رفعت الجلسة

الأب.. الذى أبكى الجميع «٢»

صورة تعبيرية
صورة تعبيرية

فى نفس الموعد والمكان، هناك فى أحد الأندية الاجتماعية بالهرم، كانت الساعة، قد اقتربت من الخامسة مساء، الجميع كعادتهم فى انتظار أبنائهم لبدء موعد الرؤية، وكما وعدتكم، ذهبت لنقل قصة هذا الأب "الكفيف" الذى سردت جزءاً من مأساته فى العدد السابق تحت عنوان "الأب الذى أبكى الجميع".

الوضع كما هو عند أول زيارة، الأب ما زال يجلس فى مكانه المخصص، هو لا يعرف سواه، دائما ما يطلب من أمن النادى أن يجلسه تحت هذه الشجرة، المواجهة لباب الدخول، "هذا شىء فى نفس يعقوب" هكذا كان رده عندما سألته عن السبب، لكنه بادرنى برد عقلانى، قال: "لقد أخبرت قراءك عن حاستى الخامسة، فقد تكون الإجابة فيها".

كانت إجابته دليل على أن هناك شخصًا ما قد قرأ له قصته، بادرته بسؤال، وهل استطعت أن أعبر عما أردت إيصاله لابنك، قال: حقيقة رغم عذوبة الكلمات التى استخدمتها وتأثيرها على مشاعرى وإحساسى، وإدراكى جيدا أننى صاحب هذه القصة، إلا أنها لم تنقل كل ما أخفيه لابنى من حب، وما أحمله لزوجتى من ضغينة وكره، وما أتمناه من الدولة أن تراعيه لمن هم فى موقفى عند صياغة قانون الرؤية.

قال: هناك أمر مجهول فى قصتك الأولى عنى، لقد كنت بصيراً، نعم، كنت شاباً يافعاً، نشيطاً قوياً، أعمل ليل نهار، لا أتوقف عن السعى فى الدنيا، حتى تزوجت من فتاة تعرفت عليها فى إحدى قرى الجيزة، كانت وسيمة هكذا اختارت عينى، إلا أننى حجبت عقلى عن كل ما يقال عن أهلها، وقتها كان كل ما يشغلنى، هو أن أسخر هذه الطاقة التى أمتلكها لخدمة أسرتى المستقبلية.. عامان بعد الزواج لا أتوقف عن العمل ما بين التجارة والصناعة، أنا حداد، وأملك كذلك محل فاكهة وخضروات بجوار الحدادة، كنت أحمل البضاعة على كتفى نهارًا، ثم أذهب إلى ورشة الحدادة أعمل ليلاً، حتى ضعف بصرى من كثرة الأحمال، ثم جاءت الحدادة وبسببها فقدت ما تبقى لى من نور فى عينى.

جلست فى المنزل أتلقى الأدوية وأنتظر تقارير الأطباء، عامان على هذا الوضع لم يتغير شيء سوى زوجتى، لقد أصبحت بالنسبة لها عالة، عايرتنى كثيرًا بالعمى، أبعدت ابنى عنى، وتركتنى وحيدًا أكثر من مرة وذهبت لوالدها.

كثيرا ماكانت تقول، أنا لا أريد رجل عاجز، ما زلت فى عنفوان شبابى أحلم بمن يمسك بيدى ويلف بى العالم، أدركت وقتها أنه كان لا يجب إخفاء عقلى عن سمعة أسرتها السيئة، هم معروفون بنكران الجميل، فقد ألقت شقيقتها بطليقها فى الشارع واستولت على شقته بمباركة أسرتها.. انتظرت حتى تخرج ما فى جعبتها، لم تتأخر كثيرا، طلبت الطلاق، وافقت على الفور، ألقيت عليها اليمين، وطلبت من أسرتها الجلوس لحل كافة المشاكل، لكن أسرتها لم ترد لى الجميل، ساومونى على محل الفاكهة، ثم ورشة الحدادة، طلبوا منى كتابتهم لابنى، رفضت، أنا أعرف ماذا ينتظرنى إذا أقدمت على هذا الفعل، حتى قرروا حرمانى من رؤية ابنى..

كنت أتوقع هذا النكران، لذلك بمجرد الطلاق أقمت دعوى رؤية، وحصلت على حكم، لكن خشية أسرة زوجتى من المال، وافقوا على احضار ابنى للرؤية، بعد أن هددهم محامٍ بالحصول على تعويض مادى فى كل أسبوع تتغيب فيه عن الرؤية.. نعم سيدى..أعلم أنك تأثرت بمشهد عنفوان لهفتى لابنى، ما كتبته كان قليلًا مما أحمله لذلك الغلام الشجاع من حب، فهو رغم صغر سنه، إلا أنه يحتضننى كل مرة وكأنه يريد أن يقول لى، لا تتركنى مرة أخرى، أنا أحبك وأريد أن أعيش معك، أما ما سلطت الضوء عليه من تعبيرات ندم ظهرت على زوجتى عندما سقطت النظارة من عينى، فقد لمست هذا الشيء كثيرًا، وأدركت أن الندم أصبح يجاورها فى كل زيارة إلى هنا، لكن بات من الصعوبة أن أعود إليها.

أخيرًا، رسالتى إلى الدولة، لقد رزقنى الله الإبصار وابتليت بالعمى، وأدركت نعمة أن تكون بصيرا، ومأساة أن تفقد النظر، لذلك كونوا رحماء بمن فقد عضواً من جسده، واجعلوا الاستضافة حقاً له، بدلا من الرؤية التى تجعله يتحمل مشقة الذهاب إلى المكان، فقد يجد يومًا رفيقاً، ويوماً تلو آخر لا يجد من يسنده.. كونوا رحماء بهم.