كتب :د. محمد سليم شوشة
فى رواية االغميضة للروائى المصرى وليد علاء الدين الصادرة حديثا 2020 عن دار الشروق نلمح عددا من السمات التى تؤكد خصوصية الصوت السردى لديه وتميزه، كما تبرز قدر جموحه الفنى وطموحه لأن ينتج إبداعا مغايرا وأنه محكوم فى بنية الشكل الروائى بالقيمة الدلالية والجماليات وأنه لا يدخل للنوع الأدبى من البداية وقد حاصرته التقاليد الفنية وحجّمته، بل هو من يقدر على زحزحتها وإعادة ترسيمها وفق مخيلته وقدراته السردية المتجاوزة.
رواية االغميضة هى واحدة من أبرز الروايات التى تعتمد على الرمز والتكثيف وتبقى حافلة بالقيم الدلالية المهمة، فضلا عما تصطنع لنفسها من إمكانات التشويق والإفادة من تداخل الفنون الأدبية الأخرى. الرواية التى تتقاطع تماما مع فن المسرح بل تتجاوز التقاطع إلى أن تسترفده تماما فى سيطرة تامة عليه، لتكتسب منه أبرز ما فيه من التوتر الدرامى واستغلال الحشود والكثافة وثبات المكان ووحدة الحدث، لتكون واحدة من أبرز التجارب السردية الشجاعة، وتمثل مغامرة فنية محسوبة وملعوبة بقدر من الرشاقة والمقدرة اللغوية والتخييلية الممتازة.تلتكون الرواية وفق هذا الشكل قد عرفت بدقة ما الذى تحتاجه من الشكل المسرحى وبخاصة الطابع الدرامى الجدلى والذهنى المناسبة للأفكار والقيم الدلالية التى اتجهت الرواية إلى مقاربتها. وأبرزها فكرة تلون الخلق واصطباغهم بأفكار يتكسبون منها أو حتى وطأة المرض النفسى كما يتضح عند المتطرفين الذين هم وفق طرح الرواية حالة مرضية تأخذ شكلا جماعيا أو مظلة جماعية. والقضية الأهم فى الرواية وهى الخاصة بالرجعية الدينية وما تحاول أن تفرضه على المجتمع من تصوراتها الأخلاقية المزيفة. وفيما يخص هذه الأخيرة فإن رواية الغميضة هى واحدة من أكثر الروايات جرأة فى مقاربة الرجعية، وفق طرح فنى خاص، وفى إطار لغة جامحة وصريحة تعلى من أهميتها.
٪ ٪ ٪
تركز الرواية على شخصيتين هما محور العمل، وهما الولد والبنت اللذان تربيا مع بعضهما فى حارة واحدة أو هكذا يفترض بهما وفق لعبة المسرح الجديد التى ينغمس فيها الخطاب الروائى. الطفل وحبيبته ابنة الجيران، أو البنت وحبيبها، يلعبان معا من الطفولة ويكتشفان بالتدريج أن الحياة كلها مغامرة ولعبة كبيرة من ألعاب التخفى والحيل التى لا تنتهى. فى الحقيقة أن ما يخلصان إليه ليس مجرد قرار أو فكرة بسيطة يعرفانها أو يكتشفانها عن الحياة؛ لأن اكتشافاتهما تبدو بلا نهاية فهى لم تنقطع منذ أول اللعب وحتى نهاية الرواية، وأن ألعاب الخديعة والتنكر والتخفى والتلاعب بالمشاعر وخداع الجماهير لا تنتهى، فى شكل متواليات نهائية تجعل أفق العمل مفتوحا على المطلق وتجعله أكثر تشويقا، فضلا عن شعريته لأنه يتطابق مع جوهر الحياة من فكرة انفتاحها على الغرابة والعجائبية باستمرار.
ما الذى أفادته الرواية من الشكل المسرحى واتكائها عليه؟ الحقيقة هناك نواتج جمالية عديدة لهذا التكنيك السردى، أولها وحدة العمل وتماسكه، وتجاوزه لنمطية الحكايات ورتابتها، وثانيها السماح بالتمدد الشعرى للغة النص، وإعطاء مجال أرحب لتقاطع الأصوات وتعددها وجعل البوليفونية هى السمة الأبرز للرواية وليس الموضوع، نعم الرواية بذاتها قادرة على تجسيد التنوع وتعدد الأصوات، لكن المسرح يبقى هو الأساس للشكل الحوارى والجدلى، لأنه فن الكلام والعرض والحوار فيه أكثر من غيره من الأنواع الأدبية. سمح الشكل المسرحى كذلك بمساحة لمنطق الفرجة فى الرواية وحشد عدد كبير من الشخصيات فى فضاء مكانى محدود، فجعل الرواية متجاوزة للحدود المكانية المعتادة مثل الحارة أو المقهى أو المنزل، بل تتلون الأماكن بألوان عديدة مستفيدة من مرونة خشبة المسرح وقابليتها للتشكل بتشكلات عديدة.
منح الشكل المسرحى فى الرواية مرونة فى كافة العناصر بما فيها التخييل الذى أفاد من حالة اللعب المسرحى وتواطؤ المتلقى وتبدلت الشخصيات وكانت قادرة على تجاوز حدود العمر أو الصفات، فكانت الشخصيات الروائية ذاتها تتبادل مع بعضها المواقع والمواقف وتعيش حالا من الحلول فى بعضها إذا اقتضت الرواية ذلك. كما هناك النمط التعبيرى أيضا الذى هو أساس المسرح، فالرواية فى شكلها الكلاسيكى تقارب الحقيقى والواقعى أما جعل المسرح قالبا داخليا لها فقد مكنها من تجاوز الحرفية الدلالية إلى أطر تعبيرية أرحب. فلا نكون أمام قصة واقعية أو حقيقية عن حب ينجح أو يفشل أو نكون أمام قصة تنويرية أو مناظرة فعلية عن النقاب بقدر ما نكون أمام لوحة فنية مشحونة ومنمنة من تفاصيل تعبيرية تقارب إطار وضعا عاما أكثر من كونها تناقش قضية بعينها.
فى الرواية حالات من الكوميديا أو السخرية وحالات من الصراع والشد والجذب الذى يجعلها على قدر كبير من التشويق والمتعة، كما فيها تنوع فى لغة السرد بين العامية واللغة التداولية وبين اللغة الفصحى التى قد تبلغ حدا من الشعرية فى بعض المواضع، وتتناغم هذه المستويات المختلفة للغة السرد بما يصنع تنوعا كبيرا وكسرا للرتابة، وتصنع إيقاعا خاصا من تفاعل العامية برشاقتها وسرعتها مع الفصحى بطابعها التعبيرى والتأملى والإطارى أو الخارجى. وفى الرواية كذلك فوائد معرفية مهمة تفيدها من الجانب التاريخى الذى يعود إلى تاريخ الملابس فى العصر المملوكى وتعاضد السلطتين السياسية والدينية مع بعضهما لتحديد الملابس أو تغييرها وتجميدها أو منع تطويرها أحيانا بدوافع اقتصادية تأخذ تغليفا دينيا فى الغالب. وهو ما يجعل الرواية قادرة على أن تجعل الماضى والحاضر يتخاطبان أو يسقط أحدهما على الآخر أو يكون أحدهما مرآة للآخر. كما تنفتح تاريخيا أيضا على ألف ليلة وليلة والسرد الشفاهى القديم وتفيد من فنون أخرى وهكذا تطرح نموذجا روائيا مختلفا يرى الرواية فنا أكثر رحابة من المعتاد أو الشكل التقليدى المألوف، والحقيقة أن لعبة السرد بذاتها مشوقة وتمثل إضافة إلى عالم الرواية وألعابها ويكمل المتلقى أحيانا فى القراءة ويستمر ليستطلع حدود هذه اللعبة السردية بالضبط مثلما يمكن أن يكون مشدودا للأحداث أو للصراع الدائر بين أطرافها أو يستكشف تحولات الحياة.
٪ ٪ ٪
وفى الرواية أيضا توظيف مبهر لتقنية الأحلام، حيث يبدو الحلم أحيانا اختياريا وله تشكل خاص وفق أهداف فن المسرح الذى يمثل إطارا داخليا، فيكون الحلم شكلا مصطنعا وليس الحالة الحقيقية من الرؤية فى النوم كما يحدث فى حالات فنية أخرى بدون هذه التقنية. وبعض الأحلام تستمد الروح ذاتها التى فى ألف ليلة وليلة أو الصورة التراثية التى تصنع حالا من التصادى أو التجاوب الشعرى مع الوحدة التراثية السابقة فيكون هناك تناغم كبير فى النسيج السردى للرواية، وهكذا تكون الرواية قد جمعت بين سحرية ألعاب الأطفال وعوالمهم الغرائبية مع سحرية وغرابة التاريخ أو بعض المكونات التراثية والشفاهية فى ألف ليلة وليلة أو العصر المملوكى بالإضافة إلى سحرية الأحلام وغرابتها، وكل هذا فى إطار يجمع بين الحاضر بإشكالياته وعصريته مع القديم بإشكالياته وقضاياه وأسئلته، فيتوافر فى نسيجها ويجتمع توظيف التكنولوجيا وحروب الشات أو الدردشة الإلكترونية فى وسائل التواصل الاجتماعى مع عصر الأسواق القديمة والجوارى وبيع النساء والاعتداء عليهن أو انتهاك حرياتهن بوسائل شتى أغلبها يرتبط بالرجعية الدينية سواء على مستوى الجوهر أو المظهر. والرواية فيها بقدر وضوحها مساحات كثيرة من الرمزية والتلميح والانتفاح الدلالى، وبخاصة فى تعبيرية الشخوص وتشكيلاتهم وحركتهم فى المسرح الذى هو حدود العالم وفضاؤه، ومثال ذلك أن من حركة الشخصيات نلمس مثلا أن الرجعية الدينية تلبست بحال من الجماعية أو التعضيد والهتاف الجمعى، فى حين مثل التنوير طاقة فردية كما هو شأن السيد (س) فى تحركاته وردوده التى لا تحتاج للشحن والتحفيز والهتاف كما هو الأمر فى حالة الشيخ وائل المتطرف الذى يبدو فى الرواية حالة مركبة وفريدة فى تكوينه المتجذر بالتناقضات والتذبذب، وهو ما أسلمه للتطرف والجهل.
وهكذا فإن هذه الرواية على محدودية فضائها السردى الذى يتجاوز مائة صفحة من القطع الصغير تكون قد شكلت حالة خاصة سردية خاصة على قدر متميز من الثراء الجمالى والدلالى ومثلت حراكا فكريا واسعا وتصحب قارئها فى رحلة ممتعة ومحفزة، وتبدو قابلة للنظر والبحث والتأمل فى كثير من من جوانبها.