عاجل

احتفال الأوبرا بالشيخ إمام.. واجب

ذكرى رحيل الشيخ إمام الـ103.. لماذا لا تحتفل به دار الأوبرا؟

الشيخ إمام
الشيخ إمام

كتب: محمد الشماع


الشيخ إمام ظاهرة موسيقية لا تتكرر كثيراً. ليس ذلك فقط بل كان عصرًا موسيقياً بأكمله، مثل عصر أم كلثوم وعبدالوهاب.. لم يكن مجرد شخصية جديدة في حياة الموسيقى العربية، لكنه كان قلباً نابضاً لصوت الفقراء في كل مكان.


ذكرى رحيل الشيخ إمام كانت منذ يومين، لقد مات في 7 يونيه عام 1995، ولم يشأ أن يموت فى ذكرى هزيمة 67، لكنها مشيئة الله، مات الشيخ ودفن فى مقابر المستشار نور الدين العقاد بالإمام الشافعى، ليموت غريباً عن أهله، تماماً كما عاش.


الشهر المقبل سيكون قد مر 103 أعوام على ميلاده. لذا، فإنه من الواجب أن تحتفل به الأوبرا، وبألحانه التي تصلح للعزف الأوركسترالي كما ذكر الكثير من الموسيقيين. لابد أن تخلد الأوبرا - وهي المؤسسة الفنية والثقافية المهمة في مصر - ذكر رحيل الرجل، تماماً مثلما فعل معرض القاهرة الدولي للكتاب، منذ ثلاثة أعوام، حينما أصر أن يحتفل بهذه الذكرى، في لفتة رائعة من وزارة الثقافة، عرفاناً وتقديرًا لواحدٍ من أهم الظواهر الموسيقية العربية.


بقرية أبو النمرس ولد إمام عيسى لأبوين من نفس البلد عصبا وماعونا. عاش الطفل إمام طفولة بائسة. فقد بصره صغيرا في بيت فقير. التحق بالكتّاب فى سن الخامسة وحفظ أجزاءً من القرآن الكريم. لكنه اشتهر بشيء آخر، وهو صوته الجيد في إلقاء آيات الذكر الحكيم، مقارنة بين صبية القرية، ما أهله أن يلتحق بكورس غناء وراء منشدى الموشحات الدينية فى الأفراح. جاء الشاب إمام عيسى إلى القاهرة دون مأوى. كان يقضى يومه كاملاً في منطقة «الغورية» و»حوش قدم» مقرئا للقرآن في الدكاكين. وليلاً يتوجه إلى الجامع الأزهر ليبيت فيه مفترشا الحصير جاعلاً حذاءه تحت رأسه.


فى عام 1938 تعرف إمام على الشيخ درويش الحريري الذي كان زبوناً في محل حلاقة بـ»حوش قدم»، وطلب منه أن يعلمه الموسيقى على أصولها. ومنه تعرف إمام على النوتة وكيفية العزف على العود. اقترب إمام من عالم فطاحل الملحنين. اقترب من الشيخ زكريا أحمد، والشيخ محمود صبح، والشيخ علي محمود، أحد أئمة الإنشاد الدينى في مصر.

ساعده أهالي «حوش قدم» فى إيجاد غرفة بحارة «شق العرسة» ليسكن فيها مقابل غنائه لهم أغانى أم كلثوم والتى يلحنها الشيخ زكريا أحمد. في عام 1945 قرر الشيخ إمام خلع الملابس الأزهرية وارتداء القميص والبنطلون وترك مهنة قراءة القرآن فى الدكاكين والإقتراب أكثر من عالم الغناء والتلحين. قرر الشيخ إمام أن يصبح إمام أفندى، واحترف الغناء فى الأفراح والموالد ودخل الإذاعة لأول مرة مع بطانة الشيخ عبد السميع بيومى.


فى أوائل الخمسينيات تقدم الشيخ إمام لاختبارات الإذاعة المصرية طالبا اعتماده كملحن ومطرب، وكان رئيس لجنة الاختبار هو حافظ عبدالوهاب مكتشف عبد الحليم حافظ والذى أعطى له اسمه. لم ينجح إمام عيسى فى الاختبار وتبادل الردود مع رئيس اللجنة الذى استغل كحة مفاجئة وقال له «المفروض تبطل المخدرات يا إمام» فرد عليه إمام وقال «مش حابطل ومش حاغنى فى الإذاعة بتاعتك».


المحاسب سعد الموجى هو ابن عم الملحن الكبير محمد الموجى كان يسكن «حوش قدم»، وكان من عشاق صوت الشيخ إمام، التقى بشاب خارج لتوه من السجن. رث الثياب نحيل للغاية، فاجومي في آرائه وألفاظه. كان اسمه أحمد فؤاد نجم. استمع نجم إلى الشيخ إمام وطرب له أشد الطرب، والأهم من ذلك أنه اكتشف حميمية المكان وبحث عن حجرة ليجاور الشيخ.


كلاهما - إمام ونجم – لم يكن يعرف أن مسار الغناء فى مصر سيتحول على إيديهما إلى اتجاه جديد وإنهما سيعطيان المرحلة ما تحتاجه من غناء يجدد شبابها وحيويتها، ويثبت أن الضمير المصرى حي.


فى البداية قدم نجم لإمام بعض ما لديه من أغنيات عاطفية فلحنها بطريقته ولم تكن تستهوى الجميع حتى نجم وإمام نفسيهما. جاءت النكسة لتزلزل الحياة من تحت أقدام الجميع، فانتصب مارد الغضب فى صدور الناس واهتزت المياه الراكدة فى المجتمعات السياسية والأدبية والفنية، وبدأ نجم يكتب أغنياته السياسية.


تلقى الشيخ إمام أشعار نجم وتفاعل معها بذكاء وألمعية، واكتشف سحر الكاريكاتير النغمى، وبحث عن معادل موسيقى لمعنى الكلام، لقد وضع الشيخ الكفيف عين الكاميرا فى صوت اللحن. أصبح إمام ونجم ماركة مسجلة للتجمعات الاحتجاجية، وأصبحا نجما الحفلات الخاصة، سافرا إلى العديد من البلدان العربية والأوروبية، وشكلا ثنائيا غير عادى، لكنها مع الإنتفاضة الشعبية فى عام 1977 انفصلا بعد 150 أغنية ألهبت المصريين، انفصلا، ليكتبا سويا نهاية عصر نجم وإمام.


أخذ كل منهما طريقه الخاص، ذهب نجم مع من ذهب وذهب الشيخ إمام مع من ذهب، التقوا قليلا، وفشلت كل محاولات الصلح التى قادها مجموعة من أصدقائهما. لحن الشيخ إمام لكثير من الشعراء ومنهم الأبنودى ونجيب سرور وسيد حجاب وفؤاد قاعود. غنى الشيخ إمام فى العديد من الحفلات فى الخارج، وحصد ما يكفيه من مال لينتقل إلى شقة في نفس المنطقة عام 1990، عبارة عن غرفة وصالة، وكانت الثلاثجة والبوتاجاز هدية من أسرة المستشار نور الدين العقاد نائب رئيس مجلس الدولة السابق، التى كان يقضى الشيخ معها معظم وقته.


وفى ليلة السابع من  يونيه في العام 1995 أجرى صديقه الشاعر سيد عنبه اتصالاً بعم كامل، أشهر ترزى فى «حوش قدم»، والذى كان يساعد الشيخ فى سيره، ليبلغه بأنه سيأتى في عصر اليوم التالى ليأخذ الشيخ ويتناولا الغداء فى بيت الشاعر، وبالفعل أخذ عم كامل بطيخة وصعد فى فجر نفس اليوم إلى بيت الشيخ إمام وفتح بمفتاحه ووضع البطيخة فى الثلاجة ووجد الشيخ نائماً، وفى صبيحة نفس اليوم استيقظ الشيخ وفتح الثلاجة وأكل من البطيخة وصلى الفجر ونام، ليستيقظ على صوت عم كامل الذى أخبره برسالة الشاعر سيد عنبه فهز رأسه بالإيجاب وشكره على «البطيخة»، وطلب منه كوبا من الماء، فذهب عم كامل إلى المطبخ ولما عاد بالماء، وجد روح الشيخ وقد فاضت إلى بارئها.
هكذا كانت الساعات الأخيرة في حياة الشيخ الذي تبقى منه سيرة عشق للموسيقى، تستحق من الأوبرا كل تقدير واحتفاء.