خواطر الإمام الشعراوي

دعاء نوح على قومه

الشيخ محمد متولي الشعراوي
الشيخ محمد متولي الشعراوي

يقول الحق فى الآية 36 من سورة هود: "وأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ".. ومجيء (إلا) هنا ليس للاستثناء، ولكنها اسم بمعنى (غير) أى: لن يؤمن من قومك غير الذى آمن.

لهذا نظير فى قمة العقائد حين قال الحق سبحانه: "لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا" "الأنبياء: 22". و(إلا) هنا أيضاً بمعنى (غير)، ولو كانت (إلا) بمعنى الاستثناء لعنى ذلك أن الله سبحانه معاذ الله سيكون ضمن آلهة آخرين، لذلك لا يصلح هنا أن تكون (إلا) للاستثناء، بل هى بمعنى (غير)، وتفيد معنى الوحدانية لله عَزَّ وجَلَّ وتَفرُّده بالألوهية. والآية التى نتناولها بخواطرنا تؤكد أنه لا يوجد غير من آمن بنوح عليه السلام من قومه، سوف يؤمن؛ فقد ختم الله المسألة. وهذا يعطينا تبريراً لاجتراء نوح عليه السلام على الدعاء على الذين لم يؤمنوا من قومه بقوله: " رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يلدوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً" "نوح: 26 27".

وكان تبرير ذلك أنه عليه السلام قد دعاهم إلى الإيمان زماناً طويلاً فلم يستجيبوا، وأوحى له الله تعالى أنهم لن يؤمنوا، وقال له سبحانه: "فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ".

والابتئاس هو الحزن المحبط، وهم قد كفروا وليس بعد الكفر ذنب.

ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: "واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا" وهكذا علم نوح بمسألة الإغراق من خلال الوحى له بصنع السفينة. ومعنى (أصنع) أى: اعمل الصنعة، وهناك فرق بين الصنعة والحرفة، فالصنعة أنْ تُوجِدَ معدوماً، كصانع الأكواب، أو صانع الأحذية، أو صانع النَّجَفَ، أو صانع الكراسي، أما الذى يقوم على صيانة الصنعة فهو الحرفيُّ. والحق سبحانه وتعالى يقول هنا لنوح عليه السلام: " واصنع الفلك" أي: أوجد شيئاً من عدم، إلا أن هذا الشيء سيصنع من شيء آخر موجود، لأن نوحاً عليه السلام قد زرع من قبل شجرة وعاشت معه كل هذه المدة الطويلة، وتضخَّمت فى الجذع والفروع.

وبدأ نوح عليه السلام فى عملية شقِّ الشجرة ليصنع منها السفينة التى بلغ طولها كما قيل ثلاثمائة ذراع وبلغ عرضها خمسين ذراعاً، وبلغ ارتفاعها ثلاثين ذراعاً ومكوَّنة من ثلاثة أدوار لتسع المؤمنين، وزوجين من كل نوع من حيوانات الأرض ودوابِّها وهوامها وسباعها ووحوشها.

ونحن قد علمنا أن الشجرة التى زرعها نوح عليه السلام قد تضخَّمت جداً لطول المدَّة التى قضاها نوح فى دعوته لقومه؛ ونعلم أيضاً أن جذع الشجرة ينمو دائرياً بمقدار دائرة كل عام. وحين نقطع جذع الشجرة نجد أن قطر الجذع مكوَّن من دوائر، وكل دائرة تمثِّل عاماً من عمرها. وهكذا بلغ حجم الشجرة ما يساعد نوحاً عليه السلام على أن يصنع السفينة.

وقد علَّمه الحق سبحانه بالوحى وإلهام الخواطر كيف يصنع السفينة، ألمْ يُلهِم الله سبحانه نبيِّه داود عليه السلام فى مسألة الحديد؟ وقال لنا سبحانه أنه جلَّ وعَلا قد أمر الجبال أن تُؤَوِّب معه، وكذلك الطير، فألان له الحديد دون نار: " ياجبال أَوِّبِى مَعَهُ والطير وَأَلَنَّا لَهُ الحديد أَنِ اعمل سَابِغَاتٍ" "سبأ: 10− 11".