حوار: أحمد وائل
فى روايته الأحدث يبدو أحمد الفخرانى مشغولًا برسم علاقة مجردة ما بين راوٍ وكلب، بعدما صار الراوى مجبرًا على رعاية الكلب، ومن ثمّ تدريبه، لنتابع عالمًا كُثّف بعناية، كما يخبرنا العنوان: اإخضاع الكلبب (الشروق، ٢٠٢١) جاءت بذرة تلك الرواية فى قصة سابقة للفخرانى، نُشرت قبل ثلاثة أعوام، بعنوان اعين الهر.. حكاية الرجل الذى محا الشرب ، وهذه البذرة كانت تخص شخصية الراوى، دون كلبه، وهو مصور يرغب فى التقاط صورة كبيرة للشر ومن ثم محوه. لكن البذرة تطورت لتثمر فى الرواية علاقة يحاول فيها المصور تعويض خذلانه فى معانى الصداقة والوفاء والأبوة والحب، إذا نجح -فقط- فى إخضاع الكلب. لكن الرواية لا تخضع بالكامل لرغبة الراوى، بل تحمل فى طياتها بذور التشكيك فى حكايته.
كما يدخل الفخرانى عبر اإخضاع الكلبب مرحلة جديدة تبدو أقرب لانقطاع علاقته بالفانتازيا.
فى حوارنا معه، يتحدث صاحب ابياصة الشوامب (العين، ٢٠١٩) ، التى نالت مؤخرًا المركز الأول بجوائز ساويرس، عن هذا التغيّر قائلاً: اأدركتُ ببطء أن عينى لم تعد تشاهد ما يحدث عبر عدسة البانوراما، بل عبر ميكروسكوب يجد بغيته فى التفاصيل وتشريح اللحظة لا فى تحليق الفانتازياب.
وإلى نص الحوار:
-نبدأ كلامنا عن فكرة الرواية، لكن لنركز مع الراوي، بدلًا من علاقته بالكلب. هو زوج حياته انهارت تمامًا، ويبدأ من جديد ترميم ذاته وحياته فى مدينة دهب بجنوب سيناء، كيف كانت رؤيتك للتعامل مع هذا الزوج المصدوم، هل فضّلت تقديمه بعد الخسارة بدلًا من الخوض فى خسارته؟ هل كان لديك تخوف مما قد يجلبه ذلك من غوص فى تفاصيل الذكورة الجريحة؟
فكرة تعرض هارون (الراوي) للخيانة، جاءت انشغالًا بالبحث عن منطق درامى يبرر للقارئ سبب تورط شخص يخاف الكلاب فى تربية كلب، دون أن يتخلص منه بسهولة، وكيف يأخذ الكلب فى نظره أبعادًا أكبر، فالبطل الذى يتعرض للخيانة على يد زوجته وصديقه، ويتشكك فى نسب ابنه، يجد فى الكلب فرصة تعويض عن خذلانه فى معانى الصداقة والوفاء والأبوة والحب، وهذه المعانى متقاطعة مع تربية الكلاب. سردية الذكورة الجريحة أتت لاحقًا بعد تأسيس العلاقة بين الرجل والكلب بشكل منطقي، وأن يصير الأخير مجازًا لتلك المعاني، هى ذكورة جريحة بالفعل، لكن تحديدًا بسبب أوهامها عن نفسها. ومع تقدم العمل أشكك فى تلك السردية، التحضر ليس أصيلًا فى روحه، بل قناع ينكشف ببطء عن وجه همجى عنيف، كأغلب ذكور المنطقة العربية، الذين يتسمون بذكورة لا نجاة لها فى رأيى إلا بتخليها عن أوهام مكتسباتها القديمة والتى لم تعد صالحة للعصر، بمعنى آخر عليهم أن يكونوا نسويين أكثر.
-سر فشل العلاقة يظل سؤالًا حاضرًا فى الخلفية بينما نقرأ الرواية، وهذا يدفعنى للكلام عن وزن علاقة الزواج المُنهارة: العلاقة لا تُكشف إلا فى الصفحات الأخيرة، وهذا يرجعنا للكلام عن موقفك من سرد خطاب الزوج المصدوم.. هل تعمدت تهميش العلاقة؟
لب العمل بالفعل هو العلاقة بين الرجل والكلب، لكن هذه العلاقة لن يكون لها معنى دون أن تعكس أزمات الرجل وهواجسه، ذلك هو الأساس الذى انطلقت منه، أى شيء آخر لا أنفى وجوده، لكنه يأتى لاحقًا. وبخصوص سرديته، فهى فى موضع فحص طيلة العمل، ربما اشتبك معه فى التساؤل عن التربية بمنطق الحماية المبالغ فيها من الشر، وتقديم الآباء المعاصرين العالم لأبنائهم بوصفه مكانا للريبة والخوف والشك، وأن يكون الابن مركزًا لهذا العالم وألا يفكر إلا فى نفسه كناجٍ وحيد، أملك تساؤلًا من مشاهداتى وهو نفس تساؤل هارون، ما الذى يمكن أن يخلقه هذا عندما يُمحى الفارق بين تربية الفرد على أن يكون منفتحًا بعقله وروحه وأن يصبّ تركيزه بأكمله على نفسه، أرى أن التربية أحيانّا تتحول إلى امتداد لأنانية الآباء والأمهات فى رؤية أنفسهم كمركز للعالم، بوصفهم قطبه النقى الوحيد الذى يستحق النجاة. كما أطرح سؤالى الخاص الذى لا أملك له إجابة، نربى أبناءنا على ما نظنه الصواب والملائم، كيف نوقن أن ما نعرفه ونحرص على نقله هو الصواب والملائم؟ ذلك مرعب.
-حسنًا لننتقل إلى الحديث عن الكلب، عالم الراوى المُنهار رسمته من خلال العلاقة مع هذا الكلب (ونيس)، صراع الرواية يكمن فى تلك العلاقة: إنسان يداوى علاقته المُنهارة بالعالم والبشر من خلال تربية كلب.
أرى أن الفرد المعاصر أصبح أكثر ميلًا للعزلة والتشكيك فى صلاحية الآخر، ويميل إلى شيطنة الجميع، ووضع نفسه فى موقع ملائكي، حتى أن التساؤل الأشهر فى تعليقات الناس على مواقع التواصل الاجتماعى هو الآتي: (مش فاهم الناس اللى بتعمل كذا أو كذا)، هناك تسابق غير مفهوم على تسجيل التفوق، عبر ادعاء الذكاء أو التحضر فى مقابل غباء وهمجية الآخرين، مدّ هذا على استقامته، ستجد ثوارًا متشنجين، كُتّابًا متشنجين، أفرادًا متشنجين مازورتهم الأخلاقية والفكرية ضيقة، ولا تسمح لهم بفهم أحد إلا لو كان مرآة متطابقة مع تصرفاتهم، كأن الفرد يبحث عن ملايين النسخ منه فى الآخرين، وهى فكرة طرحتها فى روايتى الأولى اماندورلاب (العين، ٢٠١٣)، حيث حلم عبد الجبار المكبوت هو أن يكون هناك الملايين من عبد الجبار، بطريقة أو بأخرى هذا يتماس مع راو اإخضاع الكلبب، لا يقبل هارون الحب -ودافعه أن العالم شرير (ما أن تعرض إلى شر ما حتى سحبه على الجميع دون تمييز) لم يكن ليقبَل الكلب إلا إذا تطابق مع رؤيته المسبقة عنه، صعوبة الكتابة عن فكرة كتلك، أن العلاقة المعتادة والمنطقية بين الإنسان والكلب هى ترويضه، لكنها هنا محض مجاز لمعان أخرى كالصداقة والحب والوفاء والبنوة.
-نقرأ سردية يقدمها راوٍ واحد، وجميع الشخصيات والأحداث تتوالد من هذه السردية التى لا تخلو من هلاوس/ افتراضات يتضح فيما بعد عدم صحتها (كشف حقيقة ما جرى فى زواج الراوى المُنهار والتى اتضح أنها لم تكن بسبب خيانة الصديق مع الزوجة، وقد جاء هذا الكشف على لسان الراوى نقلًا عن شخصية يحكى عنها، هى أسما التى ورطته مع الكلب)..
هل فكرت فى أن تكون اسما، مثلًا، صوتًا آخر يجاور سردية الراوي؟
المشكلة التى واجهتنى أثناء الكتابة عن علاقة رجل بكلب، هى كيف أوسّع من حدث محدود بالأساس، وأعتقد أنى نجحت فى حلها، فقد استفدتُ من رواية االعجوز والبحرب لأرنست همنجواى فى حسم الخيار لصالح علاقة مجردة بين شخص وحيوان، وأى محاولة لتوسيع هذا العالم بشخصيات أخرى كانت ستُفسد العمل.. هكذا تخلصتُ من شخصيات عندما أدركت أن ما أريده لن يتحقق فنيًا إلا بعلاقة مجردة بين إنسان وكلب. بخصوص أسما، كان حضورها الجسدى فى بداية العمل، وأمل هارون فى أن يحظى بحبها سببًا دراميًا إضافيًا كى أقنع القارئ بسبب احتفاظه بالكلب، لكن غيابها طوال العمل كان أكثر تأثيرًا فى شكل العلاقة بين الراوى والكلب، كنت حريصًا على هذا الغياب الذى يدفع العلاقة بينهما -الرجل وكلبه- إلى التقدم والتعقيد أيضًا.
-إخضاع الكلب، بتعبيرك، جاء على مراحل بداية من تجاوز الراوى لخوفه من تلك الحيوانات، مرورًا بمحاولته التعلّم، ثم التدريب، حتى يتجه إلى التعنيف.. ما طبيعة علاقتك بتربية الحيوانات الأليفة، أم بحثت عن مصادر تخص تربية الكلاب؟
قرأت كثيرًا أثناء الكتابة عن تربية الكلاب كتبًا ومقالات، وشاهدت الكثير من الفيديوهات، وقدّم لى الصديق والشاعر إبراهيم البجلاتى مسودة كتاب عن الكلاب ترجمه (لم يُنشر بعد). وفى الأدب، استفدتُ من كتابات جاك لندن خاصة روايته االناب الأبيضب. لكن علاقتى بتربية الحيوانات الأليفة ضعيفة، جربت لفترة قصيرة تربية كلب وقطة لكن لم أواصل للأمانة، وقلة الخبرة وسذاجات التعامل الأول ساعدانى على طرح تساؤلات بِكر عن تربية الحيوانات. أما استسلام الراوى لغواية العنف، فجاء من بعض مشاهداتي، مثلًا تابعت علاقة سيدة بكلب ضال، كانت تفتقد أبناءها الذين يعيشون مع زوجها فى مدينة بعيدة، كانت حنونة وعطوفة جدًا تجاه الكلب، لكن ما أن رأته يقدم الحنان والحب لعائلة أخرى ويرفض الانصياع لها حتى عنفته وعاقبته بقطع علاقتها معه، وإن كنت لا أوافقها، لكنى فهمت ما تعنيه تربية الكلاب -أحيانًا- كتعويض لمشاعر مفقودة. ثم استقرت الفكرة أكثر عندما رأيت قناة على يوتيوب لمدرب كلاب مصرى يطرح نظرية كاملة عن تربيتها عبر الضرب والتخويف، فضلًا عما كنت أقرأه على فيسبوك وتويتر عن فئة تتحدث بأريحية عن حرق وتسميم وسلخ الكلاب الضالة، دون أن يروا فى الأمر شيئًا شريرًا، كان ذلك مفزعًا ودافعًا للتفكير. كل ذلك شكّل فكرة أن الحيوان بضعفه يمكن أن يكون منفذًا لمحاكاة الحب، والعنف أيضًا، فجاءت فكرة الرواية.
-كيف كانت تجربة كتابة العالم من خلال محاولات تدريب الكلاب؟
أظن أن ما يدهشنى فى العملية كلها، هو أن العاطفة والحب مبرمجة كغريزة فى الكلاب، تصرفاتها وتفكيرها فى مفاهيم معقدة كالوفاء مثلًا، والصداقة والتعلق بأصحابها مثار تأمل، هذا ما تعتمد عليه حياة الكلاب، حب يتجاوز الكثير من التعقيدات والشكوك. يكفى الكلب أقل لمسة حنان ليتعلق بصاحبه إلى الأبد- على العكس منّا- هو أمر عادى وليس مفاجئًا بالطبع، فصداقة الكلب للإنسان قديمة قدم الإنسانية، لكنى أظن أن الأدب يمكنه أن يكتشف شيئًا جديدًا ومدهشًا فى أشياء عادية، وأن يعيد فحص المسلم به، وهو ما حاولت فعله فى الرواية.
-روايتك مقسمة إلى خمسة أقسام قوامها اصفير الريحب واجوف حوتب وا خطوة الأعمىب واغبار الذئبب واهتاف غولب.. هل هذه مراحل تحول الراوى؟
بالفعل اختيارى لأسماء الفصول هو انعكاس لمراحل تحوّل الراوى فى وحدته، إيغاله فى بطن الظلمة، محاولته المرتبكة للخروج بخطوة الأعمى، ثم ذئب يستعد للانقضاض ومقاومته لهذا التحول، فاستسلامه وانكشاف الغول داخله.
-فى اإخضاع الكلبب ابتعدت عن الفانتازيا التى كانت تميز رواياتك السابقة.. ما رؤيتك لفكرة الفانتازيا حاليًا؟
أشكرك على الملاحظة أولًا، لكن هذا التغيّر سابق على الرواية، وبدأ بعد الانتهاء من كتابة رواية ابياصة الشوامب عام ٢٠١٧، والتى نُشرت بعدها بعامين. كانت ابياصة الشوامب أشبه بتكليل لمغامرة بدأتها، صارت تقنيتى فعّالة أخيرًا فى مزج الحلم بالواقع مع الاحتفاظ بتوازن مقنع للقارئ، لكنها كانت ذروة ما يمكننى فعله فى هذا الشكل، ربما لأنى رضيت أخيرًا عنه بنسبة كبيرة، لا أقول مئة بالمئة، لكن تلك المرة كان التجاوب مِن أغلب مَن قرأوا العمل مدهشًا بالنسبة لي، كنت خرجت لتوى من خيبات أمل أدت إلى هذا التحول، لم يعد عقلى مكتفيًا بإعادة تخييل العالم عبر الفانتازيا التى لم تعد كافية لتفسيره، أدركتُ ببطء أن عينى لم تعد تشاهد ما يحدث عبر عدسة البانوراما بل عبر ميكروسكوب يجد بغيته فى التفاصيل وتشريح اللحظة لا فى تحليق الفانتازيا، رغم أنى لم أغادر بعد الثيمة نفسها، العوالم المتخيلة فى ذهن شخص والتى تعيد تخييل ما تراه مع استخدام ما تعلمته من الفانتازيا فى مناطق محددة مدروسة أكثر، لاحظت هذا التطور البطيء عبر عامين، كتبت فيهما عددًا من القصص القصيرة نشرت فى مواقع مختلفة كـاختم السلطانب، واآخر قصةب، وارمانب واأخبار الأدبب، قبل أن أستسلم لإدراك هذا التغيّر. وبالنسبة لـاإخضاع الكلبب، فإنها لم تستقم فى الكتابة إلا عبر إدراكى أنى لن أستطيع سردها إلا عبر التفاصيل الواقعية والفوق واقعية.
-هل تغيّر الواقع أم أنت الذى تغيّرت؟
حتى فى رواياتى السابقة، كان الواقع منعكسًا فى مرآة الأحلام، ويظهر كمكان مرعب، الذى تغيّر طريقة التناول. وبالطبع تغيّرتُ، أظن أن هناك عشرات النسخ منى كل بضع سنوات، وفى كل مرة تبحث هذه النسخة منى عن وسيلة تعبير مناسبة.
-ماذا عن الأعمال المقبلة، ستخلو من الفانتازيا؟
لا أظن أن الفانتازيا ستختفى من كتاباتي، لكنها لن تكون مهيمنة على ما أكتب، قد أنطلق منها كأساس، قد استخدمها فى خلخلة الواقع قليلًا، يمكن القول أنى سأستخدم خبراتى بالفانتازيا بشكل أكثر تحديدًا.
-هل تشغلك فكرة القراءة فى أشكالها الأحدث سواء ما تروّج له فيديوهات البوكتيوبر، أو استمرار النقاش حول البيست سيلّلر؟
بالطبع أفكر فى الأمر، لكن قناعتى الأصلية أنى أنافس الأدب الذى ينتمى لفئة بعينها كمحفوظ وتشيكوف وهمنجواى والغيطانى وإدوار الخراط وخيرى شلبى وبورخيس وماركيز وغيرهم، الفئة التى أعلم أن قراء الأدب بها ظلوا دائمًا وأبدًا محدودين مقارنة بأدب يهدف للتسلية المحضة والترفيه عن قارئه وهذا حقه. أشاهد نيتفلِكس مثلًا بعد يوم مرهق فى حين أن مشاهدتى للسينما الأكثر جدية تتطلب منى حضورًا وانتباهًا، وأن أكون فى حالة ذهنية نشطة، حق الترفيه مُتاح للجميع، والفنون جميعها تقدمه بدرجة أو أخرى، لذا لا أشغل بالى كثيرًا، أنا أكثر تسليمًا بأن نوعية ما نكتبه معد فى الأساس لدائرة محددة من القراء، لكن بالطبع أتمنى أن يصل إلى أكبر عدد ممكن من الناس، لكن ليس على حساب ما أظنه فنًا، تلك المعادلة الصعبة تتطلب أن يعى الكاتب أنه يعمل أولًا عند الكتابة وكتابة أسلافه، ثانيًا عند الجمهور الواسع. المسألة مركبة وأكثر تعقيدًا من أى إجابة، بل أن كل كاتب فى رأيى من حقه أن تكون له إجابته المختلفة عن هذا السؤال. أريد أن يقرأنى العالم كله، لكن يجب أن يحدث ذلك من خلال دائرة الفن كما أفهمه. كما أنى لا أجد أى غضاضة فى استعارة أشكال أكثر جاذبية تستعملها الفنون الترفيهية، كالفانتازيا والتشويق والأسلوب البوليسي، تعلمت منها مثلًا: وضع القارئ فى الحدث من السطر الأول، وأرى الفارق بسيطًا، يحب الجمهور الأوسع من القراء ما يظن أن بإمكانه كتابته، لذا يفضّل الأعمال التى لا تقدم له طبقات عدة من القراءة، فى السرد يكون سؤال الأدب التجارى ما الذى سيحدث، لكن سؤال الأدب الأساسى هو لماذا وكيف حدث، فى الشِّعر مثلًا، كلما زادت مباشرة الشاعر (أى قل الشًّعر) زادت جماهيريته.