الرجل الذى كان الخميس:

الوجـه الآخــر لـتشستيرتون

الوجـه الآخــر لـتشستيرتون
الوجـه الآخــر لـتشستيرتون

كتب:أحمد‭ ‬الزناتى

أقوى‭ ‬إشارة‭ ‬إلى‭ ‬الكاتب‭ ‬الإنجليزى‭ ‬الكبير‭ ‬جيلبيرت‭ ‬كيثتشستيرتون‭ ‬وردت‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬بورخيس‭ ‬فى‭ ‬حوار‭ ‬مترجم‭ ‬حينما‭ ‬وصفه‭ ‬بأنه‭ ‬من‭ ‬الكُتاب‭ ‬القلائل‭ ‬الذين‭ ‬يستطيعون‭ ‬منافسته‭.‬أما‭ ‬الإشارة‭ ‬الثانية‭ ‬فوردت‭ ‬فى‭ ‬كتاب‭ ‬افهود‭ ‬فى‭ ‬المعبدب‭ ‬للناقد‭ ‬الألمانى‭ ‬ميشائيل‭ ‬مار‭ (‬ت‭: ‬أحمد‭ ‬فاروق،‭ ‬كلمة‭ ‬ذ‭ ‬أبو‭ ‬ظبى‭ ‬2009‭) ‬عندما‭ ‬قال‭ ‬إن‭ ‬تيشسترتون‭ ‬يستطيع‭ ‬عبور‭ ‬بوابات‭ ‬القرون‭ ‬القادمة‭ ‬وهو‭ ‬يصفّر‭ ‬مصطحبًا‭ ‬كتابيْن‭ ‬اثنين‭: ‬كتاب‭ ‬On Othodoxy‭ (‬عن‭ ‬الأصولية‭) ‬ورواية‭ ‬االرجل‭ ‬الذى‭ ‬كان‭ ‬الخميسب،‭ ‬التى‭ ‬صدرت‭ ‬ترجمتها‭ ‬العربية‭ ‬الشهر‭ ‬الماضى‭ ‬عن‭ ‬دار‭ ‬المحروسة‭ ‬بترجمة‭ ‬ممتازة‭ ‬أنجزها‭ ‬المترجم‭ ‬المصرى‭ ‬عماد‭ ‬منصور‭. ‬

للأسف‭ ‬لم‭ ‬تُترجم‭ ‬من‭ ‬أعمال‭ ‬الكاتب‭ ‬الكبير‭ ‬إلى‭ ‬العربية‭ ‬سوى‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬وسلسلة‭ ‬قصصه‭ ‬البوليسية‭ ‬الجميلة‭ ‬الأب‭ ‬براونب‭ ‬عن‭ ‬دار‭ ‬هنداوى،‭ ‬بينما‭ ‬ترك‭ ‬الرجل‭ ‬ميراثًا‭ ‬أدبيًا‭ ‬هائلًا‭ ‬ناهزالمئة‭ ‬كتاب،‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬أعمال‭ ‬فكرية‭ ‬وروايات‭ ‬ومقالات‭ ‬أدبية‭ ‬من‭ ‬الطراز‭ ‬الثقيل‭.‬أعمال‭ ‬تشستيرتون‭ ‬قصصية‭ ‬وغير‭ ‬قصصية‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الإجمال‭ ‬جديرة‭ ‬بالالتفات‭ ‬والترجمة‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬دور‭ ‬النشر‭ ‬بدلًا‭ ‬من‭ ‬التنقيب‭ ‬فى‭ ‬مقالب‭ ‬الخردة‭ ‬الأدبية‭.‬

***

يلاحظ‭ ‬ميشائل‭ ‬مار‭ ‬فى‭ ‬كتابه‭ ‬أن‭ ‬دراسة‭ ‬تشيتسرتون‭ ‬عن‭ ‬قصة‭ ‬اد‭. ‬جيكل‭ ‬ومستر‭ ‬هايدبلستيفنسون‭ ‬نبعت‭ ‬من‭ ‬تجربة‭ ‬شخصية‭ ‬مُعاشة،‭ ‬حيث‭ ‬تحيلنا‭ ‬القصة‭ ‬إلى‭ ‬رجل‭ ‬يكتشف‭ ‬أنه‭ ‬شخصان،‭ ‬أو‭ ‬بالأحرى‭ ‬عن‭ ‬رجلين‭ ‬يكتشفان‭ ‬أنهما‭ ‬شخص‭ ‬واحد،‭ ‬كما‭ ‬يلمّح‭ ‬الناقد‭ ‬الألمانى‭ ‬إلى‭ ‬فكرة‭ ‬انقسام‭ ‬الأنا‭ ‬إلى‭ ‬رأسين‭ ‬يواجهان‭ ‬بعضهما‭ ‬البعض‭ ‬فى‭ ‬أعمال‭ ‬تيشتسرتون،‭ ‬الكاثوليكى‭ ‬الورِع،‭ ‬واليمينى‭ ‬المحافظ‭ ‬الذى‭ ‬يُخفى‭ ‬بداخله‭ ‬الشيطان‭ ‬الآثم‭.‬يقول‭ ‬مار‭:‬ب‭ ‬ولغاية‭ ‬يومنا‭ ‬هذا‭ ‬لم‭ ‬نعرف‭ ‬بالضبط‭ ‬طبيعة‭ ‬هذا‭ ‬الشىء‭ ‬الشرير‭ ‬الذى‭ ‬كان‭ ‬يجذب‭ ‬تشستيرتون‭ ‬ويجعله‭ ‬ينظر‭ ‬إلى‭ ‬الهاويةب،‭ ‬وربما‭ ‬هذاذ‭ ‬فى‭ ‬اعتقادي‭- ‬هو‭ ‬ما‭ ‬دفع‭ ‬مار‭ ‬لأن‭ ‬يعنون‭ ‬مقالته‭ ‬الممتازة‭ ‬بعنوانب‭ ‬تشستيرتون‭: ‬الرجل‭ ‬الذى‭ ‬كان‭ ‬الأحدب،‭ ‬وكأنه‭ ‬يقصد‭ ‬الوجه‭ ‬الآخر‭ ‬لـتيشتسرتون،وسنفهم‭ ‬دلالة‭ ‬االأحدب‭ ‬لاحقًا‭. ‬

دفعتنى‭ ‬هذه‭ ‬العبارة‭ ‬الغامضة‭ ‬إلى‭ ‬التفتيش‭ ‬عما‭ ‬وراء‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭. ‬ثمّة‭ ‬أفكار‭ ‬فلسفية‭ ‬ودينية‭ ‬عميقةبربماب‭ ‬كانت‭ ‬ثمرة‭ ‬تجربة‭ ‬شخصية‭ ‬أليمة‭ ‬أخفاها‭ ‬تشستيرتون‭ ‬داخل‭ ‬ثنايا‭ ‬روايته‭ ‬ببراعة‭ ‬شديدة،‭ ‬ولا‭ ‬تخلو‭ ‬مقالة‭ ‬مار‭ ‬فى‭ ‬كتابه‭ ‬من‭ ‬إشارات‭ ‬إلى‭ ‬تلك‭ ‬المسألة‭.‬محور‭ ‬الأحداث‭ ‬عن‭ ‬حوار‭ ‬بين‭ ‬شاعريْن‭ ‬من‭ ‬لندن‭. ‬جابريل‭ ‬سايم‭ ‬ولوسيان‭ ‬جريجورى‭ ‬يتجادلان‭ ‬حول‭ ‬مفهوم‭ ‬الفوضوية،‭ ‬ونعرف‭ ‬عبر‭ ‬الحوار‭ ‬إنشاء‭ ‬حزب‭ ‬سرّى‭ ‬فوضوى‭ ‬يرمى‭ ‬إلى‭ ‬العنف‭ ‬والتدمير‭ ‬والاغتيالات‭. ‬على‭ ‬رأس‭ ‬التنظيم‭ ‬رجل‭ ‬غامض‭ ‬اسم‭ ‬الأحد‭. ‬تتقدم‭ ‬الأحداث‭ ‬فى‭ ‬جوّ‭ ‬كابوسى‭ ‬ويتصارع‭ ‬أعضاء‭ ‬الحزب‭ ‬ضد‭ ‬بعضهم‭ ‬البعض،‭ ‬يُطرد‭ ‬أحدهم‭ ‬بتهمة‭ ‬التجسس‭ ‬لصالح‭ ‬الشرطة،‭ ‬وبمواصلة‭ ‬القراءة‭ ‬نكتشف‭ ‬مفاجأة‭ ‬مدويّة،أنّ‭ ‬الأعضاء‭ ‬الستّة‭ ‬مجرد‭ ‬حفنة‭ ‬مغفّلين‭ ‬تتلاعب‭ ‬بهم‭ ‬يـد‭ ‬خفيّة،‭ ‬الرجل‭ ‬الذى‭ ‬كان‭ ‬الأحد‭. ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬الإطار‭ ‬الشكلى‭ ‬للرواية‭. ‬قصة‭ ‬بوليسية‭ ‬قوية‭ ‬الحبكة‭ ‬لا‭ ‬تخلو‭ ‬من‭ ‬كوميديا‭ ‬سوداء‭ ‬وكابوسية‭ ‬واضحة،‭ ‬شهد‭ ‬لها‭ ‬وتأثّر‭ ‬بها‭ ‬فرانتس‭ ‬كافكا‭ ‬شخصيًا،ولا‭ ‬بأس‭ ‬إن‭ ‬أخذها‭ ‬قارىء‭ ‬عادى‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬المحمل،‭ ‬أقصد‭ ‬باعتبارها‭ ‬قصة‭ ‬بوليسية‭ ‬أو‭ ‬حدوتة‭ ‬خيالية‭ ‬أو‭ ‬هراء‭ ‬متاهة‭ ‬قوطية‭ ‬على‭ ‬رأى‭ ‬مصطفى‭ ‬ذكرى‭. ‬

السرّ‭ ‬المهم‭ ‬فى‭ ‬اعتقادى‭ ‬يكمن‭ ‬فى‭ ‬شخصية‭ ‬الأحد‭. ‬ويتأكد‭ ‬هذا‭ ‬الاعتقاد‭ ‬حينما‭ ‬نقترب‭ ‬من‭ ‬نهاية‭ ‬الرواية،‭ ‬وتحديدًا‭ ‬بداية‭ ‬من‭ ‬الصفحات‭ ‬209‭ ‬من‭ ‬الترجمة‭ ‬العربية،‭ ‬حينما‭ ‬يشرح‭ ‬كل‭ ‬عضو‭ ‬من‭ ‬الأعضاء‭ ‬الستة‭ ‬المُغفَّــلين‭ ‬كيف‭ ‬يرى‭ ‬الأحد‭ ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬نظره‭. ‬

الأحد‭ ‬سؤال‭ ‬أزلى‭ ‬بلا‭ ‬جواب،‭ ‬لا‭ ‬أحد‭ ‬بقادر‭ ‬عن‭ ‬تحديد‭ ‬كنهه‭ ‬ولا‭ ‬طبيعته‭ ‬ولا‭ ‬سـرّه‭. ‬يقول‭ ‬سايم‭ ‬مثلًا‭:‬ب‭ ‬كل‭ ‬رجل‭ ‬منكم‭ ‬يرى‭ ‬الأحد‭ ‬بشكل‭ ‬مختلف‭ ‬تمامًا‭ ‬عن‭ ‬الآخرين،‭ ‬ومن‭ ‬ذلك‭ ‬فكل‭ ‬رجل‭ ‬منكن‭ ‬لا‭ ‬يمكنه‭ ‬سوى‭ ‬إيجاد‭ ‬شىء‭ ‬واحد‭ ‬لمقارنته‭ ‬به‭ ‬ذ‭ ‬الكون‭ ‬نفسه‭. ‬يراه‭ ‬باول‭ ‬كالأرض‭ ‬فى‭ ‬الربيع،‭ ‬وجوجول‭ ‬كالشمس،‭ ‬والسكرتير‭ ‬بالبروتوبلازم‭ ‬عديم‭ ‬الشكل،‭ ‬وهكذا‭. ‬هناك‭ ‬من‭ ‬رآه‭ ‬فى‭ ‬غاية‭ ‬الجمال‭ ‬والنقاء،‭ ‬وهناك‭ ‬من‭ ‬رآه‭ ‬فى‭ ‬غاية‭ ‬البشاعة‭ ‬والشرّ‭. ‬يقول‭ ‬أحدهم‭:‬ب‭ ‬كنتُ‭ ‬متيقنًا‭ ‬أنه‭ ‬حيوان،‭ ‬وعندما‭ ‬أدركته‭ ‬من‭ ‬المقدمة‭ ‬أدركتُ‭ ‬أنه‭ ‬إلـهب‭. ‬هو‭ ‬الإله‭ ‬ابانب‭ [‬إله‭ ‬المراعى‭ ‬والصيد‭ ‬البرى‭ ‬بقرون‭ ‬وأرجل‭ ‬ماعز‭ ‬فى‭ ‬الأساطير‭ ‬الإغريقية‭].‬

***

‭ ‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬كارل‭ ‬جوستاف‭ ‬يونج‭ ‬قد‭ ‬قرأ‭ ‬الرواية‭ ‬المنشورة‭ ‬للمرة‭ ‬الأولى‭ ‬سنة‭ ‬1908‭ ‬أم‭ ‬لا،‭ ‬ففى‭ ‬االكتاب‭ ‬الأحمربالمكتوب‭ ‬فى‭ ‬منتصف‭ ‬العشرينيات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬إشارة‭ ‬إلى‭ ‬شخصية‭ ‬تنطبق‭ ‬عليها‭ ‬صفات‭ ‬الأحد‭ ‬بحذافيرها‭(‬راجع‭ ‬الصفحات‭ ‬الأخيرة‭ ‬من‭ ‬الكتاب‭ ‬الأحمر‭ ‬المُترجم‭ ‬إلى‭ ‬العربيةذ‭ ‬دار‭ ‬الحوار‭ ‬2015‭)‬،‭ ‬أقصد‭ ‬أبراكساس،‭ ‬الكيان‭ ‬الذي‭ ‬أشار‭ ‬إليه‭ ‬هيرمان‭ ‬هسّه‭ ‬فى‭ ‬رواية‭ ‬ادميانب‭.‬

يقول‭ ‬يونج‭:‬ب‭ ‬أبراكساس‭ ‬كائن‭ ‬لا‭ ‬تحيط‭ ‬به‭ ‬المدارك،‭ ‬كائن‭ ‬مجلّل‭ ‬بالغموض‭ ‬أبراكساس‭ ‬هـو‭ ‬نبع‭ ‬الخير‭ ‬وهو‭ ‬أصل‭ ‬الشر،‭ ‬هـو‭ ‬النور‭ ‬الأشـدّ‭ ‬سطوعًا‭ ‬فى‭ ‬النهار،‭ ‬وهـو‭ ‬الليل‭ ‬الأحلك‭ ‬ظُلمة،‭ ‬جبّار‭ ‬كأسد‭ ‬يفترس‭ ‬ضحيته،‭ ‬أبراكساس‭ ‬لـيّن‭ ‬كيوم‭ ‬من‭ ‬أيام‭ ‬الربيع‭ ‬أبراكساس‭ ‬عظيم‭ ‬كالإلـه‭ ‬ابانب‭. ‬هنا‭ ‬أيضًا‭ ‬يتسخدم‭ ‬يونج،‭ ‬كما‭ ‬فعل‭ ‬تشيتسرتون،‭ ‬استعارة‭ ‬الإله‭ ‬الإغريقى‭ ‬ابانبفى‭ ‬محاولته‭ ‬لتجسيد‭ ‬الأحد‭ ‬أو‭ ‬أبراكساس‭. ‬الألفاظ‭ ‬نفسها‭ ‬والنعوت‭ ‬ذاتها‭ ‬التى‭ ‬استخدمها‭ ‬يونج‭ ‬لوصف‭ ‬أبراكساسس‭ ‬الُمجلل‭ ‬بالغموض،‭ ‬استخدمها‭ ‬قبله‭ ‬تشستيرتون‭ ‬فى‭ ‬وصف‭ ‬الأحد،‭ ‬زعيم‭ ‬التنظيم‭ ‬الفوضوى،‭ ‬ويُمكن‭ ‬للقارىء‭ ‬الرجوع‭ ‬إلى‭ ‬رواية‭ ‬دميان‭ ‬لهيرمان‭ ‬هسّه‭ ‬ليعثر‭ ‬على‭ ‬وصف‭ ‬مماثل‭ ‬لشخصية‭ ‬أبراكساس‭.‬كان‭ ‬أبراكساس‭ ‬يمثل‭ ‬اتحادًا‭ ‬بين‭ ‬الإله‭ ‬المسيحى‭ ‬والشيطان‭ ‬فى‭ ‬رأى‭ ‬يونج،‭ ‬بينما‭ ‬أذهبُ‭ ‬أنا‭ ‬إلى‭ ‬تأويل‭ ‬شخصية‭ ‬أبراكساس‭ ‬عند‭ ‬يونج‭ ‬والأحد‭ ‬عند‭ ‬تشيتسرتون‭ ‬بأنه‭ ‬نمط‭ ‬فطرى‭ ‬أو‭ ‬Archetype،‭ ‬صورة‭ ‬رمزية‭ ‬للنفس‭ ‬البشرية‭ ‬التى‭ ‬تنطوى‭ ‬على‭ ‬البـرّ‭ ‬والفجور‭ ‬والطهارة‭ ‬والقذارة‭ ‬والحب‭ ‬والكره‭ ‬والوفاء‭ ‬والخيانة‭ ‬والظلمات‭ ‬والنور‭ ‬فى‭ ‬آن‭ ‬واحد،‭ ‬هى‭ ‬النفس‭ ‬الذى‭ ‬ينبغى‭ ‬للإنسان‭ ‬أن‭ ‬يحسب‭ ‬حسابها‭ ‬ألف‭ ‬مرة‭.‬

ثمّة‭ ‬تفسيرات‭ ‬تذهب‭ ‬إلى‭ ‬القول‭ ‬بأن‭ ‬الأحد‭ ‬فى‭ ‬الرواية‭ ‬رمز‭ ‬للرحمن‭ ‬والشيطان‭ ‬فى‭ ‬آن،‭ ‬والحقيقة‭ ‬أننى‭ ‬لا‭ ‬أؤيدها‭ ‬لسببيْن،‭ ‬الأول‭ ‬وجاهة‭ ‬كلام‭ ‬ميشائيل‭ ‬مار‭ ‬فى‭ ‬رفض‭ ‬تشستيرتون‭ ‬للتصور‭ ‬الصوفى‭ ‬الباطنى‭ ‬عن‭ ‬الإله،‭ ‬فهو‭ ‬ككاثوليكى‭ ‬متدين‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬الله‭ ‬مفارق‭ ‬متسامٍ‭ ‬لا‭ ‬يُمكن‭ ‬التحكم‭ ‬فيه‭ (‬فهود‭ ‬فى‭ ‬المعبد،‭ ‬مصدر‭ ‬سابق،‭ ‬ص‭ ‬132‭)‬،‭ ‬أى‭ ‬أنه‭ ‬ليس‭ ‬إلهاً‭ ‬حلوليًا،‭ ‬والسبب‭ ‬الثانى‭ ‬فنى‭ ‬محض،‭ ‬فمن‭ ‬السهولة‭ ‬بمكان‭ ‬تشفير‭ ‬المقدسات‭ ‬فى‭ ‬صورة‭ ‬رمزية،‭ ‬لكن‭ ‬الصعوبة‭ ‬أو‭ ‬الأصالة‭ ‬كامنة‭ ‬فى‭ ‬قدرة‭ ‬الكاتب‭ ‬على‭ ‬حملكَ‭ ‬كقارىء‭ ‬لا‭ ‬إلى‭ ‬التفكير‭ ‬فى‭ ‬أن‭ ‬الإنسان‭ ‬مزيج‭ ‬من‭ ‬الخير‭ ‬والشرّ،‭ ‬فهى‭ ‬فكرة‭ ‬قديمة‭ ‬بالية‭ ‬شبعتْ‭ ‬معالجة،‭ ‬بل‭ ‬فى‭ ‬فكرة‭ ‬ألا‭ ‬تحكم‭ ‬على‭ ‬الأشياء،‭ ‬وأنك‭ ‬طَوال‭ ‬حياتك‭ ‬لن‭ ‬تستطيع‭ ‬أن‭ ‬تميّز‭ ‬بين‭ ‬الخير‭ ‬والشر،‭ ‬فى‭ ‬وسعكَ‭ ‬فقط‭ ‬أن‭ ‬تختار‭ ‬طريقك‭ ‬وأن‭ ‬تتحمل‭ ‬بشجاعة‭ ‬تبعات‭ ‬اختيارك‭. ‬

فإذا‭ ‬عُدنا‭ ‬إلى‭ ‬الرواية‭ ‬يبرز‭ ‬سؤال‭ ‬مهم‭:‬هل‭ ‬استطاع‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬أبطال‭ ‬الرواية‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬قرار‭ ‬باتٍ‭ ‬بشأن‭ ‬سـرّ‭ ‬الأحد‭ ‬وحقيقته؟‭ ‬قولًا‭ ‬واحدًا‭: ‬لا‭.‬فالجميع‭ ‬حائر‭ ‬بين‭ ‬وصف‭ ‬الأحد‭ ‬بالجمال‭ ‬أو‭ ‬القبح‭ ‬وبين‭ ‬وصمه‭ ‬بالخير‭ ‬أو‭ ‬الشر‭ ‬أو‭ ‬نسبته‭ ‬إلى‭ ‬الشيطان‭ ‬أو‭ ‬الرحمن‭. ‬الحقيقة‭ ‬أن‭ ‬البطلسايم‭ ‬كان‭ ‬واعيًا‭ ‬بالمعضلة،‭ ‬إذ‭ ‬قال‭ ‬إلى‭ ‬الأحد‭:‬ب‭ ‬أبداً‭ ‬لم‭ ‬أبغضك‭..‬هل‭ ‬لى‭ ‬أن‭ ‬أخبركم‭ ‬بسر‭ ‬العالم‭ ‬بأكمله؟إن‭ ‬الحقيقة‭ ‬أننا‭ ‬لم‭ ‬نعرف‭ ‬سوى‭ ‬ظَـهـر‭ ‬العالم،‭ ‬نرى‭ ‬كل‭ ‬شىء‭ ‬من‭ ‬الخلف‭ ‬ويبدو‭ ‬وحشياً،‭ ‬ألا‭ ‬ترون‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬شىء‭ ‬ينحنى‭ ‬ويخفى‭ ‬وجهاً؟ب‭.‬

لكل‭ ‬شىء‭ ‬ظاهر‭ ‬وباطن،‭ ‬الاكتمال‭ ‬بحسب‭ ‬يونج‭ ‬هـو‭ ‬قبول‭ ‬النفس‭ ‬بكليتها‭.‬الأحد‭ ‬نفسه‭ ‬معذب‭ ‬بعذابات‭ ‬أزلية،‭ ‬فى‭ ‬الصفحة‭ ‬الأخيرة‭ ‬من‭ ‬الرواية‭ ‬يقول‭ ‬الأحد‭:‬ب‭ ‬هل‭ ‬عرِفتَ‭ ‬المعاناة‭ ‬من‭ ‬قبل؟‭ ‬هل‭ ‬يمكنك‭ ‬أن‭ ‬تشرب‭ ‬من‭ ‬الكأس‭ ‬الذى‭ ‬أشرب‭ ‬منه؟بأية‭ ‬معاناة‭ ‬وأية‭ ‬كأس‭ ‬كان‭ ‬يقصدها‭ ‬الأحد‭/‬تشستيرتون؟‭ ‬الحرية‭ ‬الممنوحة؟‭ ‬الأمانة‭ ‬المعروضة؟

***

أفكّر‭ ‬أحيانًا‭ ‬فى‭ ‬أعمال‭ ‬أدبية‭ ‬عظيمة‭ ‬تناولت‭ ‬فكرة‭ ‬الشرّ‭ ‬والخير‭ ‬تناولًا‭ ‬فنيًا‭ ‬عاليًا‭. ‬أفكّر‭ ‬فى‭ ‬الأب‭ ‬فيودور‭ ‬كارامازوف‭ ‬فى‭ ‬رواية‭ ‬دوستويفسكي‭ ‬وحواراته‭ ‬مع‭ ‬الأب‭ ‬الراهب،التى‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تخلو‭ ‬من‭ ‬نزعة‭ ‬إيمانية‭ ‬قوية‭ ‬بشرط‭ ‬ألا‭ ‬يحكم‭ ‬عليه‭ ‬أحد،وأفكّر‭ ‬فى‭ ‬ميشيل‭ ‬بطل‭ ‬أندريه‭ ‬جيد‭ ‬فى‭ ‬اللا‭ ‬أخلاقى،‭ ‬وبطل‭ ‬توماس‭ ‬مان‭ ‬فى‭ ‬تونيو‭ ‬كروجر،‭ ‬وبطل‭ ‬هـسّـه‭ ‬سنكلير‭ ‬فى‭ ‬رواية‭ ‬دميان،‭ ‬بل‭ ‬وأقول‭ ‬سعيد‭ ‬مهران‭ ‬فى‭ ‬اللص‭ ‬والكلاب،مجاز‭ ‬الجريمة‭/‬الشرّ‭ ‬يقفز‭ ‬إلى‭ ‬أذهانهم‭ ‬للتعبير‭ ‬عن‭ ‬علاقتهم‭ ‬بالعالم‭. ‬وأظنّ‭ ‬أن‭ ‬المؤلفينذ‭ ‬مثلهم‭ ‬مثل‭ ‬تشستيرتون‭ ‬ووفق‭ ‬إيحاء‭ ‬ميشائيل‭ ‬مار‭-‬كانوا‭ ‬يخفون‭ ‬تجارب‭ ‬دفينة‭ ‬مع‭ ‬الشر،‭ ‬وأنهم‭ ‬ربما‭ ‬اقترفوا‭ ‬شــرًا‭ ‬مـبــرمًـا‭ ‬فى‭ ‬فترة‭ ‬ما‭ ‬فى‭ ‬حياتهم،‭ ‬لكنها‭ ‬أشياء‭ ‬طُويت‭ ‬فى‭ ‬صدورهم‭ ‬إلى‭ ‬الأبد‭ ‬وربما‭ ‬أوقدت‭ ‬تلك‭ ‬المواجهات‭ ‬الخفية‭ ‬مع‭ ‬إبليس‭ ‬وتلك‭ ‬التناقضات‭ ‬وصنوف‭ ‬المعاناة‭ ‬فتيلَ‭ ‬أعمالهم‭ ‬الأدبية‭ ‬العظيمة،‭ ‬وإلا‭ ‬من‭ ‬أين‭ ‬أتى‭ ‬هيرمان‭ ‬هسّه‭ ‬بهذه‭ ‬النوازع‭ ‬الشريرة‭ ‬التى‭ ‬لا‭ ‬تخرج‭ ‬عن‭ ‬مُخيلة‭ ‬روائية‭ ‬بل‭ ‬عن‭ ‬تجربة‭ ‬مُعاشة‭ ‬فى‭ ‬رواية‭ ‬كلاين‭ ‬وفاجنر‭ ‬مثلًا‭ ‬وهو‭ ‬الرومانسي‭ ‬الروحاني؟‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬أين‭ ‬هبطت‭ ‬على‭ ‬رأس‭ ‬ستيفنسون‭ ‬ذى‭ ‬الوجه‭ ‬الوديع‭ ‬الهادىء‭ ‬تلك‭ ‬الفكرة‭ ‬الجهنمية‭ ‬فى‭ ‬دكتور‭ ‬جيكل‭ ‬ومستر‭ ‬هايد؟‭ ‬وعلى‭ ‬رأس‭ ‬يوهان‭ ‬ف‭. ‬جوته‭ ‬فى‭ ‬بعض‭ ‬حوارات‭ ‬الجزء‭ ‬الثانى‭ ‬من‭ ‬مسرحية‭ ‬فاوست؟‭ ‬أيّة‭ ‬شياطين‭ ‬خفية‭ ‬كانوا‭ ‬يحاربون‭ ‬وأية‭ ‬أسرار‭ ‬كانوا‭ ‬يخفون؟‭ ‬

فى‭ ‬مقال‭ ‬قديم‭ ‬نـشره‭ ‬تشستيرتون‭ ‬سنة‭ ‬1902‭ ‬تحت‭ ‬عنوان‭ (‬دفاع‭ ‬عن‭ ‬الهراء‭) ‬أعرب‭ ‬الرجل‭ ‬عن‭ ‬اعتقاده‭ ‬أن‭ ‬الأدب‭ ‬ينبغى‭ ‬ألا‭ ‬يخلو‭ ‬من‭ ‬قدرة‭ ‬على‭ ‬قول‭ ‬الكلام‭ ‬الفارغ‭ ‬ومقدرة‭ ‬على‭ ‬إبراز‭ ‬الشـرّ،‭ ‬وارتأيتُ‭ ‬نقل‭ ‬الفقرة‭ ‬التالية‭ ‬لما‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬قيمة‭ ‬جديرة‭ ‬بالإضاءة‭: ‬

(‬إن‭ ‬كل‭ ‬أدب‭ ‬عظيم‭ ‬هو‭ ‬فى‭ ‬حقيقته‭ ‬أدب‭ ‬مجازى‭ ‬رمزي؛‭ ‬مجازى‭ ‬رمزى‭ ‬لبعض‭ ‬وجهات‭ ‬النظر‭ ‬إزاء‭ ‬الكون‭. ‬فالإلياذة‭ ‬عمل‭ ‬عظيم‭ ‬لأن‭ ‬الحياة‭ ‬كلها‭ ‬معركة،‭ ‬والأوديسة‭ ‬عمل‭ ‬عظيم‭ ‬لأن‭ ‬الحياة‭ ‬كلها‭ ‬رحلة‭ ‬،‭ ‬وسِفر‭ ‬أيوب‭ ‬عمل‭ ‬عظيم‭ ‬لأن‭ ‬الحياة‭ ‬كلها‭ ‬لغز‭. ‬قد‭ ‬نصادف‭ ‬موقفًا‭ ‬نشعر‭ ‬فيه‭ ‬بإمكانية‭ ‬اختزال‭ ‬الوجود‭ ‬فى‭ ‬كلمة‭ ‬اأشباحب،‭ ‬ونصادف‭ ‬موقفًا‭ ‬آخر‭ - ‬ربما‭ ‬أحسن‭ ‬حالًا‭- ‬نشعر‭ ‬فيه‭ ‬بإمكانية‭ ‬اختزال‭ ‬الوجود‭ ‬فى‭ ‬كلمة‭ ‬احُلم‭ ‬ليلة‭ ‬صيفبوحتى‭ ‬أشد‭ ‬ألوان‭ ‬الدراما‭ ‬إغراقًا‭ ‬فى‭ ‬الابتذال‭ ‬أو‭ ‬أتفه‭ ‬القصص‭ ‬البوليسية‭ ‬ربما‭ ‬لا‭ ‬تخلو‭ ‬من‭ ‬جودة‭ ‬لو‭ ‬أنها‭ ‬عبّرت‭ ‬عن‭ ‬شىء‭ ‬من‭ ‬المتعة‭ [‬الفنية‭] ‬فى‭ ‬توقعاتها‭ ‬الشريرة‭ ‬الغامضة‭. ‬يجب‭ ‬ألا‭ ‬تكون‭ ‬الدنيا‭ ‬مأساوية‭ ‬أو‭ ‬رومانسية‭ ‬أو‭ ‬دينية‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬ينبغى‭ ‬ألا‭ ‬تخلو‭ ‬من‭ ‬الهُراء‭. ‬الحقيقة‭ ‬أن‭ ‬لكل‭ ‬شىء‭ ‬وجهه‭ ‬الآخر،‭ ‬كالقمر‭:(