كتب "منير عتيبة
يخوض الكاتب الصحفى الشاب أحمد سليم مغامرته الروائية الأولى بالكتابة حول موضوع شديد الالتهاب، كان كذلك فى الماضى ولا يزال فى الحاضر ولا أظن أنه سيكون نسيًا منسيًا فى المستقبل القريب، وهو موضوع (الإرهاب فى سيناء.
الكتابة الروائية فى حد ذاتها مغامرة محفوفة بمخاطر عديدة وأسئلة تحوم فى ذهن الكاتب حول التقنية التى سيستخدمها، ونبرة الحكى التى سيتحدث بها، وكيف سيقدم شخوصه، ووجهة النظر التى سينطلق منها السارد إلخ وهى أسئلة إذا لم يجب الكاتب نفسه عليها إجابة تطمئنه فلن يجد لديه الشجاعة فى كتابة عمله خصوصًا إذا كان العمل الأول، لكن أحمد سليم لا يكتفى بهذه الصعوبات فيختار مثل هذا الموضوع الشائك الذى يطرح بدوره أسئلة عديدة حول مواقف الكاتب الفكرية، فى أى جانب سيكون، وهل ذلك سيجعله دعائيًا فى كتابته، وهل يستطيع أن يقدم شيئًا جديدًا فى موضوع تتناوله وسائل الإعلام ليل نهار منذ عقود إلخ.
استطاع أحمد سليم أن يحل معضلة كل هذه الأسئلة فى روايته غالية بالانحياز إلى صوت البسطاء من أهل سيناء، ترك لهم قلمه ونقل عنهم ما يفكرون به وما يقولونه، مع الحرص على أن يقدمهم كبشر بدون إدانة غبية أو طوباوية ساذجة، وأن يقدم الحكايات كما حدثت أو كما يمكن أن تكون قد حدثت، مع تنويع الصوت السردى ليكون منسجمًا مع روح مكان يصعب أن يعبر عنه صوت واحد، فاستطاع أن يقدم رواية تستحق أن تُقرأ للمتعة الروائية، وأن تناقش لما بها من أفكار.
***
يعود يحيى من عمله بالكويت بعد اختفاء أخيه الدكتور عيد الذى تحوم الشبهات حول اختطافه من قِبل جماعة إرهابية، مع ظلال شك أنه ذهب إليهم بمحض اختياره لإيمانه بأفكارهم، يبحث يحيى عن أى خيط يوصله للحقيقة، يعثر على أوراق كتبها عيد، بعضها يخص عيد نفسه، خواطر وأفكار وأشعار، ومعظمها مسودة روائية نقل فيها عيد قصة حياة جدته غالية مروية على لسانها. ضابط الأمن الوطنى يتابع كل ما يحدث ويضع يحيى تحت عينيه، ويطلب منه مرارًا أن لا يبحث وحده وأن يتركهم ليؤدوا عملهم ليستطيعوا الوصول إلى عيد.الجار أبو فراج يأتى بلقطة فيديو لعيد يعترف فيها أنه ذهب مع الإرهابيين بمحض اختياره لأنه يؤمن بأفكارهم، فتحوم الشبهات حول «أبو فراج» هل هو مجرد وسيط أم عميل للأمن أم عين سرية للإرهابيين وسط الناس. يحيى يعيش مأساته الخاصة التى ترك مصر بسببها وهى عدم قدرته على الزواج من حبيبته ليلى، لكنه يحاول أن يركز جهود لإيجاد أخيه، تتصل به سيدة تخبره أنها وعيد تحابا، لكن أمير الجماعة تزوجها، وأنه خطف “عيد” لينتقم منه بعد أن علم أنه كان حبيبها قبل زواجها، يتم القبض عن «أبو فراج» لأنه ينتمى للإرهابيين، ثم القبض على الخلية الإرهابية، لكن بعد أن يكونوا قد قتلوا “عيد”.
ثلاثة أصوات سردية تقدم جوانب الحكاية، هى صوت يحيى الذى يقدم حيرته فى البحث عن أخيه وأسباب اختفائه إضافة إلى وجعه لافتقاده الأبدى لحبيبته، وصوت عيد، وصوت الجدة غالية التى تحكى قصة حياتها منذ ما قبل عام 1948 وما كانت تفعله العصابات اليهودية فى أرض فلسطين، والعدوان الثلاثى سنة 1956م، والاحتلال الإسرائيلى لسيناء سنة 1967م، والتهجير الذى عاناه بعض أهل سيناء حتى عودتهم إلى ديارهم بعد نصر أكتوبر سنة 1973م. وإذا استثنينا الصفحات القليلة التى ينفرد بها صوت عيد فإن الرواية تكاد تكون مقسمة بين الصوتين الآخرين، فصل لهذا وفصل لذاك، مع حرص الكاتب على التنويع بأن تحتوى بعض الفصول على الصوتين معًا بتداخل حكائى جيد يحتاج بعض الانتباه من القارئ، وأحيانًا تكون الأصوات الثلاثة فى فصل واحد. لذلك تجد أحداث الرواية تتحرك على مساحة جغرافية كبيرة تتعدى حدود سيناء ما بين فلسطين والشرقية ومديرية التحرير إضافة إلى القنطرة وبئر العبد والديرة التى تعيش فيها الجدة غالية بسيناء. وهو ما يؤكد ارتباط سيناء جغرافيا بفلسطين وبالعمق المكانى لمصر، كما يؤكد الدور المحورى لسيناء على المستوى الزمنى فى كتابة تاريخ مصر وتحمل الكثير فى سبيلها.
يمكن أن نتوقف عند ثلاث إشارات مهمة فى الرواية؛ ليست كل ما يمكن التوقف عنده بالطبع، لكنى أراها جوهرية فى توضيح ما يريد الكاتب أن يشاركه القارئ فيه.
***
الإشارة إلى طبيعة سيناء وصعوبة الحياة فيها، وما يعانيه أهلها من مشاكل يومية فى سبيل العيش، منذ كانوا يتاجرون فى القنطرة وفلسطين حتى تاجروا فى مديرية التحرير، ورعى الأغنام، وضعف الموارد، وعدم اهتمام الدولة بتنمية حقيقية لسيناء طول عقود ماضية حيث لم يتم الانتباه إلى أهمية تنميتها إلا منذ سنوات، ورغم ذلك فإن الحياة فى الماضى كانت أكثر بساطة مما انعكس على طبيعة الشخصيات وحياتهم نفسها، فكل قصص الحب فى جيل الجدة غالية وأبنائها تحدث بشرارة من التقاء نظرات العيون، أو باختيار الأهل، ثم تكلل بزواج سعيد، وحب بين الزوجين، مقابل قصة حب يحيى التى انتهت بفقده لحبيبته لأنه غير مستعد ماليًا، وقصة حب عيد التى انتهت باختطافه ثم قتله بواسطة أمير الجماعة الذى تزوج حبيبته، وهو ما يجعل الحياة تزداد صعوبة ودموية إذا لم ننتبه لوقفهما أو الحد منهما ستكون النتيجة كارثية على المستويات النفسية والاجتماعية (هنا فى سيناء، شيء ما خفى غير معلوم لأحد، ولكنه محسوس للجميع، شعور بالسلام رغم معاناتها من الحروب على مر العصور، لازالت هذه الأرض قادرة على احتضان أبنائها، وتصيب بلعنة الدماء التى روت ترابها أى معتدٍ)ص192
كما يشير الكاتب على لسان غالية إلى السيدة أم رفيق التى استقبلتها فى (القنطرة) وهى عروس جديدة، وكانت جارة طيبة بمثابة الأم الثانية لغالية فى غربتها، ثم تفرقهما الأيام بعد حرب 1967م، حيث تذهب غالية مع أسرتها إلى الشرقية ثم مديرية التحرير، بينما تعود أسرة أم رفيق إلى الصعيد حيث جذورها العائلية. عائلة أم رفيق عائلة مسيحية، ولا توجد إشارة أو تعليق من غالية على ديانة أم رفيق أو العكس، بل تبدو العلاقة بينهما علاقة حب ومودة وتكافل حتى إن غالية تشعر بالضياع عندما تفترق عنها أم رفيق، وتكون المفاجأة فى نهاية الرواية أن ضابط الأمن الوطنى الذى يتابع قضية عيد والذى قبض على الخلية الإرهابية هو سمير حفيد أم رفيق. وهى إشارة قوية إلى أن القضية فى سيناء ليست قضية دينية كما يريد التكفيريون تصويرها، بل هى قضية وطنية يتلاحم فيها «سمير» و»عيد» و”يحيي” وكل أهل سيناء، برغم وجود البعض مثل «أبو فراج» الذين تغريهم المادة أكثر مما هم مؤمنون بأفكار الإرهابيين.
أما أقوى إشارات الرواية التى وصلتنى فهى وصف الكاتب لفظائع العصابات اليهودية فى فلسطين قبل عام 1948م ووصفه لفظائع الخلايا التكفيرية فى سيناء حاليًا، بما يسرب للقارئ إحساسًا واضحًا أن هذه العصابات كلها قديمها وحديثها تأتى من أصل واحد، ووراءها فكر واحد، وإن تزيت بأزياء مختلفة، وأطلقت شعارات تبدو غير متفقة مع بعضها البعض، ويؤكد هذا الحكاية التاريخية التى ترويها غالية ببساطة وهى تتحدث مع «حمدة» جارتها فى الشرقية ومديرية التحرير والتى عوضتها عن حنان أم رفيق، وبرغم أن الحكاية تبدو عابرة فى حديث عابر إلا أننى أراها مركزية فى التعرف إلى مدى الحفر الفكرى للكاتب فى موضوع روايته (اللى حصل فى الحسنة يا حمدة، لما جم الصهاينة عشان يعلنوا سينا دولة لوحدها، وتنفصل عن مصر، واتكلموا مع الشيخ سالم الهرش، وقال ليهم ماشى نخليها دولة، واتلمت كل العرب فى قعدة كبيرة فى الحسنة، وجم الاسرائيلية، وقدام الدنيا كلها قام الشيخ سالم يتكلم، بيحسابوه هيعلن دولة فى سينا، راح مبوظ ليهم القعدة، وقال: سينا مصرية، وإحنا مصريين، وهنفضل مصريين، الوحيد اللى يتكلم عننا الريس عبد الناصر)ص174.
***
فمحاولة إعلان دولة مستقلة فى سيناء لضرب وحدة الأراضى المصرية ليست جديدة، بل هى قديمة، وتتجدد باستمرار، ولا يمكن أن نظن أنه لا علاقة بين من حاولوا ذلك قديما وبين من يحاولونه الآن.
استخدم الكاتب فى الحوار الروائى اللهجة المحكية السيناوية، ويبدو أنه خبير بها، فقد استطاع أن ينقل لنا أصوات الشخصيات بواقعية متجنبًا الغموض الذى يكتنف أحيانًا اللهجات المحكية، وإن كانت بعض الحوارات النادرة يمكن الاستغناء عنها.
«غالية» رواية لا تصف فقط الوجع السيناوي، لكنها تضع أيدينا على بعض جذوره، ربما تكون معرفتها ضوءًا كاشفَا يساعد على تقديم علاج ناجع لهذا الوجع.