‭ ‬الأربعب‭ ‬جاءت‭ ‬ضمن‭ ‬كتابه‭ ‬ا‭ ‬كل‭ ‬حانات‭ ‬العالمب‭ ‬وكتاب‭ ‬نقدي،‭ ‬ويوميات‭ ‬ومايزيد‭ ‬على‭ ‬خمسة‭ ‬وأربعين‭ ‬ديوانا‭ ‬شعرياً،‭ ‬وظنى‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬ينتظر‭ ‬الشعر‭ ‬أن‭ ‬يأتى‭ ‬فهو‭ ‬يذهب‭ ‬إليه‭ ‬أينما‭ ‬كان،‭ ‬فكل‭ ‬شيء‭ ‬يعرفه‭ ‬ويعيشه‭ ‬كتبه‭ ‬شعراً،‭ ‬بدءاً‭ ‬من‭ ‬قميصه‭ ‬وغرفته‭ ‬ووصولاً‭ ‬إلى‭ ‬عشرات‭ ‬المدن‭ ‬التى‭ ‬عاش‭ ‬فيها‭ ‬ومروراً‭ ‬بالنساء‭ ‬والأصدقاء‭ ‬والأحداث‭ ‬الكبرى‭ ‬والأحداث‭ ‬الصغرى،‭ ‬فلا‭ ‬شيء‭ ‬فى‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬يستحيل‭ ‬على‭ ‬الشعر‭ ‬عنده‭ !‬سعدى‭ ‬مثل‭ ‬أسلافه‭ ‬الشعراء‭ ‬العرب‭ ‬قبل‭ ‬الإسلام‭ ‬يتحدثون‭ ‬بالشعر،‭ ‬يبكون‭ ‬ويضحكون‭ ‬ويولدون‭ ‬ويموتون‭ ‬بالشعر،‭ ‬حيث‭ ‬كانت‭ ‬الكلمة‭ ‬العليا‭ ‬للخيال‭ ‬وكان‭ ‬المجاز‭ ‬يحكم‭ ‬القبيلة،‭ ‬وليس‭ ‬العقل‭ ‬ولا‭ ‬المنطق،‭ ‬بل‭ ‬البلاغة،‭ ‬فليس‭ ‬هناك‭ ‬دراما‭ ‬أو‭ ‬حكاية،‭ ‬هناك‭ ‬صورة‭ ‬شعرية‭ ‬فاذا‭ ‬مات‭ ‬أحدهم‭ ‬فالعزاء‭ ‬شعراً‭ ‬بالرثاء،‭ ‬وإذا‭ ‬غضب‭ ‬أحدهم‭ ‬فالرد‭ ‬شعراً‭ ‬بالهجاء‭ ‬والقلب‭ ‬يخفق‭ ‬شعراً‭ ‬بالغزل‭ ‬والشعور‭ ‬بالمودة‭ ‬والامتنان‭ ‬شعرا‭ ‬بالمديح،‭ ‬وهكذا‭ ‬البنية‭ ‬العميقة‭ ‬للأعراف‭ ‬والتقاليد‭ ‬لتفاصيل‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية‭ ‬جوهرها‭ ‬الشعر‭ ‬وسعدى‭ ‬أحد‭ ‬هؤلاء‭ ‬ووريثهم‭ ‬الشرعى،‭ ‬فهو‭ ‬حفيد‭ ‬أمرئ‭ ‬القيس‭ ‬وعروة‭ ‬بن‭ ‬الورد،‭ ‬والمتنبى‭ ‬وسواهم،‭ ‬فإذا‭ ‬مر‭ ‬بالمقهى‭ ‬وغالبه‭ ‬الحنين‭ ‬للكرسى‭ ‬والطاولة‭ ‬كتب‭ ‬يبكى‭ ‬ويرثى‭ ‬هذه‭ ‬الأشياء،‭ ‬وإذا‭ ‬أعجبه‭ ‬القميص‭ ‬وقف‭ ‬أمام‭ ‬المرآة‭ ‬وشكر‭ ‬نسيجه‭ ‬وخيوطه‭ ‬والأرض‭ ‬التى‭ ‬جاء‭ ‬منها،‭ ‬ومدح‭ ‬القميص،‭ ‬وإذا‭ ‬أغضبه‭ ‬الرئيس‭ ‬هجاه‭ ! ‬

وهذا‭ ‬الشاعرالذى‭ ‬ولد‭ ‬فى‭ ‬أبى‭ ‬الخصيب،‭ ‬قرب‭ ‬البصرة‭ ‬عام‭ ‬1934‭ ‬ليس‭ ‬شخصية‭ ‬واحدة‭ ‬كما‭ ‬تظنون‭. ‬هناك‭ ‬شخصيات‭ ‬عديدة‭ ‬اسمها‭ ‬سعدى‭ ‬يوسف‭ ‬يقودها‭ ‬روح‭ ‬خفى‭ ‬يحمل‭ ‬هذا‭ ‬الاسم‭ ‬يتنقل‭ ‬بين‭ ‬المدن‭ ‬والحانات‭ ‬والشوارع‭ ‬والمقاهى‭ ‬والأيام،‭ ‬وأذكرأننى‭ ‬التقيت‭ ‬بهم‭ ‬جميعا‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬كتب‭ ‬الأخضر‭ ‬بن‭ ‬يوسف‭ ‬قصيدته‭ ‬الجديدة‭ ‬1972‭ ‬وصولاً‭ ‬إلى‭ ‬السونيت‭ ‬2018،‭ ‬والقصائد‭ ‬المتفرقة‭ ‬التى‭ ‬كتبها‭ ‬فى‭ ‬العامين‭ ‬الماضيين‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يتوقف‭ ‬عن‭ ‬الكتابة‭ ‬ويسكن‭ ‬مقبرة‭ ‬كارل‭ ‬ماركس‭ ‬فى‭ ‬لندن‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬فارق‭ ‬الحياة‭ ‬صباح‭ ‬الأحد‭ ‬13‭ ‬يونيه‭ ‬2021‭ ! ‬ولا‭ ‬أقصد‭ ‬بالوجوه‭ ‬المتعددة‭ ‬الشاعر‭ ‬والروائى‭ ‬والمترجم‭ ‬والمسرحي،‭ ‬والناقد‭ ‬بل‭ ‬سعدى‭ ‬الشاعر،‭ ‬فقط‭ ‬الشاعر‭ ‬الذى‭ ‬تخرج‭ ‬فى‭ ‬دار‭ ‬المعلمين‭ ‬عام‭ ‬1955‭ ‬ليتنقل‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬بين‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬عواصم‭ ‬العالم،‭ ‬ليكون‭ ‬له‭ ‬فى‭ ‬كل‭ ‬مدينة‭ ‬قصيدة‭ ‬وفى‭ ‬كل‭ ‬حانة‭ ‬من‭ ‬حاناتها‭ ‬كأس‭ ‬ما‭ ‬زالت‭ ‬تتذكره‭ ‬وليال‭ ‬يعرفها‭ ‬ويحفظها‭ ‬كظهر‭ ‬يده‭. ‬

التقيت‭ ‬الشاعرالثائر‭ ‬والمتمرد‭ ‬والعابر‭ ‬سعدى‭ ‬يوسف‭ ‬فى‭ ‬مطلع‭ ‬التسعينات‭ ‬للمرة‭ ‬الأولى‭ ‬وكنت‭ ‬أبحث‭ ‬عن‭ ‬الأخضر‭ ‬بن‭ ‬يوسف‭ ‬ومشاغله،‭ ‬أول‭ ‬ماقرأت‭ ‬وكنت‭ ‬ومازلت‭ ‬مبهوراً‭ ‬بهذه‭ ‬الشخصية،‭ ‬التى‭ ‬توالت‭ ‬عليها‭ ‬شخصيات‭ ‬عديدة‭ ‬بعد‭ ‬ذلك،‭ ‬وأذكر‭ ‬منذ‭ ‬سنوات‭ ‬قليلة‭ ‬التقينا‭ ‬فى‭ ‬القاهرة‭ ‬عام‭ ‬2013‭ ‬عبرت‭ ‬معه‭ ‬الشارع‭ ‬من‭ ‬المقهى‭ ‬إلى‭ ‬الحانة‭ ‬كنت‭ ‬مندهشاً‭ ‬وكان‭ ‬صامتاً‭ ‬وشارداً،‭ ‬أبحث‭ ‬عن‭ ‬الوجوه‭ ‬العديدة‭ ‬التى‭ ‬أعرفها،‭ ‬أبحث‭ ‬عن‭ ‬الأخضر‭ ‬ابن‭ ‬يوسف،‭ ‬الشيوعى‭ ‬الأخير‭ ‬فى‭ ‬بذلته‭ ‬الزرقاء،‭ ‬عن‭ ‬المناضل‭ ‬الثائر،‭ ‬العاشق‭ ‬وصاحب‭ ‬الإيروتيكا‭ ‬ووجوه‭ ‬عديدة‭ ‬هاجمتنى‭.. ‬وبدأت‭ ‬بالنظر‭ ‬إلى‭ ‬الشاعر‭ ‬الذى‭ ‬مرت‭ ‬عليه‭ ‬سبعة‭ ‬أيام،‭ ‬وهو‭ ‬لايكتب‭. ‬كان‭ ‬يقرأ‭ ‬حتى‭ ‬توجعه‭ ‬عيناه،‭ ‬فرفض‭ ‬أن‭ ‬يقلب‭ ‬سترته‭ ‬الأولى‭ ‬ورفض‭ ‬أن‭ ‬يسكن‭ ‬كلمات‭ ‬المنفى‭ ‬حين‭ ‬يضيق‭ ‬البيت‭  ‬وبينما‭ ‬هو‭ ‬هائم‭ ‬يتأمل‭ ‬وجوه‭ ‬المارة‭ ‬فى‭ ‬شارع‭ ‬سليمان‭ ‬باشا‭ ‬سألته‭ ‬عن‭ ‬السجن‭ ‬الرسمى‭ ‬وكيف‭ ‬سجله‭ ‬الضباط‭ ‬المليكيون‭ ‬شيوعياً‭.. ‬كيف‭ ‬حوكمت‭ ‬يا‭ ‬سعدى‭ ‬فى‭ ‬تلك‭ ‬الأيام‭ ‬رغم‭ ‬قميصك‭ ‬الأسود‭ ‬وربطة‭ ‬العنق‭ ‬الصفراء‭.. ‬كان‭ ‬لا‭ ‬يرد،‭ ‬ولكن‭ ‬ثمة‭ ‬صوت‭ ‬واهناً‭ ‬يهمس‭ ‬من‭ ‬بعيد‭ ‬ابذلة‭ ‬العامل‭ ‬الزرقاء‭ / ‬على‭ ‬مقاســى‭ ‬كانت‭ ‬البذلة‭/ ‬حتى‭ ‬إننى‭ ‬لم‭ ‬أختبِرْها‭ ‬لحظةً‭ ‬فى‭ ‬غرفةِ‭ ‬التجريبِب‭ ‬وكلما‭ ‬تحدثت‭ ‬تتبعنا‭ ‬شخصيات‭ ‬تعرفه‭ ‬وتحاوره،‭ ‬الطريق‭ ‬من‭ ‬الحانة‭ ‬إلى‭ ‬المقهى‭ ‬قصير‭ ‬لكنه‭ ‬كان‭ ‬مزدحماً‭ ‬بالسنوات‭ ‬والذكريات‭ ‬والليالى‭ ‬الطويلة‭.. ‬أوقفنا‭ ‬رجل‭ ‬فى‭ ‬ملابس‭ ‬رثة‭ ‬وأشار‭ ‬صارخا‭ ‬ا‭ ‬نبيّ‭ ‬يقاسمنى‭ ‬شقتى‭ / ‬يسكن‭ ‬الغرفة‭ ‬المستطيلة‭ / ‬وكل‭ ‬صباح‭ ‬يشاركنى‭ ‬قهوتى‭ ‬والحليب‭ ‬وسرالليالى‭ ‬الطويلة‭ ‬ا‭ ‬ضحكنا‭ ‬وانتابنا‭ ‬الخوف‭ ‬الطريق‭ ‬إلى‭ ‬المقهى‭ ‬طويل‭ ‬ولا‭ ‬ينتهي،‭ ‬فجأة‭.. ‬تغير‭ ‬وجه‭ ‬سعدى،‭  ‬سألنى‭: ‬فى‭ ‬الشارع‭ ‬حانة‭ ‬وحيدة‭ ‬أين‭ ‬ذهبت‭ ‬الحانات‭. ‬كان‭ ‬جلجامش‭ ‬هنا‭ ‬بشعر‭ ‬طويل،‭ ‬وسيدورى‭ ‬تودعه‭ ‬وتنتظر‭ ‬عودته‭ ‬وقف‭ ‬سعدى‭ ‬وأشار‭ ‬ا‭ ‬قد‭ ‬مات‭ ‬عبدالله‭ ‬والأموات‭ ‬فى‭ ‬بلد‭ ‬السلامة‭ ‬يمضون‭ ‬كالأحياء‭ ‬فى‭ ‬صمت‭ ‬الدموع‭ ‬ا‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬المدن‭ ‬يا‭ ‬سعدى‭ ‬ماذا‭ ‬فعلت‭ ‬بك،‭ ‬أين‭ ‬هى‭ ‬هل‭ ‬تحملها‭ ‬على‭ ‬كاهلك‭ ‬أم‭ ‬تحملك‭... ‬فى‭ ‬مدينة‭ ‬مالمو‭ ‬السويدية،‭ ‬وصلت‭ ‬متأخراً‭ ‬هل‭ ‬تتذكر‭ ‬؟‭ ‬وفى‭ ‬الصباح‭ ‬مبكراً‭ ‬قصدت‭ ‬مائدة‭ ‬الإفطار،‭ ‬كنت‭ ‬تجلس‭ ‬مرتديا‭ ‬معطفاً‭ ‬أسود‭ ‬يغطى‭ ‬رقبتك‭ ‬التى‭ ‬يحيطها‭ ‬سوار‭ ‬ذهبى‭ ‬ينتهى‭ ‬بالعراق‭ ‬،‭ ‬قطعة‭ ‬من‭ ‬الذهب‭ ‬على‭ ‬هيئة‭ ‬خريطة‭ ‬الوطن،‭ ‬كنت‭ ‬شارداً‭ ‬تتكئ‭ ‬على‭ ‬الطاولة،‭ ‬تهتز‭ ‬ويهتز‭ ‬العراق،‭ ‬وأنا‭ ‬أتأمل‭ ‬المشهد‭ ‬حتى‭ ‬انتبهت‭. ‬وهنا‭ ‬عرفت‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬المدن‭ ‬التى‭ ‬عاشها‭ ‬سعدى‭ ‬كانت‭ ‬مجرد‭ ‬محطات‭ ‬عابرة،‭ ‬قال‭ ‬فى‭ ‬سياق‭ ‬كلامه‭ ‬عن‭ ‬البلاد‭ ‬لا‭ ‬أذكر‭ ‬البلاد‭ ‬التى‭ ‬هاجرت‭ ‬إليها‭ ‬وعشت‭ ‬فيها‭ ‬وأحتاج‭ ‬الآن‭ ‬إلى‭ ‬خريطة‭ ‬حتى‭ ‬أتذكرها‭.. ‬وإنه‭ ‬كلما‭ ‬حاول‭ ‬تذكر‭ ‬البلاد‭ ‬التى‭ ‬ذهب‭ ‬إليها‭ ‬ينظر‭ ‬إلى‭ ‬خريطة‭ ‬العالم‭ !‬سعدى‭ ‬الذى‭ ‬جمع‭ ‬قصائده‭ ‬عن‭ ‬حانات‭ ‬العالم‭ ‬من‭ ‬جلجامش‭ ‬إلى‭ ‬مراكش‭ ‬فى‭ ‬كتاب‭ ‬الحانات‭ ‬التى‭ ‬كان‭ ‬يرتادها‭ ‬الحانات‭ ‬التى‭ ‬يواصل‭ ‬فيها‭ ‬البشر‭ ‬رحلتهم‭ ‬الطويلة‭ ‬العجيبة‭ ‬ارحلة‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬مكان‭ ‬يلتقون‭ ‬فيه‭ ‬أحراراً،‭ ‬ويفترقون‭ ‬أحراراً،‭ ‬متمتعين،‭ ‬بألفة‭ ‬مستمدة‭ ‬من‭ ‬علائق‭ ‬المكان‭ ‬ذاته‭ ‬حيث‭ ‬تنبعث‭ ‬ذواتهم‭ ‬وتتألق‭ ‬باهرة،‭ ‬فى‭ ‬سياق‭ ‬اجتماعى‭ ‬مفتوحب،‭ ‬وقد‭ ‬خرج‭ ‬من‭ ‬العراق‭ ‬منتصف‭ ‬السبعينات‭ ‬قاصدا‭ ‬عشرات‭ ‬المدن‭.. ‬رحت‭ ‬أتأمل‭ ‬هذا‭ ‬العجوز‭ ‬الذى‭ ‬يحمل‭ ‬فى‭ ‬رقبته‭ ‬سلسلة‭ ‬علّق‭ ‬فيها‭ ‬العراق‭ ‬وطنه،‭ ‬ويبدو‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬حيلة‭ ‬له‭ ‬سوى‭ ‬أن‭ ‬يحمل‭ ‬وطنه‭ ‬فى‭ ‬رقبته‭ ‬ويذهب‭ ‬به‭ ‬أينما‭ ‬شاء‭ ‬حتى‭ ‬إلى‭ ‬المقبرة،‭ ‬فبعد‭ ‬أن‭ ‬فقده‭ ‬تحول‭ ‬إلى‭ ‬مساحة‭ ‬من‭ ‬الذهب‭ ‬تمثل‭ ‬العراق‭ ‬على‭ ‬الخريطة،‭ ‬وقرأ‭ ‬سعدى‭ ‬فى‭ ‬مالمو‭ ‬مرتين،‭ ‬فى‭ ‬المرة‭ ‬الأولى‭ ‬قرأ‭ ‬من‭ ‬قصائده‭ ‬عن‭ ‬أمريكا،‭ ‬وراح‭ ‬الشاعر‭ ‬العجوز‭ ‬يغنى‭ ‬بالإنجليزية‭ ‬مثل‭ ‬طفل‭ ‬ويسب‭ ‬أمريكا‭ ‬وكأنه‭ ‬ينتقم‭ ‬من‭ ‬الأعداء‭ ‬الذين‭ ‬خربوا‭ ‬بلاده،‭ ‬وفى‭ ‬المرة‭ ‬الثانية‭ ‬تأكدت‭ ‬دهشتى‭ ‬فلم‭ ‬أكن‭ ‬سمعت‭ ‬سعدى‭ ‬يقرأ‭ ‬شعراً‭ ‬منذ‭ ‬زمن‭ ‬طويل‭.. ‬راح‭ ‬يؤدى‭ ‬بهذه‭ ‬التلقائية‭ ‬الطفولية‭ ‬التى‭ ‬تليق‭ ‬بشاعر‭ ‬كبير‭ ‬مثله‭ ‬وقرأ‭ ‬قصيدة‭ ‬عنوانها‭ ‬الماندولين‭.. ‬يقول‭ ‬فيها‭ ‬الا‭ ‬يمكن‭ ‬الكلام‭ ‬عن‭ ‬الماندولين‭ ‬إلا‭ ‬بلغة‭ ‬الماندولين،‭ ‬أعنى‭ ‬أن‭ ‬اللغة‭ ‬المعروفة،‭ ‬ليست‭ ‬أداة‭ ‬للكلام‭ ‬عن‭ ‬الماندولين،‭ ‬والسبب‭ ‬بسيط‭ ‬جداًب‭ ‬وراح‭ ‬يحكى‭ ‬قصته‭ ‬مع‭ ‬الماندولين‭ ‬الكائن‭ ‬الحى‭ ‬وبين‭ ‬الحين‭ ‬والحين‭ ‬يغنى‭ ‬الأغنية‭ ‬المصرية‭ ‬اآه‭ ‬يا‭ ‬زين،‭ ‬آه‭ ‬يا‭ ‬زين‭/ ‬آه‭ ‬يا‭ ‬زين،‭ ‬آه‭ ‬يا‭ ‬زين‭ ‬العابدين‭/ ‬يا‭ ‬ورد‭ !‬يا‭ ‬ورد‭ ‬مفتح‭ ‬فى‭ ‬البساتينب‭ ‬بصوته‭ ‬الأجش‭ ‬الذى‭ ‬أرهقه‭ ‬التنقل‭ ‬بين‭ ‬المدن‭ ‬العربية‭ ‬كان‭ ‬يضبط‭ ‬اللحن‭ ‬بصعوبة‭ ‬ويرفع‭ ‬يديه‭ ‬عالياً‭ ‬كأنها‭ ‬يحاول‭ ‬أن‭ ‬يمسك‭ ‬بالموسيقى‭ ‬ولا‭ ‬يهرب‭ ‬منه‭ ‬اللحن،‭ ‬وطيلة‭ ‬أيام‭ ‬المهرجان‭ ‬أتأمل‭ ‬هذا‭ ‬العجوز‭ ‬الذى‭ ‬حمل‭ ‬أشعاره‭ ‬وكانت‭ ‬وطنه،‭ ‬أسس‭ ‬بهذه‭ ‬الكلمات‭ ‬وطناً‭ ‬هو‭ ‬شعر‭ ‬سعدى‭ ‬يوسف‭ ‬ولسعدى‭ ‬يوسف‭. ‬

‭ ‬الطريق‭ ‬بين‭ ‬المقهى‭ ‬والحانة‭ ‬لا‭ ‬ينتهي،‭ ‬عهدى‭ ‬به‭ ‬قصير‭ ‬فماذا‭ ‬حدث،‭ ‬يبتسم‭ ‬سعدى‭ ‬ويشير،‭ ‬انظر‭.. ‬وجوه‭ ‬عديدة‭ ‬تطل‭ ‬على‭ ‬جانبى‭ ‬الطريق‭ ‬وجوهاً‭ ‬أعرفها‭ ‬فأشير‭ ‬لهم‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬سعدى‭ ‬من‭ ‬بينهم‭ ‬أونجارتى‭ ‬وكفافيس،‭ ‬يانيس‭ ‬رتسوس،‭ ‬أرثر‭ ‬رامبو،‭ ‬والت‭ ‬ويتمان،‭ ‬جارثيا‭ ‬لوركا‭ ‬وهنرى‭ ‬ميلر‭.. ‬كانوا‭ ‬ينظرون‭ ‬إليه‭ ‬كل‭ ‬واحد‭ ‬فى‭ ‬يده‭ ‬كتاب‭ ‬ترجمه‭ ‬سعدي،‭ ‬يحاولون‭ ‬الوصول‭ ‬إليه‭ ‬ويحاول‭ ‬الوصول‭ ‬إليهم‭ ‬،‭ ‬وكلما‭ ‬راح‭ ‬يركض‭ ‬تخونه‭ ‬قدماه‭ ‬فيضحك‭ ‬ويمسك‭ ‬بيدى‭ ‬سعدى‭ ‬يوسف‭ ‬شاعر‭ ‬قصيدة‭ ‬التفعيلة‭ ‬الأشهر‭ ‬والذى‭ ‬كان‭ ‬له‭ ‬تأثير‭ ‬كبير‭ ‬على‭ ‬شعراء‭ ‬قصيدة‭ ‬النثر،‭ ‬تأثيره‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬الأباء‭ ‬الروحيين‭ ‬لهذه‭ ‬القصيدة‭ ! ‬لأنه‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬سوى‭ ‬الشعر،‭ ‬سعدى‭ ‬الذى‭ ‬كتب‭ ‬لغة‭ ‬طبيعية،‭ ‬لغة‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬براءة‭ ‬الأطفال‭ ‬،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬فقط‭ ‬الشيوعى‭ ‬الأخير‭ ‬بل‭ ‬أيضا‭ ‬الشاعر‭ ‬الأخير‭ ‬الذى‭ ‬عاش‭ ‬بلا‭ ‬وطن،‭ ‬وتنقّل‭ ‬بين‭ ‬مدن‭ ‬العالم‭ ‬عابراً‭ ‬وأقام‭ ‬فى‭ ‬مدن‭ ‬الشعرالتى‭ ‬أسسها‭ ‬فى‭ ‬قصائده‭.. ‬فكل‭ ‬شعراء‭ ‬المنافى‭ ‬هاجروا‭ ‬ليستقروا‭ ‬فى‭ ‬مدينة‭ ‬أخرى‭ ‬بديلة‭ ‬للوطن‭ ‬أما‭ ‬سعدى‭ ‬فعاش‭ ‬فى‭ ‬كل‭ ‬الدنيا‭ ‬كوطن‭ ‬وبالفعل‭ ‬كان‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬خريطة‭ ‬حتى‭ ‬يتذكر‭ ‬المدن‭ ‬التى‭ ‬عاش‭ ‬فيها‭ ‬والحانات‭ ‬التى‭ ‬كان‭ ‬يصارع‭ ‬فيها‭ ‬الزمن‭ ‬متمسكا‭ ‬بحريته‭ ‬حتى‭ ‬الرمق‭ ‬الأخير‭... ‬كنا‭ ‬نحاول‭ ‬المرور‭ ‬أنا‭ ‬وهو،‭ ‬نحاول‭ ‬العبور‭ ‬إلى‭ ‬الحانة‭ ‬التى‭ ‬نقصدها،‭ ‬فلانصل‭ ‬و‭ ‬أيضاً‭ ‬لا‭ ‬نعود،‭ ‬وسعدى‭ ‬صامت‭ ‬وصوت‭ ‬يغنى‭ ‬من‭ ‬بعيد‭ : ‬طلعت‭ ‬الشميسة‭ / ‬على‭ ‬شعر‭ ‬عيشة‭ / ‬عيشة‭ ‬بنت‭ ‬الباشا‭ / ‬تلعب‭ ‬بالخرخاشة،‭ ‬وآخر‭ ‬من‭ ‬بعيد‭ ‬يصرخ‭ ‬فى‭ ‬ملابس‭ ‬الجنود‭ ‬امرة‭ ‬فى‭ ‬الحدود‭ ‬الهلام‭ ‬أردنا‭ ‬فلسطين‭ ‬بالبندقية،‭ ‬والآن‭ ‬شيء‭ ‬من‭ ‬الأمر‭ ‬لي،‭ ‬وشيء‭ ‬من‭ ‬الرمل‭ ‬لك‭ ‬هل‭ ‬يدور‭ ‬الفلك‭ ‬؟‭ ‬اوصوت‭ ‬يلهث‭ ‬من‭ ‬بعيد‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أرهقه‭ ‬التجوال‭ ‬صارخا‭ ‬قدر‭ ‬استطاعتهب‭ ‬من‭ ‬بلدٍ‭ ‬ستدور‭ ‬إلى‭ ‬آخر‭ / ‬ومن‭ ‬امرأةٍ‭ ‬ستفرّ‭ ‬إلى‭ ‬امرأةٍ‭/ ‬من‭ ‬صحراء‭ ‬إلى‭ ‬اخرى‭ / ‬لكن‭ ‬الخيط‭ ‬الممدود‭ ‬مع‭ ‬الطائرة‭ ‬الورقية‭ / ‬سيظل‭ ‬الخيط‭ ‬المشدود‭ ‬إلى‭ ‬النخلة‭ / ‬حيث‭ ‬ارتفعت‭ ‬طيارتك‭ ‬الأولىب‭ ‬أصوات‭ ‬ووجوه‭ ‬عديدة‭ ‬كلها‭ ‬وجوه‭ ‬سعدى‭ ‬يوسف‭ ‬وصوته،‭ ‬ولكن‭ ‬الصوت‭ ‬الأخير‭ ‬كان‭ ‬قاسياً،‭ ‬والطريق‭ ‬لا‭ ‬ينتهى‭ ‬ونحن‭ ‬لا‭ ‬نصل‭ !‬

ولكن‭ ‬أين‭ ‬نصل‭ ‬يا‭ ‬سعدى‭ ‬؟‭ ‬حين‭ ‬تدهورت‭ ‬حالتك‭ ‬الصحية‭ ‬وجهه‭ ‬وزير‭ ‬الثقافة‭ ‬العراقى‭ ‬إلى‭ ‬السفارة‭ ‬العراقية‭ ‬فى‭ ‬لندن‭ ‬بشأن‭ ‬رعايتك‭ ‬وهذا‭ ‬أضعف‭ ‬الإيمان،‭ ‬لكن‭ ‬غضب‭ ‬بعض‭ ‬الرجعيين‭ ‬واحتجوا،‭ ‬وربما‭ ‬سقطت‭ ‬سراويلهم‭ ‬من‭ ‬هول‭ ‬الفضيلة‭ ‬التى‭ ‬يحملونها‭ ‬على‭ ‬أكتافهم‭ ‬ليل‭ ‬نهار،‭ ‬فقد‭ ‬أثار‭ ‬طلب‭ ‬رعاية‭ ‬الشاعر‭ ‬العظيم‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الجدل‭ ‬فى‭ ‬العراق،‭ ‬فتراجع‭ ‬الوزير‭ ‬عن‭ ‬الطلب‭! ‬وظنى‭ ‬أن‭ ‬دلالة‭ ‬هذا‭ ‬التراجع‭ ‬واحتجاج‭ ‬أصحاب‭ ‬الفضيلة‭ ‬يجسّد‭ ‬وبقوة‭ ‬موقف‭ ‬سعدى‭ ‬ومسار‭ ‬حياته‭ ‬مما‭ ‬دفعه‭ ‬مبكراً‭ ‬أن‭ ‬يحمل‭ ‬أشعاره‭ ‬وحريته‭ ‬ويغادر‭ ‬العراق‭ ‬فى‭ ‬سبعينات‭ ‬القرن‭ ‬الماضى‭ ‬ليطوف‭ ‬مدن‭ ‬الدنيا‭ ‬وشوارعها‭ ‬وحاناتها‭ ‬مدافعاً‭ ‬عن‭ ‬حريته،‭ ‬منتصراً‭ ‬للشعر‭ ‬والحياة،‭ ‬لينام‭ ‬الشيوعى‭ ‬الأخير‭ ‬بسلام‭ ‬هادئ‭ ‬البال‭ ‬فى‭ ‬مقبرة‭ ‬كارل‭ ‬ماركس‭ ‬الشيوعى‭ ‬الأول‭. ‬

 

 
 
 

احمد جلال

محمد البهنساوي

 
 

 
 
 

ترشيحاتنا